الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محمود محيي الدين.. الدولي!

سعد هجرس

2010 / 9 / 20
مواضيع وابحاث سياسية


عندما يتبوأ المواطن المصري الدكتور محمود محيي الدين منصب مدير عام البنك الدولي.. لا يمكننا التعامل مع الأمركما لو كان مسألة »عادية«.
فهذا منصب دولي مرموق جدا، ووجود شخصية مصرية فيه ليس كعدمه علي الأقل من الناحية الأدبية.
وكما هو معلوم للقاصي والداني فإن البنك الدولي ليس بنكا بالمعني الحرفي ولكنه أحد الوكالات المتخصصة للأمم المتحدة وهو بمثابة مؤسسة »إنمائية« دولية تتألف من خمس مؤسسات مترابطة ومتشابكة هي:
* البنك الدولي للإنشاء والتعمير »الذي يقرض البلدان النامية ذات متوسط الدخل الفردي العالي نسبيا«.
* المؤسسة الانمائية الدولية »التي تقدم القروض بدون فوائد إلي البلدان النامية الأكثر فقرا«.
* هيئة التمويل الدولية »التي تقدم الدعم للقطاع الخاص في البلدان النامية«.
* وكالة ضمان الاستثمار متعدد الأطراف »التي توفر ضمانات للمستثمرين الأجانب ضد الخسائر التي ربما تنجم عن المخاطر غير التجارية«.
* المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار »الذي يشجع الاستثمار الدولي عن طريق ضمان التوفيق والتحكيم في المنازعات الاستثمارية التي قد تنشأ بين المستثمرين الأجانب والبلدان المضيفة«.
نحن إذن إزاء مؤسسة دولية كبري لا يستهان بها، لكنها في الوقت نفسه ليست فوق مستوي الجدال من حيث مضمون نشاطاتها.
ونحن بالذات في مصر نحتفظ بذكريات غير ودية علي الإطلاق للبنك الدولي وربما كنا البلد الوحيد في العالم الذي ردد فيه الشعب أغنية مشهورة جدا في معرض هجاء هذا »البنك اللي بيساعد ويدي«.. لكن عندما احتجنا إليه قال »مالكولش عندي«، وذلك بمناسبة رفضه تمويل بناء السد العالي، الذي يعد أكبر مشروع هندسي وأكبر بنك مائي في العالم بأسره، وكان ـ ولايزال ـ أحد أهم مشاريع التنمية لمصر نظرا لما يوفره من تحكم في نهر النيل وسيطرة علي نزواته التي كثيرا ما كانت تهدد بلادنا بـ»الشرق« تارة و»الغرق« تارة أخري.
وكان رفض البنك الدولي تمويل هذا المشروع التنموي الكبير نقطة تحول في تاريخ مصر الحديث، كما كان هذا الرفض سببا في تشكيل رأي عام مناهض لهذا البنك الذي كثيرا ما خضع للهيمنة الأمريكية، وكثيرا ما تأثرت قراراته التي يفترض فيها أنها اقتصادية بحتة ـ بالأهواء السياسية للامبراطورية الأمريكية خصوصا والأقطاب الغربية المتنفذة عموما.
ولم تكن هذه المشاعر السلبية ازاء البنك الدولي وقفاً علي مصر والمصريين، للسبب المشار إليه، وإنما هي مشاعر سادت دوائر واسعة من الرأي العام في كل دول العالم الثالث، بل وأيضا في بعض دول »العالم الأول«، نظرا للفجوة الواسعة بين الخطاب المعلن للبنك الدولي، وبخاصة في مجال مكافحة الفقر، وبين الواقع المدير للأغلبية الساحقة من البشرية التي ازدادت فقرا علي فقر لأسباب كثيرة من بينها سياسات البنك الدولي و»نصائح« شقيقه وتوأمه »صندوق النقد الدولي«.
فنحن نعيش في عالم ينقسم بين دول بالغة الثراء يصل دخل الفرد في بعضها إلي أكثر من 40 ألف دولار سنويا، بينما أكثر من نصف سكان الدول النامية ـ أي ما يقرب من 2،8 مليار نسمة علي أقل من 700 دولار في العالم، من بينهم 1،2 مليار نسمة يعيشون علي أقل من دولار واحد في اليوم ونتيجة لهذا الفقر »الدكر« يموت 33 ألف طفل كل يوم في الدول النامية كما تموت امرأة كل دقيقة في هذه الدول ذاتها، ويحرم أكثر من 100 مليون طفل من الحق في الالتحاق بالمدارس، كما يفتقر أكثر من مليار نسمة إلي مياه الشرب النظيفة.
وأحد مبررات وجود البنك الدولي المعلنة هو مكافحة هذا الفقر وردم الفجوة بين الدول الفادحة الثراء والبلدان التي تعاني من الفقر المدقع ومد يد المساعدة إلي الدول الفقيرة.لكن كما قلنا.. ما أوسع الشقة بين الأقوال والأفعال!
أضف إلي ذلك أنه توجد كثير من الانتقادات للدور الذي يراه الكثيرون دورا تدميريا للاقتصاد والبنية الاجتماعية للدول النامية من جراء سياسات مؤسستي بريتون وودز الكبيرتين، الصندوق والبنك الدوليين، وأحد أهم هذه السياسات سيئة السمعة هي سياسة »الخصخصة« التي أدت كثيرا من تطبيقاتها المتوحشة والخرقاء إلي تدمير حياة ملايين من البشر وإخراجهم من دائرة الإنتاج لينضموا إلي جيش البطالة، شأنها في ذلك شأن الكثير من الأدوات التي تلازمت مع تمكين المحافظين الجدد والطبقة الأكثر توحشا من الرأسمالية في عصر العولمة.
ورغم أن هذه أدوات »اقتصادية« فإنها اكتسبت علي أيدي المحافظين الجدد طابعا »ايديولوجيا« و»مذهبيا«، كما لو كانت »عقيدة مقدسة«!
***
وكانت ثمار هذه التوجهات بالغة التطرف عواقب وخيمة بلغت ذروتها مع استحكام الأزمة المالية والاقتصادية التي أمسكت بخناق العالم مؤخرا متسببة في كوارث مروعة.
الأمر الذي أرغم الدوائر الاقتصادية الدولية، بما فيها الصندوق والبنك الدوليان، علي إدخال »إصلاحات« علي خطاباتها واستراتيجياتها.
وفي إطار هذا »النقد الذاتي« واسع النطاق أصبحنا ازاء أدوار غير معهودة سابقا للبنك الدولي تجعل البعض يراهن علي أنه سيكون »البنك اللي بيساعد ويدّي« أكثر من أن يكون البنك الذي يقول »مالكولش عندي«.
***
وبصرف النظر عن مدي نصيب هذه الرهانات من الصحة، فإن وصول الدكتور محمود محيي الدين إلي منصب المدير العام للبنك الدولي يظل حدثا يستحق الانتباه.
صحيح أن البعض قد رأي في اختيار الدكتور محمود الدين لهذا المنصب »مكافأة« له علي تبنيه لسياسات البنك الدولي أثناء عمله وزيراً للاستثمار في مصر.. لكن يظل محمود محيي الدين شخصية مصرية استثنائية بصرف النظر عن الاتفاق حينا أو الاختلاف أحيانا معه.
فهو شاب ذكي وأكاديمي متميز ومتمرس، فضلا عن أنه انسان متحضر ومحترم يحترم الاختلاف في الرأي ويقدر الحوار ويخضع لشروطه ومتطلباته بتواضع وأدب.
وقد كانت لي شخصيا مساجلات بالغة السخونة معه في قضايا كثيرة واختلافات كبيرة جدا حول عدد كبير من السياسات التي تبناها أثناء توليه وزارة الاستثمار - ومنها علي سبيل المثال مسألة الصكوك المجانية - ودارت بعض هذه الحوارات الساخنة علي صفحات الجرائد وبعضها الآخر علي شاشات التليفزيون والفضائيات المصرية والعربية، لكنه تمسك دائما بآداب الحوار والاحترام لوجهات النظر المخالفة له.
وليس هذا بالأمر الغريب، أو المفاجيء، فهو أولا وأخيرا سليل عائلة »محيي الدين« المحترمة في كفر شكر التي أنجبت قبله رجل الدولة المرموق جدا زكريا محيي الدين ونقيضه اليساري الكبير خالد محيي الدين، وبينهما الدكتور فؤاد محيي الدين الذي اشترك في شبابه بلجنة العمال والفلاحين في الأربعينيات واختتم حياته السياسية رئيسا لوزراء مصر في عصر السادات.
وليس غريبا لسليل هذه العائلة العريقة، عائلة محيي الدين، إن يرث كثيرا من التقاليد المحترمة والحضارية.
لذلك.. فإنني شخصيا قد اختلفت مع الكثير من توجهاته وسياساته وخياراته، لكنني احترمته دائما رغم الخلاف والاختلاف، وكنت ومازلت احترم ذكاءه وإخلاصه لما يعتقد أنه الصواب.
***
ورغم هذا الموقف النقدي من الرجل، ومن المؤسسة الدولية التي سيبدأ مهمته بها في الرابع من أكتوبر المقبل، فإني أهنئه علي المنصب الجديد وأتمني له النجاح وأن يضيف عمله في البنك الدولي صفحة جديدة في سجل سيرته ومسيرته المهنية.. وربما السياسية أيضا عندما يعود إلي أحضان الوطن بعد فترة طالت أم قصرت.
ومبروك عليك يا دكتور محمود.. المنصب الدولي.. والمرتب بالدولار، ودور »الرجل الدولي« الذي ننتظر أن يعود إلينا »رجل دولة«.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - و لكن!
عمرو شلتوت ( 2010 / 9 / 21 - 21:33 )
أشكرك على مقالك، في هذا التوقيت المملؤ بلغة خطاب عز فيها أدب الحوار و المنطق و حسن القصد و الظن و الكياسة و الأمانة.

