الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لوركا..الفكاهة في ممازحة الموت

صادق البصري

2010 / 9 / 14
الادب والفن


فيدريكو كارثيا لوركا ..

ولد في 1899بلقرب من غرناطة ،أنتج عددا من الإعمال البارزة في الشعر الغنائي،والدراما ،والنثر ،فيما بين الثامنة عشرة من عمره حتى وفاته 1936 وعمره 37 سنة إذ قتل على يد فرقة الرماة الفاشست في غرناطة ،كان يتمنى أن يموت على قرني ثور – هذا إذا لم يغمد المرء سيفه أولا في قلب الثور ،وككل العباقرة ،كان الاهتمام به قليلا في حياته ، ولكن ترك لنا سلاحا ندافع به عن فكرنا (الإيمان الحديث قد صحا من نومه ليدحض بفخر فناء بلده)هي أغنيته الازليه التي يحيا لأجلها ،ياله من شاعر لقد قضي حياته القصيرة يغني .

في عام 1928كتب لوركا إلى صديقه (خورخيه سلاميا)قائلا : (من حسن الحظ إننا في الخريف وهذا مايلهمني روحا جديدة ،فقد مرت بي فترة سيئة للغاية ،إن علي أن يكون لي خزين من الحبور لكيلا انهار أمام الصراعات التي أخذت تمزقني مؤخرا ،إلا إنني اشتغل ،فبعد إعداد (أغانيي )التي أرجو أن احدد لها موعدا ،سأبدأ شيئا آخر ،إنني ألان بصدد خلق شعر سيسيل كالدم وأنت تقطع رسغك ،شعر يكون قد ودع الواقع ،وكتب بشعور يعكس كل حبي للأشياء واستمتاعي بها .حب الموت والمزاح معا)
وفي محاضرة له أعلن لوركا : على الشاعر أن يحمل معه خريطة للاماكن التي سوف يزورها ،وعليه أن يحتفظ بهدوئه اذاما واجهه الجمال بألف صورة والقبح بألف صورة متنكرا كالجمال ،إذ هي تمر أمام عينيه ،أن عليه أن يعصب عينيه ، مثل يوليسيز أمام الساحرات ،وعليه أن يطلق سهامه عل الاستعارات الحية .لا على الزائفة المتكلفة التي تحيط به .على الشاعر ألا يستسلم بالمرة ،لأنه إن استسلم مرة ،فلن يحرر عمله مرة أخرى .

كتب لوركا عدة دواوين شعرية وكانت الأول إلى ماقبل (قصيدة كانته جوندو) كان أسلوبا شعريا مقهور فيه حنين إلى الماضي أوحى له بجانب منه (خوان رامو خمينيث ) وكانت المواضيع اغلبها شوق مراهق وخيبة أمل .
وشملت هذه الفترة (ديوان شعر) (1921)و(الاغاني الأول)و(ديوان أغنيات )(1921)( 1922
(1924) كان أسلوبه في الكتابة اشد جفافا وأكثر تقلبا وأقرب إلى(( الفجائية ))من أسلوب (خوان رامون خيمينث) وأتباعه من الرمزيين الأسبان .
في قصيدة (كانته جوندو)و (أغاني الغجر)و(الاغاني) يبلغ لوركا أسلوبه الخاص المبني على صهر المواضيع التقليدية الدرامية في استعارات جديدة .كان لوركا في غرام مع الصور الخيالية ويتجلى ذلك في الإبداعات الأسلوبية التي بلغت كمالها في(أغاني الغجر) وكان عليه أن يقع حتما بذلك الغرام فعبادة الصورة الشعرية كانت شائعة لدى التصويريين من الشعراء وهم يتحركون وفق هذا الاتجاه في كثير من مناطق الشعر العالمية وتحديدا في أمريكا الشمالية ((امي لوويل) و(ابولو نير )و(ماكس جاكوب) و(بيرريفردي)والسرياليون الاول ينتجون صورا تتدفق إلى الخارج .وفي اسبانيا وضع (هيراردو دييكو)و(ديلاسيرنا)الصورة موضع اللب من الأسلوب .
كانت الصورة عند هذه النخبة من الشعراء تتمثل بعبارات قصيرة غريبة النزوات ، وصف لوركا هذا الأسلوب الشعري بأنه سطحي وغير محتشم :إنما يمكن أن يكون رقيقا ومحفوفا بالإسرار وهذه نماذج من تلك الصور:

