الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحلة شاعر عبر التاريخ والشعر

حنان بكير

2010 / 9 / 17
الادب والفن


رحلة شاعر عبر
التاريخ والشعر

" ألحياة الحب والحب الحياة".. عبارة الامبراطور أنطونيو، و ألتي أنطقه اياها الشاعر" أحمد شوقي"، هي عنوان آخر كتاب صدر للشاعر الكبير حسن توفيق.
يطرح الكتاب، كما يشير الشاعر في مقدمته لقضايا أدبية وانسانية ليست جديدة، لكنها تتجدد باستمرار، وأنه ابتعد عن تعقيدات المصطلحات الأدبية والنقدية وصرامة النقد.
ما درج على تسميته السرقات "ألسرقات الأدبية"، هي أولى القضايا التي يطرحها الكتاب، ومنها تتفرع سائر القضايا ألانسانية والاجتماعية... التي تعرّض لها الكاتب بالنقد، بأسلوب طريف متميز.. يبدأ الكتاب باعتقال الشرطة للشاعر عمر بن أبي ربيعة ومحاكمته، بتهمة سرقة ما سبق أن ردده امرؤ القيس.. وفيما بعد يلتقي الشاعر عمر بن أبي ربيعة، بالشاعر نزار قباني، ويهدده بالسيف، مطالبا ايّاه بأن يعتذر عن كتابة قصائد عديدة، تبدو وكأنها مسروقة من شعره.
لكن للكاتب/الشاعر، وجهة نظر أخرى اذ يقول:" .. قد يقع شاعر عربي في اسار تجربة مرّ بها، شاعر سبقه الى الوجود بسنوات، بل بقرون من الزمان، وهنا يتسرع المراقبون قائلين، ان الشاعر اللاحق قد سرق من الشاعر السابق. والحقبقة أن طبيعة حياة الشاعرين، هي التي جعلت تجربة الشاعر الثاني، تبدو تكرار لتجربة الأول... وأن طبيعة التجارب من حيث التماثل والتشابه هي التي تجعلنا نتصور أننا أمام جرائم سرقة"!
وهنا يحضرني قول أحد الشعراء:
خيول تسير على الجادة
فيقع الحافر على الحافر
يرصد الكاتب مطاردات الشعراء الذين يحركون قضاياهم في المحاكم ، ضد شعراء آخرين بتهمة السرقات الأدبية.. ولا يفوت الكاتب ذكر المناسبة التي قيل فيها الشعر، للتأكيد على تشابه الظرف، ألذي قيل فيه الشعر. مثال ذلك..في عام 1919، وخلال الثورة الشعبية في مصر ضد الاحتلال البريطاني، شاهد الشاعر حافظ ابراهيم تظاهرة نسائية. فكتب:
خرج الغواني يحتججن ورحت أرقب جمعهنه
فاذا بهن تخذن من سود الثياب شعارهنه
وفي عام 1960، كتب محمد مهدي الجواهري، ألذي حضر حفلا نسائيا، بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، وقد اختار نفس الوزن والقافية..
حييتهن بعيدهنه من بيضهن وسودهنه
وحمدت شعري أن يروح قلائدا لعقودهنه..
لم تكن عملية رصد هذا التماثل في الشعر، وظروف كتابته بالأمر اليسير، اذ تطلب من الشاعر الارتحال بين مختلف العصور والأزمان، ابتداء من العصر الجاهلي، وانتهاء بيومنا هذا، باحثا ومنقبا، بحسّ الشاعر المتمرّس.
ويورد الكاتب تجربة متشابهة، حدّ التطابق بين الشاعرين بدر شاكر السيّاب، وابراهيم طوقان.. حيث قاما بتدوين تجربتيهما شعرا متشابها، يخاله، غير المطلع على تجربتيهما، أنه جريمة سرقة.