و لكن، هل يمكن أن يكون المسئول متبنياً سياسات مؤسسة تعمل -غالباً- ضد مصالح بلده -كما تتفق عليها -أغلب- الجماعة الوطنية- و يحصل على مكافأة سخية كجائزة لتنفيذه تلك السياسات، ثم يعود ليصبح رجل دولة؟ أليس يعتبره النظام -الخارج على اتفاق -أغلب- الجماعة الوطنية- رجل دولة؟

هل يمكن لنفس الشخص الذي تبنى سياسات -عملية الصكوك- المشبوهة، أن يكون رجلاً للشعب؟

اللهم يا مقلب القلوب و الأبصار، ثبت قلوبنا على دينك، و أحسن خواتيمنا!

و الله من وراء القصد!

اخر الافلام

.. خبراء عسكريون أميركيون: ضغوط واشنطن ضد هجوم إسرائيلي واسع بر


.. غزة رمز العزة.. وقفات ليلية تضامنا مع غزة في فاس بالمغرب




.. مسيرة إسرائيلية تستهدف سيارة مدنية شمال غرب مدينة رفح جنوب ق


.. مدير مكتب الجزيرة في فلسطين يرصد تطورات المعارك في قطاع غزة




.. بايدن يصف ترمب بـ -الخاسر-