(المضلات السود أرامل يرتدين السواد لرحيل افياء الشمس )
(ولدت النوارس من المناديل الملوحة بالتوديع في الموانئ)
(الشوارع في الليل أطول منها في النهار )
(من هذه النجمة ،كما من نافذة مضاءة ،تأتي أنغام كمان)
(تلك النجمة ،المكتملة الحية ،لم تكن هكذا قبل برهة ، أنها حبلى)
(الخبز البائت كمتحجر ولد حديثا )
(أنهم يلبسون السجناء أردية مخططة بأمل أنهم لن يفروا وهم يرتدون القضبان )
(عندما تمطر ،تتعلق الدموع بأسلاك البرق ،فتجعل البرقيات حزينة )

ونحن نقرأ (أغاني الغجر ) للوركا نجد أحيانا تعابير تذكرنا بتلك الصور إذ تنحو منحى التناقض الظاهري وكمثال على ذلك :

(كانت هناك ثلاثة مسارب للدم
ثم ،مات هناك على جنبه.
كما عاشت طويلا عملة ذهبية لايمكن
أبدا أن يعتاض عنها ثانية)
أو

(ليلة تنتثر فيها تماثيل غير مكتملة
ونجوم بأنوف مكسورة
تنتظر الانفلاق في الفجر
لكي تتساقط شظايا )

رحل لوركا إلى (الأرض الخراب ) حيث المدينة الواسعة كتب هناك (شاعر في نيويورك) بأسلوب ا شتق بعضه من السرياليين الفرنسيين .واستخدمه للتعبير عن الوحدة ،والكرب والتشوش في العلم الحديث .وهذا موضوع أيقظ فيه ،صدى عميقا يستجيب لوحدته وكآبته وحنينه إلى الوطن ، لبث في نيويورك عدة أسابيع ، كان قليل الرغبة في الدراسات الرسمية،فكثيرا ما كان يغادر قاعة الدرس في كولومبيا كان له أن يذهب حيث شاء ،فإذا بقي في نيويورك فما ذلك إلا لكونه وجد فيها مصدرا لاينضب لتجريب جانبي شخصيته المتعاكسين المتكاملين ، المأساوي والمرح ، بل الطائش إن الجانب المأساوي لنيويورك قد أثر في قصيدته (هبوط إلى الجحيم)إن الكثير من الشعراء المحدثين ،ابتدامن (بود لير )،لم يعد بإمكانهم تحقيق هذا الهبوط بصورة عمودية كما فعل (دانتي )و(فرجيل) بل كان عليهم أن يقنعوا برحلة أفقية خلال العلم المحيط بهم ،أو لعه عالم اشد ما يكون غربة وعداء لشخصياتهم ،إذا كان الجحيم ، كما قال (سارتر )هو ((الآخرون)) ابرز في منظر أو ثقافة ،وعلينا أن لاننسى إن لوركا قد جرب الكثير من التجارب العابثة المرحة الغريبة في نيويورك .إذ يذكرنا كرو بردود فعل الشاعر الايجابية نحو الحياة في الولايات المتحدة الأمريكية وإعجابه بجمال المرأة في نيويورك ، وافتتانه بموسيقى الجاز ،واحترامه العميق لتماسك الشخصية الأمريكية ،وفي كل الأحوال قد يكون لوركا مدينا لتجاربه في أمريكا فمن المؤكد مثلا أنها ساهمت في المكانة الرفيعة التي أحاطت بالشاعر حيث إن رحلاته في دول أمريكا اللاتينية قد وطدت شهرته في وطنه إذ حينها كان كل فرد في اسبانيا يستطيع السفر إلى باريس مثلا ولكن السفر إلى أمريكا كان أمرا مختلفا تماما إذ كان النجاح في أمريكا اللاتينية حلم كل ممثل اسباني وكل أديب اسباني .
قال عنه (جون أ.كرو) زميله بالدراسة في جامعة كولومبيا :
لوركا يرى ..إن الاستعارات الجديدة هي لب كل شعر جديد وعماده ، وبما أن معظم المقارنات القديمة قد بليت إطرافها ، فقد كانت فكرة لوركا الرئيسية في الكتابة هي توضيف عبارات لم يسبق استعمالها من قبل .