وكذلك تجربة الشاعر أحمد فتحي والكاتب المهجري ميخائيل نعيمه، الذي التحق وشارك في الحرب العالمية الأولى، باعتباره جنديا" أمريكيا" ضمن القوات الأمريكية، التي قاتلت في فرنسا خلال تلك الحرب، وبعد عودته الى الولايات المتحدة الأمريكية، كتب قصيدة مؤثرة عن مآسي الحروب، وأشار فيها الى ما يتعرض له العرب من هوان واذلال.
وقد كرر الشاعر أحمد فتحي، وهو بالمناسبة، كاتب قصيدة "الكرنك" التي غنّاها محمد عبد الوهاب، وقصيدة "قصة الأمس" التي شدت بها أم كلثوم. كرر هذا الشاعر تجربة نعيمه، حين التحق بالقوات البريطانية التي كان يقودها "مونتغمري" ، في الصحراء الغربية لمصر، وكانت في مواجهة "روميل". وسرعان ما غادر الشاعر الى لندن، وكتب عن انطباعاته عن المجتمع الغربي..
اذا كان موضوع الكتاب، يدور حول التماثل بين تجارب الشعراء، ما أوجد تشابها في الشعر، ولا نقول سرقة حتى لا نغضب الكاتب/الشاعر.. الاّ أن الدعوة للحب والحياة ، تفرد بجناحيها فوق صفحات الكتاب كله.
ولا يفوتنا، ذكاء الشاعر في نقد العديد من القيم السائدة، التي لا تتماشى مع ثقافة العصر ومع القيم الانسانية، انما بطريقة كوميدية ساخرة،.. ويتجلى هذا، كمثال، في طريقة القاء القبض على الشاعر عمر بن أبي ربيعة واقتياده موقوفا الى المخفر.. حيث تحول المخفر الى محكمة أيضا"...قيّد رجال الشرطة عمر، وساقوه أمامهم الى المخفر، ثم وضعوا على الباب لافتة كبيرة، كتب عليها كلمة واحدة [محكمة] !!
وبسرعة يتحول العسكري الى قاض"... رأى الجميع جنرالا عابس الوجه، وهو يغير ملابسه العسكرية، ويستبدلها بثياب مدنية، ثم ارتدى روبا أسود اللون، وآعتدل الى أن جلس، وأمامه لافتة تقول انه القاضي" !!!
وفي مجال الفساد، يقول امرؤ القيس للقاضي"... والآن يا حضرة القاضي من الأفضل أن تعود الى بيتك بسيارتك التي تبدو أنك أيضا سرقتها"..
ورغم الفارق الزمني بين الشاعرين عمر بن أبي ربيعة ونزار قباني، الاّ أن حال الأمة لم يتغير. فقد وافق الشاعران على المشاركة في التظاهرة التي تدعو" نعم للحب لا للحرب"، شرط أن يتأكدا من أن الشرطة لن تتعرض لهما بالهراوات أو بالغازات المسيلة للدموع!
هل يتغير دور المثقف العربي بتغيّر الأزمان والأمكنة؟ وما هو الدور المطلوب من المثقف أن يلعبه؟ "... يا سيّد عمر يمكنك أن تمتطي حصانك وتخرج آمنا من أحد أبواب الحديقة، وأنت يا سيّد نزار، باستطاعتك أن تعود لكازينو الأخطل الصغير، لتشرب وتطرب، الى أن تكتب قصيدة ثورية، تندد فيها ما تتعرض له أمتك العربية من الكوارث والمآسي والأخطار.. ألمهم أن تبقى أنت شخصيا بعيدا عن خط النار.."
ولا يشذ عن هذا الوضع، حال السجون في يومنا هذا".. يا ولادة بنت المستكفي، لن أسمح لك بقيادة مظاهرة حتى لو كانت سلميّة، فالسجون قاسية والجلاّدون لا يرحمون"..
وفي تماثل أوضاع الحروب والخلافات الداخلية، جعل من كل امرأة " خنساء" مكلومة حيث تقول".. اني حقا حزينة منذ أن التهمت الحروب القديمة أجساد الذين أحببتهم، لكن الحزن لم يبرح قلبي حتى الآن. فهناك كثيرون تقتلهم الحروب العدوانية كل يوم في هذا الزمان، هناك أبناء فلسطين وأبناء العراق، وكل هؤلاء أبنائي وأحفادي"..
ولا يفوت الكاتب أن يعرّج على ذكر "قطار فلسطين"، في سياق حديثه عن التشابه بين ثلاث قصائد لثلاث شعراء، قد كتبت في زمن نكبة فلسطين واحداها قصيدة الشاعر علي محمود طه،" أخي جاوز الظالمون المدى".. يأتي الكاتب على ذكر القطار والأمكنة التي يمر بها ، العريش ، اللد ، وحيفا في نوع من الألفة والحميمية، ليذكّر بأمكنة لم تعرف الحدود والحواجز، أمكنة فقدناها، وتحولت الى ذكرى..
لم ينأى الكاتب بأسلوبه عن تعقيدات المصطلحات النقدية فقط، بل هو عمد الى سلاسة السرد، مع عفوية وطبيعية في استعمال السجع، الذي يبدي ميلا لاستعماله بدون تكلف. ولا غرابة في ذلك حين يكتب الشاعر نثرا. واذ عمد الكاتب الى أسلوب كوميدي في نقده، الا أن السخرية المرّة ترخي بظلالها على النص.. اذا كان معيار اختيار القصائد هو التشابه، كنتيجة لتماثل التجارب، الا أن القصائد كانت من أعذب الشعر وأطربه!!
رحلة الكاتب عبر الأزمان وفي رياض الشعر، والقصص التي ألهمت كتابة تلك الروائع، وتجارب الشعراء بحلوها ومرها.. تستحق منا الارتحال والاستمتاع مع الشاعر/ الكاتب

حنان بكير







التاريخ والشعر
" ألحياة الحب والحب الحياة".. عبارة الامبراطور أنطونيو، و ألتي أنطقه اياها الشاعر" أحمد شوقي"، هي عنوان آخر كتاب صدر للشاعر الكبير حسن توفيق.
يطرح الكتاب، كما يشير الشاعر في مقدمته لقضايا أدبية وانسانية ليست جديدة، لكنها تتجدد باستمرار، وأنه ابتعد عن تعقيدات المصطلحات الأدبية والنقدية وصرامة النقد.
ما درج على تسميته السرقات "ألسرقات الأدبية"، هي أولى القضايا التي يطرحها الكتاب، ومنها تتفرع سائر القضايا ألانسانية والاجتماعية... التي تعرّض لها الكاتب بالنقد، بأسلوب طريف متميز.. يبدأ الكتاب باعتقال الشرطة للشاعر عمر بن أبي ربيعة ومحاكمته، بتهمة سرقة ما سبق أن ردده امرؤ القيس.. وفيما بعد يلتقي الشاعر عمر بن أبي ربيعة، بالشاعر نزار قباني، ويهدده بالسيف، مطالبا ايّاه بأن يعتذر عن كتابة قصائد عديدة، تبدو وكأنها مسروقة من شعره.
لكن للكاتب/الشاعر، وجهة نظر أخرى اذ يقول:" .. قد يقع شاعر عربي في اسار تجربة مرّ بها، شاعر سبقه الى الوجود بسنوات، بل بقرون من الزمان، وهنا يتسرع المراقبون قائلين، ان الشاعر اللاحق قد سرق من الشاعر السابق. والحقبقة أن طبيعة حياة الشاعرين، هي التي جعلت تجربة الشاعر الثاني، تبدو تكرار لتجربة الأول... وأن طبيعة التجارب من حيث التماثل والتشابه هي التي تجعلنا نتصور أننا أمام جرائم سرقة"!
وهنا يحضرني قول أحد الشعراء:
خيول تسير على الجادة
فيقع الحافر على الحافر
يرصد الكاتب مطاردات الشعراء الذين يحركون قضاياهم في المحاكم ، ضد شعراء آخرين بتهمة السرقات الأدبية.. ولا يفوت الكاتب ذكر المناسبة التي قيل فيها الشعر، للتأكيد على تشابه الظرف، ألذي قيل فيه الشعر. مثال ذلك..في عام 1919، وخلال الثورة الشعبية في مصر ضد الاحتلال البريطاني، شاهد الشاعر حافظ ابراهيم تظاهرة نسائية. فكتب:
خرج الغواني يحتججن ورحت أرقب جمعهنه
فاذا بهن تخذن من سود الثياب شعارهنه
وفي عام 1960، كتب محمد مهدي الجواهري، ألذي حضر حفلا نسائيا، بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، وقد اختار نفس الوزن والقافية..
حييتهن بعيدهنه من بيضهن وسودهنه
وحمدت شعري أن يروح قلائدا لعقودهنه..
لم تكن عملية رصد هذا التماثل في الشعر، وظروف كتابته بالأمر اليسير، اذ تطلب من الشاعر الارتحال بين مختلف العصور والأزمان، ابتداء من العصر الجاهلي، وانتهاء بيومنا هذا، باحثا ومنقبا، بحسّ الشاعر المتمرّس.
ويورد الكاتب تجربة متشابهة، حدّ التطابق بين الشاعرين بدر شاكر السيّاب، وابراهيم طوقان.. حيث قاما بتدوين تجربتيهما شعرا متشابها، يخاله، غير المطلع على تجربتيهما، أنه جريمة سرقة.

وكذلك تجربة الشاعر أحمد فتحي والكاتب المهجري ميخائيل نعيمه، الذي التحق وشارك في الحرب العالمية الأولى، باعتباره جنديا" أمريكيا" ضمن القوات الأمريكية، التي قاتلت في فرنسا خلال تلك الحرب، وبعد عودته الى الولايات المتحدة الأمريكية، كتب قصيدة مؤثرة عن مآسي الحروب، وأشار فيها الى ما يتعرض له العرب من هوان واذلال.
وقد كرر الشاعر أحمد فتحي، وهو بالمناسبة، كاتب قصيدة "الكرنك" التي غنّاها محمد عبد الوهاب، وقصيدة "قصة الأمس" التي شدت بها أم كلثوم. كرر هذا الشاعر تجربة نعيمه، حين التحق بالقوات البريطانية التي كان يقودها "مونتغمري" ، في الصحراء الغربية لمصر، وكانت في مواجهة "روميل". وسرعان ما غادر الشاعر الى لندن، وكتب عن انطباعاته عن المجتمع الغربي..
اذا كان موضوع الكتاب، يدور حول التماثل بين تجارب الشعراء، ما أوجد تشابها في الشعر، ولا نقول سرقة حتى لا نغضب الكاتب/الشاعر.. الاّ أن الدعوة للحب والحياة ، تفرد بجناحيها فوق صفحات الكتاب كله.
ولا يفوتنا، ذكاء الشاعر في نقد العديد من القيم السائدة، التي لا تتماشى مع ثقافة العصر ومع القيم الانسانية، انما بطريقة كوميدية ساخرة،.. ويتجلى هذا، كمثال، في طريقة القاء القبض على الشاعر عمر بن أبي ربيعة واقتياده موقوفا الى المخفر.. حيث تحول المخفر الى محكمة أيضا"...قيّد رجال الشرطة عمر، وساقوه أمامهم الى المخفر، ثم وضعوا على الباب لافتة كبيرة، كتب عليها كلمة واحدة [محكمة] !!
وبسرعة يتحول العسكري الى قاض"... رأى الجميع جنرالا عابس الوجه، وهو يغير ملابسه العسكرية، ويستبدلها بثياب مدنية، ثم ارتدى روبا أسود اللون، وآعتدل الى أن جلس، وأمامه لافتة تقول انه القاضي" !!!
وفي مجال الفساد، يقول امرؤ القيس للقاضي"... والآن يا حضرة القاضي من الأفضل أن تعود الى بيتك بسيارتك التي تبدو أنك أيضا سرقتها"..
ورغم الفارق الزمني بين الشاعرين عمر بن أبي ربيعة ونزار قباني، الاّ أن حال الأمة لم يتغير. فقد وافق الشاعران على المشاركة في التظاهرة التي تدعو" نعم للحب لا للحرب"، شرط أن يتأكدا من أن الشرطة لن تتعرض لهما بالهراوات أو بالغازات المسيلة للدموع!
هل يتغير دور المثقف العربي بتغيّر الأزمان والأمكنة؟ وما هو الدور المطلوب من المثقف أن يلعبه؟ "... يا سيّد عمر يمكنك أن تمتطي حصانك وتخرج آمنا من أحد أبواب الحديقة، وأنت يا سيّد نزار، باستطاعتك أن تعود لكازينو الأخطل الصغير، لتشرب وتطرب، الى أن تكتب قصيدة ثورية، تندد فيها ما تتعرض له أمتك العربية من الكوارث والمآسي والأخطار.. ألمهم أن تبقى أنت شخصيا بعيدا عن خط النار.."
ولا يشذ عن هذا الوضع، حال السجون في يومنا هذا".. يا ولادة بنت المستكفي، لن أسمح لك بقيادة مظاهرة حتى لو كانت سلميّة، فالسجون قاسية والجلاّدون لا يرحمون"..
وفي تماثل أوضاع الحروب والخلافات الداخلية، جعل من كل امرأة " خنساء" مكلومة حيث تقول".. اني حقا حزينة منذ أن التهمت الحروب القديمة أجساد الذين أحببتهم، لكن الحزن لم يبرح قلبي حتى الآن. فهناك كثيرون تقتلهم الحروب العدوانية كل يوم في هذا الزمان، هناك أبناء فلسطين وأبناء العراق، وكل هؤلاء أبنائي وأحفادي"..
ولا يفوت الكاتب أن يعرّج على ذكر "قطار فلسطين"، في سياق حديثه عن التشابه بين ثلاث قصائد لثلاث شعراء، قد كتبت في زمن نكبة فلسطين واحداها قصيدة الشاعر علي محمود طه،" أخي جاوز الظالمون المدى".. يأتي الكاتب على ذكر القطار والأمكنة التي يمر بها ، العريش ، اللد ، وحيفا في نوع من الألفة والحميمية، ليذكّر بأمكنة لم تعرف الحدود والحواجز، أمكنة فقدناها، وتحولت الى ذكرى..
لم ينأى الكاتب بأسلوبه عن تعقيدات المصطلحات النقدية فقط، بل هو عمد الى سلاسة السرد، مع عفوية وطبيعية في استعمال السجع، الذي يبدي ميلا لاستعماله بدون تكلف. ولا غرابة في ذلك حين يكتب الشاعر نثرا. واذ عمد الكاتب الى أسلوب كوميدي في نقده، الا أن السخرية المرّة ترخي بظلالها على النص.. اذا كان معيار اختيار القصائد هو التشابه، كنتيجة لتماثل التجارب، الا أن القصائد كانت من أعذب الشعر وأطربه!!
رحلة الكاتب عبر الأزمان وفي رياض الشعر، والقصص التي ألهمت كتابة تلك الروائع، وتجارب الشعراء بحلوها ومرها.. تستحق منا الارتحال والاستمتاع مع الشاعر/ الكاتب

حنان بكير
التاريخ والشعر
" ألحياة الحب والحب الحياة".. عبارة الامبراطور أنطونيو، و ألتي أنطقه اياها الشاعر" أحمد شوقي"، هي عنوان آخر كتاب صدر للشاعر الكبير حسن توفيق.
يطرح الكتاب، كما يشير الشاعر في مقدمته لقضايا أدبية وانسانية ليست جديدة، لكنها تتجدد باستمرار، وأنه ابتعد عن تعقيدات المصطلحات الأدبية والنقدية وصرامة النقد.
ما درج على تسميته السرقات "ألسرقات الأدبية"، هي أولى القضايا التي يطرحها الكتاب، ومنها تتفرع سائر القضايا ألانسانية والاجتماعية... التي تعرّض لها الكاتب بالنقد، بأسلوب طريف متميز.. يبدأ الكتاب باعتقال الشرطة للشاعر عمر بن أبي ربيعة ومحاكمته، بتهمة سرقة ما سبق أن ردده امرؤ القيس.. وفيما بعد يلتقي الشاعر عمر بن أبي ربيعة، بالشاعر نزار قباني، ويهدده بالسيف، مطالبا ايّاه بأن يعتذر عن كتابة قصائد عديدة، تبدو وكأنها مسروقة من شعره.
لكن للكاتب/الشاعر، وجهة نظر أخرى اذ يقول:" .. قد يقع شاعر عربي في اسار تجربة مرّ بها، شاعر سبقه الى الوجود بسنوات، بل بقرون من الزمان، وهنا يتسرع المراقبون قائلين، ان الشاعر اللاحق قد سرق من الشاعر السابق. والحقبقة أن طبيعة حياة الشاعرين، هي التي جعلت تجربة الشاعر الثاني، تبدو تكرار لتجربة الأول... وأن طبيعة التجارب من حيث التماثل والتشابه هي التي تجعلنا نتصور أننا أمام جرائم سرقة"!
وهنا يحضرني قول أحد الشعراء:
خيول تسير على الجادة
فيقع الحافر على الحافر
يرصد الكاتب مطاردات الشعراء الذين يحركون قضاياهم في المحاكم ، ضد شعراء آخرين بتهمة السرقات الأدبية.. ولا يفوت الكاتب ذكر المناسبة التي قيل فيها الشعر، للتأكيد على تشابه الظرف، ألذي قيل فيه الشعر. مثال ذلك..في عام 1919، وخلال الثورة الشعبية في مصر ضد الاحتلال البريطاني، شاهد الشاعر حافظ ابراهيم تظاهرة نسائية. فكتب:
خرج الغواني يحتججن ورحت أرقب جمعهنه
فاذا بهن تخذن من سود الثياب شعارهنه
وفي عام 1960، كتب محمد مهدي الجواهري، ألذي حضر حفلا نسائيا، بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، وقد اختار نفس الوزن والقافية..
حييتهن بعيدهنه من بيضهن وسودهنه
وحمدت شعري أن يروح قلائدا لعقودهنه..
لم تكن عملية رصد هذا التماثل في الشعر، وظروف كتابته بالأمر اليسير، اذ تطلب من الشاعر الارتحال بين مختلف العصور والأزمان، ابتداء من العصر الجاهلي، وانتهاء بيومنا هذا، باحثا ومنقبا، بحسّ الشاعر المتمرّس.
ويورد الكاتب تجربة متشابهة، حدّ التطابق بين الشاعرين بدر شاكر السيّاب، وابراهيم طوقان.. حيث قاما بتدوين تجربتيهما شعرا متشابها، يخاله، غير المطلع على تجربتيهما، أنه جريمة سرقة.

وكذلك تجربة الشاعر أحمد فتحي والكاتب المهجري ميخائيل نعيمه، الذي التحق وشارك في الحرب العالمية الأولى، باعتباره جنديا" أمريكيا" ضمن القوات الأمريكية، التي قاتلت في فرنسا خلال تلك الحرب، وبعد عودته الى الولايات المتحدة الأمريكية، كتب قصيدة مؤثرة عن مآسي الحروب، وأشار فيها الى ما يتعرض له العرب من هوان واذلال.
وقد كرر الشاعر أحمد فتحي، وهو بالمناسبة، كاتب قصيدة "الكرنك" التي غنّاها محمد عبد الوهاب، وقصيدة "قصة الأمس" التي شدت بها أم كلثوم. كرر هذا الشاعر تجربة نعيمه، حين التحق بالقوات البريطانية التي كان يقودها "مونتغمري" ، في الصحراء الغربية لمصر، وكانت في مواجهة "روميل". وسرعان ما غادر الشاعر الى لندن، وكتب عن انطباعاته عن المجتمع الغربي..
اذا كان موضوع الكتاب، يدور حول التماثل بين تجارب الشعراء، ما أوجد تشابها في الشعر، ولا نقول سرقة حتى لا نغضب الكاتب/الشاعر.. الاّ أن الدعوة للحب والحياة ، تفرد بجناحيها فوق صفحات الكتاب كله.
ولا يفوتنا، ذكاء الشاعر في نقد العديد من القيم السائدة، التي لا تتماشى مع ثقافة العصر ومع القيم الانسانية، انما بطريقة كوميدية ساخرة،.. ويتجلى هذا، كمثال، في طريقة القاء القبض على الشاعر عمر بن أبي ربيعة واقتياده موقوفا الى المخفر.. حيث تحول المخفر الى محكمة أيضا"...قيّد رجال الشرطة عمر، وساقوه أمامهم الى المخفر، ثم وضعوا على الباب لافتة كبيرة، كتب عليها كلمة واحدة [محكمة] !!
وبسرعة يتحول العسكري الى قاض"... رأى الجميع جنرالا عابس الوجه، وهو يغير ملابسه العسكرية، ويستبدلها بثياب مدنية، ثم ارتدى روبا أسود اللون، وآعتدل الى أن جلس، وأمامه لافتة تقول انه القاضي" !!!
وفي مجال الفساد، يقول امرؤ القيس للقاضي"... والآن يا حضرة القاضي من الأفضل أن تعود الى بيتك بسيارتك التي تبدو أنك أيضا سرقتها"..
ورغم الفارق الزمني بين الشاعرين عمر بن أبي ربيعة ونزار قباني، الاّ أن حال الأمة لم يتغير. فقد وافق الشاعران على المشاركة في التظاهرة التي تدعو" نعم للحب لا للحرب"، شرط أن يتأكدا من أن الشرطة لن تتعرض لهما بالهراوات أو بالغازات المسيلة للدموع!
هل يتغير دور المثقف العربي بتغيّر الأزمان والأمكنة؟ وما هو الدور المطلوب من المثقف أن يلعبه؟ "... يا سيّد عمر يمكنك أن تمتطي حصانك وتخرج آمنا من أحد أبواب الحديقة، وأنت يا سيّد نزار، باستطاعتك أن تعود لكازينو الأخطل الصغير، لتشرب وتطرب، الى أن تكتب قصيدة ثورية، تندد فيها ما تتعرض له أمتك العربية من الكوارث والمآسي والأخطار.. ألمهم أن تبقى أنت شخصيا بعيدا عن خط النار.."
ولا يشذ عن هذا الوضع، حال السجون في يومنا هذا".. يا ولادة بنت المستكفي، لن أسمح لك بقيادة مظاهرة حتى لو كانت سلميّة، فالسجون قاسية والجلاّدون لا يرحمون"..
وفي تماثل أوضاع الحروب والخلافات الداخلية، جعل من كل امرأة " خنساء" مكلومة حيث تقول".. اني حقا حزينة منذ أن التهمت الحروب القديمة أجساد الذين أحببتهم، لكن الحزن لم يبرح قلبي حتى الآن. فهناك كثيرون تقتلهم الحروب العدوانية كل يوم في هذا الزمان، هناك أبناء فلسطين وأبناء العراق، وكل هؤلاء أبنائي وأحفادي"..
ولا يفوت الكاتب أن يعرّج على ذكر "قطار فلسطين"، في سياق حديثه عن التشابه بين ثلاث قصائد لثلاث شعراء، قد كتبت في زمن نكبة فلسطين واحداها قصيدة الشاعر علي محمود طه،" أخي جاوز الظالمون المدى".. يأتي الكاتب على ذكر القطار والأمكنة التي يمر بها ، العريش ، اللد ، وحيفا في نوع من الألفة والحميمية، ليذكّر بأمكنة لم تعرف الحدود والحواجز، أمكنة فقدناها، وتحولت الى ذكرى..
لم ينأى الكاتب بأسلوبه عن تعقيدات المصطلحات النقدية فقط، بل هو عمد الى سلاسة السرد، مع عفوية وطبيعية في استعمال السجع، الذي يبدي ميلا لاستعماله بدون تكلف. ولا غرابة في ذلك حين يكتب الشاعر نثرا. واذ عمد الكاتب الى أسلوب كوميدي في نقده، الا أن السخرية المرّة ترخي بظلالها على النص.. اذا كان معيار اختيار القصائد هو التشابه، كنتيجة لتماثل التجارب، الا أن القصائد كانت من أعذب الشعر وأطربه!!
رحلة الكاتب عبر الأزمان وفي رياض الشعر، والقصص التي ألهمت كتابة تلك الروائع، وتجارب الشعراء بحلوها ومرها.. تستحق منا الارتحال والاستمتاع مع الشاعر/ الكاتب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مقال رائع
د. سمير المانع ( 2010 / 9 / 18 - 15:09 )
نحتاج الى توعية وعدم سرقة افكار الاخرين وقد وجدوها سهلة بالانترنيت او من كتب صادرة وكأن الاهرين لم يكشفوهم لا باس بالتناص ولكن كيف من يسرق الفكرة وتحت العنوان نفسه شكرا لهذا المقال سيدتي


2 - التشكيك يحتاج إثباتات وحجج دقيقة ودامغة
الحكيم البابلي ( 2010 / 9 / 19 - 04:12 )
السيدة حنان بكير
موضوع رائع تمتعتُ به كثيراً ، جميلٌ أن يفكر الإنسان بهذه الطريقة ، إذ أحياناً تبدو لنا بعض الأمور وكأنها سرقة ، ولكن يتبين إنها أما توارد خواطر أو هموم مشتركة تُحرك أكثر من قلم
يحدث أحياناً أن أقرأ شعراً يُذكرني معناه أو قافيته أو موضوعه بقصيدة لشاعر آخر، وقد تكون هناك سرقة صغيرة ذكية ، وقد لا تكون
قبل فترة قرأتُ قصيدة لنزار قباني ، ذكرتني بقصيدة سبق أن قرأتها لعبد الوهاب البياتي ، وبما أن الشاعرين المذكورين هما قمة من يعجبوني من الشعراء العرب ، لذا قمتُ بتحقيق صغير لمعرفة مَن مِن الشاعرين كانت قصيدته أقدم ، وإتضح أن البياتي كتب قصيدته قبل القباني
ولكن .. هل هذا يكفي لأقول بأنها مسروقة ؟ لا طبعاً
حتى هنا على صفحات الحوار المتمدن ، تحدث بعض التشكيكات أحياناً ، ولكن ... يجب التدقيق قبل إطلاق الأحكام التي قد تضر الناقد قبل المنقود
وطبعاً كل هذا ليس معناه عدم وجود سرقات ، لأن الرائحة تُزكم الأنوف أحياناً ، وهناك مواضيع تُنقل نصاً وحتى مع العنوان !! أما الأكثر حدوثاً ، فهو نقل المواضيع من الأنكليزية
للعربية ولا أدري لمَ يتصور الناقل بأن لا أحد يقرأ الإنكليزية
تحياتي

اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا