الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صندوق البريد رقم 66

عبد الفتاح المطلبي

2010 / 9 / 14
الادب والفن



لم يعد قلب الست فهيمة مطمئنا مثلما كان قبل ذلك اليوم الذي داهم فيه رجال الأمن منزلها عند الساعة الواحدة بعد منتصف تلك الليلة الآذارية، عندما سمعت طرقا شديدا ظنت أن عواصف آذار وراء ذلك الصوت ،اقتحم ستة من الرجال الغبر منزلها قالوا لها نريد ابنك حسن شريف كامل، ثم دون أن تنطق كلمة واحدة أخذوا إبنها الوحيد و ابتلعهم الليل كما تقيأهم ، استمرت في حالة من الصدمة لم تفق منها إلا عندما تعثرت بدكة الباب الذي يفضي إلى داخل الدار ، التهمتها الحيرة و نسيت القواعد و الأصول التي روعيت دائما في بيت المرحوم الحاج شريف كامل عندما وقع نظرها على التلفون الأسود الذي رسم عليه التاج الملكي و لم تتردد في الإتصال بقريبتها أم زكي ضابط الشرطة، و لو كان الوقت غير ملائم،صباح اليوم التالي و في الساعة الحادية عشرةأفرج عن إبنهابعد جهد بذله الرائد زكي، قال له يومها ، إخف نفسك ، لن أضمن الإفراج عنك في المرة القادمة التي ربما تكون غدا أو بعد غد ، جلست الست فهيمة و ابنتها و ابنها في غرفة الجلوس و كان من العسير عليها أن تقرر الموافقة على الحل الوحيد الذي ينقذ إبنها من المصير المعروف الذي أعد للآلاف من الشباب الذين كتب على دفاتر نفوسهم بالقلم الأحمر(حسب الفقرة 4-ب) لكنها وافقت على مضض بعد إن أخبرهم الملازم زكي أن لا حل غير ذلك و أنه مستعد أن يوصله بأمان بسيارته إلى الحدود و هناك سيجد من يدبر الأمر معه ،لذلك لم تنم تلك الليلة بعدإذ ودعته، قال لها تلك الليلة ، انتظري شهر أو شهرين و سأرسل لك خطابا على صندوق بريدنا .
اضطرب البحر و كان تسع و ستون هارب و هاربة من جحيم أوطانهم إلى فراديس مفترضة عبر المحيط الهادي ،كانوا يقبعون في جوف عبارة ماليزية مهترئة لا تصلح لعبورالبحر الأحمر و لكنهم فضلوا المجازفة على تهديد السلطات الماليزية لهم بتسليمهم إلى سفارات بلدانهم إن لم يدفعوا ما ترتأي السلطات أن يدفعوه ،كان حسن يبتلعه البحر وماكان في مخيلته المستسلمة لمصيرها سوى امنيته أن يصل إلى البر الأسترالي ليقذف بخطابه مخطوطا عليه ص.ب 66الى أي صندوق بريد هناك.
حل الخريف ولا زالت شجرة الرمان تنزع أوراقها ورقة بعد أخرى في حديقة بيت الست فهيمه ، وقفت إزاء الشجرة تذكرت تلك الليلة التي غادر فيها حسن تحت خيمة الليل المعتمه، كانت شجرة الرمان تكتسي بلون أخضر زاه و ها هي الآن عارية عن أوراقها حركت قدمها باتجاه الباب الخارجي ، كانت الساعة العاشرة صباحا موعدها في كل مرة للذهاب إلى بناية البريد لتلقي بخطابها في فوهته قبل أن تدخل إلىصالة البريد فقد كان الخطاب لا يحمل عنوانا ، مكتوب عليه إلى ولدي حسن شريف كامل ، كان صندوق استلام الخطابات المرسلة خارج بناية البريد على كتف الرصيف وقبل أن تتجه إلى داخل الصالة تتفقد مفتاح الصندوق ثم تلج الى الصالة ، تفتح الصندوق، تلقي نظرة طويلة إلى داخله ثم تغلقه بهدوء و تغادر،
الخريف يرحل تحت وطأة شتاء بارد و أمطار غزيرة لكن ذلك لم يثن الست فهيمة عن رحلتها المقدسة يوم الخميس، تقف لحظات صمت قرب صندوق استلام البريد المنتصب كشاهدة قبر على كتف الرصيف ، تلقي بخطابها المعتاد في فوهته ثم تدعوالله في سرها أن يحفظ ابنها و تتجه كما في كل مرة الىصندوق بريدها ثم تغلقه بهدوء و تستدير لتمضي إلى بيتها...
اكتست شجرة الرمان في حديقة الست فهيمه بلون أخضر زاه ، كانت الست فهيمه طريحة فراش المرض منذ اسبوع , همست في أذن ابنتها : و البريد؟ من يذهب إلى هناك؟ أظن إنني لا أقوى على ذلك، قالت ابنتها : لا عليك يا أمي سأذهب أنا هذه المرة و سألقي بخطابك إلى الصندوق و أفتح صندوق بريدنا كما تفعلين أنت في كل مرة..
قالت الست فهيمه لا لا .... لا حاجة لذهابك أنت أيضا و أردفت في سرها لم يبق لي غيرك ياابنتي، و بصوت واهن قالت ستتحسن حالتي و أذهب أنا ‘ و على كل حال سوف لن يغادر صندوق البريد هو الآخر.
في تلك الليلة كانت الست فهيمة ترى شبح ابنها حسن و هو يحثها على القدوم إليه و كلما يقترب منها شبح حسن تتوغل في غيبوبتها حتى احتضنته و أطلقت تنهيدة طويلة تصاحبها أنة مكتومة سمعتها ابنتها التي تنام قريبا منها ، و في الصباح لم تعد رحلة الخميس من هموم الست فهيمة، لم تزهر شجرة الرمان و تقصفت أوراق الشجيرات و استحال نبات الثيل إلى لون أصفر باهت ، .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - قصة رائعه وسرد مثير
عبد الوهاب المطلبي ( 2010 / 9 / 14 - 15:40 )
ترق التحايا اليك اخي الشاعر والقاص
مزيدا من الابداع


2 - شكر
عبد الفتاح المطلبي ( 2010 / 9 / 14 - 18:06 )
أشكرك أخي الشاعر المتألق عبد الوهاب المطلبي
دمت لي أخا و شاعرا فذا

اخر الافلام

.. قصيدة الشاعر عمر غصاب راشد بعنوان - يا قومي غزة لن تركع - بص


.. هل الأدب الشعبي اليمني مهدد بسبب الحرب؟




.. الشباب الإيراني يطالب بمعالجة القضايا الاقتصادية والثقافية و


.. كاظم الساهر يفتتح حفله الغنائي بالقاهرة الجديدة بأغنية عيد ا




.. حفل خطوبة هايا كتكت بنت الفنانة أمل رزق علي أدم العربي في ف