-- ( إن السبب في أن شهرة بعض الأدباء تدوم وشهرة بعض آخر تضمحل بالتدرج يبدو متشابها في كل الأحوال :فالذي تدوم شهرته هو الذي يستطيع أن يقول لنا شيئا عن الانسان لاعن فكرة تجريدية ذكية عن الانسان ، بل عن الانسان ذاته ، من حيث زمانه ومكانه .إلا إن هذا يتيح لنا بشكل ما نستنتج بعض الاستنتاجات لزماننا ومكاننا ،إن الإمساك بلمحة من شيء دائم وصلب خلال الكلام على ماهو زائل وهش يعتبر انجازا صعبا ، وهذا ما لا يحققه إلا القلة من الفنانين ) .
- كثيرا ما وسم شعر لوركا بأنه عابس ، مرضي ، مأخوذ بالموت ، وهذا التعميم تدحضه (سوزان سميث بلاكبرن )في مقالها الموسوم ب(الفكاهة في مسرحيات فيدريكوكارثيا لوركا) فترينا إن لوركا الدرامي يمتلك إحساسا بالفكاهة متينا ،واستمتاعا بالحياة يستهوي الحواس والعقل ،وهي توازن بين (حب الموت )و(ممازحة الموت )عند لوركا .. وكان ذلك ردا على مقال (البدائية الغنائية :أغاني الغجر للوركا)بقلم خوان لوبيث مورياس ،ورد (دون برليميلين) في مقال (:شعر لوركا المسرحي ) يشير إلى أسلوب لوركا المتين الذي يكتب به (فارصة رومانسية) حيث يرفع موضوعا شبقا فاجرا إلى مستوى الشعر.

من أغنيات لوركا

دع القمر يأتي
لأني لا أريد أن أرى دم

ادع الياسمينات
بنصاعتهن الصغيرة !

أغنية خراب

أيها الحب خذ بيدي
في بيت تحطمت نوافذه
يرخي الدم شعره الطويل
إنا وأنت وحدك نبقى
فلتعد هيكلك العظمي للهوا ء
تبقى أنت وأنا وحدي
فلتعد هيكلك العظمي
أيها الحب عجل ،لم يبق لنا إلا أن نستعجل
البحث غير الحالم عن صورتنا

لقد فتشوا المقاهي ،والمقابر ،والكنائس،
وفتحوا دنان الخمر ،ومكاوي الملابس،
ونهبوا ثلاثة هياكل عظمية ليقتلعوا الذهب من أسنانها
أما إنا فأنهم لم يصادفوني .

أغنية السائرين نياما

أيها الجار ،ياجاري ،دعني أموت كريما في سرير ،وليكن
سريرا من حديد ،ولتكن الأغطية من الكتان ،انظر جرحي الفاغر
من السرة إلى الرقبة.


أغنية الفارس

قرطبة
بعيدة ووحيدة
فرس فاحم السواد وبدر كبير ،
زيتونات في خرجي ،
وبرغم إني اعرف الطرق ،
فلن أجيء إلى قرطبة .
عبر السهل ،وعبر الريح،
فرس فاحم السواد وقمر دموي الحمرة،
ويح الطريق الطويل الطويل
ويح الفرس الشجاع
ويح الموت الذي بانتظاري!
قبل بلوغي قرطبة .
قرطبة
بعيدة ووحيدة .

في تموز1936ترك لوركا مدريد إلى غرناطة .فقد كان الموقف السياسي في العاصمة الاسبانية متوترا بعد مقتل السياسي اليميني كالفو سوتيلو،وكان ثمة انقلاب عسكري يلوح في الأفق لذلك كانت منطقة غرناطة اهدأ، بالإضافة إلى إن لوركا كان ينوي الاحتفال بقديسه القديس فيدر يكو مع عائلته ، بدا التمرد على الجمهورية في 17 تموز في مراكش الاسبانية ،وسرعان ما انتشر في عدد من المناطق الاسبانية ، فلجا لوركا إلى عائلة روسا ليس لصدا فته الحميمة مع الشاعر (لويس روساليس)الذي جعل بيته مقرا لحركة الكتائبيين الأسبان في غرناطة إلا إن ذلك لم يجده نفعا .فبعد فتره قصيرة (في 18 آب ) القي القبض عليه هناك ،وأعدم برصاص الفاشست في فجر اليوم التالي ودفن في قبر لا أثر له، لقد أثار مقتل لوركا موجة من السخط في كل إنحاء العالم .إن ذكرى مصرعه ماتزال عالقة في الأذهان في قرن قاس من الجريمة والعنف آنذاك ، ونمت شهرته سريعا .لقد غدا رمز ا خالدا مؤكدا.

إن ما كتبه لوركا وما كتب عنه متسع الجوانب لايمكن تلخيصه بصفحة وصفحتين من دراسة أو نقد أو استيضاح لجوانب حياة الشاعر المتعددة ولكن بمجرد أن تقرأ سيرة مبدع حينها يشدك الإبداع وعظيم التجربة لتنفجرو تتشظى إبداع حقيقي مر بك وهجه، لتردد ماقرأت بشغف تلك السيرة بأمانة وموضوعية والهدف الجليل من وراء ذلك هي المعرفة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مقالة جيدة شكرا لك
علاء اللامي ( 2010 / 9 / 14 - 06:38 )
مقالة جيدة وخفيفة تبتعد عن الحذلقات النقدية بمقدار اقترابها بكثير من الشفافية من حقيقة الشاعر والطفل المقدس الكبير لوركا وشعره المشع كالمجوهرات الحية


2 - شكرا لك
صادق البصري ( 2010 / 9 / 17 - 14:32 )
شكرا لك علاء اللامي لتفضلك في التعليق هنا تقبل احترامي .


3 - مبدع يا صادق
أحمد عبدالزهرة ( 2010 / 12 / 20 - 19:04 )
الجميل صادق
استمتعت معك في هذه الرحلة التي تخرج من قلمك الذي عاشرته لعقدين وعرفت أنك تحتفظ بإكسير الدهشة فأنت تكتب عن لوركا الذي يقترب بقصائده مع هذه الحياة المحفوفة بالمخاطر والخونة
لازلت جميلا
مقالة أدبية من النوع الفخم فهي تضيف على عكس مانشاهد من كتابات تسرق الوقت لاأكثر

ممتن لروحك


4 - هي اخت الدمعة ولكن نزلت بفرح
صادق البصري ( 2010 / 12 / 20 - 20:07 )
لايسعني في هذا الفضاء الا ان افرد جناحاي على كثيب من محبة تليق بكم واعانق روح شاعر جميل طوته الغربه وروحي تتوق لعناقه طويلا طويلا محبتي لك ياشاعرنا المبدع ،وهاهي الدمعة تنزل ولكن بفرح شكرا لك ودمت محبا.. ا

اخر الافلام

.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس


.. بحضور شيوخ الأزهر والفنانين.. احتفال الكنيسة الإنجيليّة بعيد




.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد


.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد




.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا