الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اعادة انتاج الحركات العلمانية مرتبط بتطور الحاضنة الفكرية والفلسفية للمجتمع العراقي

يوسف محسن

2010 / 9 / 22
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق




اعادة انتاج الحركات العلمانية مرتبط بتطور الحاضنة الفكرية والفلسفية للمجتمع العراقي



تقديم وحوار : يوسف محسن
الفصل بين المجال الديني والمجال السياسي في المجتمع هو السؤال المطروح في التاريخية العراقية الراهنة وعلى جدول اعمال المثقفين والنخب الفكرية. للخروج بنمط بنيوي تركيبي على صعيد نسق الدولة السياسية، وذلك لتأسيس سلطة بشرية خارج النصوص والمتون المقدسة ،انتاج للتوازنات السياسية والاجتماعية والفكرية والثقافي واعادة النظر بمفهوم الدولة العراقية ما بعد العام 2003 وتكريسها كمؤسسة تشتغل في حقل السياسية ( مصفوفات وتحولات وانساق وبنى معرفية ) تستمد قوتها من المفاهيم والمقولات الثقافية الحديثة بالارتباط مع الفضاءالسوسيولوجي والتخيلي للمجتمع العراقي حيث ان الدين او المجال الديني كمنظومة نصوص مقدسة او مدونات فقهية او تشريعية لم يحدد اطار معيناً للسلطة السياسية. في حين نرى العراق مابعد العام 2003 لا يوجد فصل بين المؤسسة الدينية والدولة ولا توجد حدود فاصلة وواضحة بين المؤسسات الدينية والمؤسسات القانونية والمؤسسات الدستورية حيث تلعب المرجعية الدينية دوراً فاعلاً في اضفاء الشرعية السياسية، فضلاً عن قيام الدولة بتمويل مشاريع المؤسسات الدينية ونشر الفكر الديني عبر التعليم والاعلام والثقافة، اضافة الى ذلك تدافع عن دين محدد يأخذ صفة الهيمنة دون غيره متجاهلة الاديان والملل والنحل الاخرى السائدة في المجتمع العراقي.
في حين ان للدولة شخصية اعتباريه وليست حقيقة فالدولة لا تمارس الطقوس الدينية ونما الدين للاشخاص اما ان يكون لهم دين او لا يكون ، ان الدولة الحديثة تقوم على مبدأ المواطنة المجردة وعلى دستور موحد وشامل لكل الاجزاء، وتقديم الرعاية والخدمات واحترام حرية المعتقدات والعبادة دون المساس بحرية الاخرين. حيث ان هناك فرق بين الاسلام كدين وبين الاسلام كفقه. ان هذا الفصل ليست منظومة سياسية او انكار للاديان وانما هو نسق تنظيمي للعلاقة بين الدولة والمؤسسات الدينية تحمي الدين من استخدامات الدولة وتؤسس للفصل عن تدين الدولة.وتسيس الدين حيث ان القاسم المشترك للدولة الحديثة ينطوي على فكرة الحياد الايجابي ازاء الاديان والمذاهب والطوائف والفرق الدينية الموجودة في المجتمع وخاصة في المجتمع التي توجد فيها اقليات دينية كبرى وفاعلة ومؤثر كالمجتمع العراقي كما تعني المساواة بين المواطنين امام القانون بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والمذهبية او الطائفية. والاقرار بان الدين هو خيار فردي خاص. لذا فان هذا الفصل الابستمولوجي بين المجالين الديني/ الدولة يؤدي الى الحفاظ على الدين من الاحتكار وتنوع منظومته الرمزية والمقدسة ودوره الارشادي فالاديان عندما تتجاوز المجال الميتافيزيقي عبر الفاعلين السياسيين ، يتم تزويدها بمنظومة من الحرتقات والمفاهيم والمقولات الاجتماعية – السياسية يبرز داخلها نزعتين، نزعة اختزالية. حيث يتم تحويل الصراعات البشرية، السياسية والفكرية الى منظومة ثنائية الخير/ الشر، وانعكاساتها في المجال السياسي للدولة الحديثة واثارها على التعددية المجتمعية ونزعة مطلقة نهائية، سرمدية اسطورية. تتجذر في ايديولوجية مقدسة ويتم تحويل النصوص المقدسة الى نصوص ايديولوجية وسياسية لتعبر عن مصالح طبقية واجتماعية وفئوية فضلاً عن تهميش الجماعات الدينية الاخرى المنافسة والجماعات السياسية التنويرية ،فالفاعلين الاسلاميين يتصورون ان الدين يحمل ماهية سياسية وهي جزء من العقيدة واي فصل هو نقض لجذور الاسلام.
في حين بناء دولة حديثة قائمة على الفصل واشتغال السياسي في المجتمع لا تجرد المواطن الديني من فاعليته السياسية كمواطن وانما تفعله ككائن سياسي داخل منظومات الاختلاف والتنوع والمنظومات القيمية. تشكل خطاب حداثي ودولة حديثة تقوم على قطيعة بين الخطابات الدينية وخطاب الدولة في العراق الحديثة فرضية مطلوبة حتى تتحرر الدولة من الخطابات الدينية المتنافسة. وخطابات الاديان الطائفية، ترعى مصالح السكان الاقتصادية والصحية والثقافية تقوم على المجال السياسي بوصفه الناظم للعلاقات الاجتماعية والقانونية والحياة العامة للمجتمع، حيث ان ،مشهد السياسي العراقي مابعد 2003 يطرح شبكة من التساؤلات وبالذات بصدد الحركات والجماعات والاحزاب العلمانية. هل هي ازمة سياسية ظرفية مرتبطة بالمتغيرات السياسية ام هي ازمة تأسيسية تعكس ازمة حقل الدولة، المجتمع، الثقافة ؟.
لذا فان الحقل السياسي العراقي يقدم نموذج فاقع للسياسية بالمعنى العلمي والعقلاني يتجسد في تصدع البنى المجتمعية لصالح انفلات مكبوت، يعود بمجمله الى عدم اكتمال بنية المجتمع المدني وهشاشة المجتمع السياسي وهيمنة المجتمع الاهلي (الطوائفي، العشائري الاثني) والعسر في الانتقال من القبلية الى الدولة منذ تأسيس الكيان السياسي العراقي العام 1921 ويبين الباحث السوسيولوجي فالح عبدالجبار
اما المرحلة الممتدة من العام 1958 الى العام 1968 والتي اتسمت بالانقلابات العسكرية وصعود العسكرتارية الى السلطة فقد ساهمت وبشكل كبير في تحطم مؤسسات الاندماج الاجتماعي ومؤسسات المجتمع المدني واعادة بناء وتنظيم المجتمع السياسي بالصيغة الامنية وتفكيك النخب ذات النزعات العلمانية عبر سلسلة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتوسيع المجال السياسي لصعود الجماهيرات العنيفة والحد من اقتصاديات السوق والقطاع الخاص الذي صاحبه انهيار البرجوازية الوطنية بصيغتها الجنينية وتمركز الثروات المادية والريعية بيد الدولة والتي تمثل المقدمات الضرورية لنمو الاستبداد وتحديد الولاءات وطرق التفكير وهذا يفسر ضعف مقدرة الطبقات الاجتماعية الوسطى على تطوير نزعات مشتركة او مشروع تنويري وتبلور وتحول في طبيعية النخب العسكرية لتكونها كطبقة اجتماعية قرابية.طائفية واحتكار شمولي ورمزي للدولة ومؤسساتها. هذا التطور التاريخي جعل الاحزاب العراقية كمؤسسات تعاني امراض البنى الاجتماعية الهشة.هذا جزءا من حوار طويل مع د عقيل الناصري الغرض منه اثارة سؤال العلمانية في المجتمع العراقي



 ،
هل هناك تاريخ للحركات العلمانية سواء أكان في الحقل الثقافي أو الحقل الفكري أو الحقل السياسي؟

 قبل الخوض في الإجابة على هذه الأسئلة لابد من التنويه إلى ضرورة دراسة هذه الإشكالية ووضعها في الإطار الصحيح.. ويبدو أن هذه المساهمات هي جزء من هذا المسعى. كما أن هذه الضرورة تنبعث من مدى حاجاتنا إلى الفكر التنوير بغية شق طريق الارتقاء الاجتماعي لولوج المستقبل القائم على الركيزة العلمية بدرجة أرأسية والسيطرة أكثر فأكثر على الطبيعة وتوجيهها إلى خدمة الإنسان كغاية مثلى..وإذا كانت الفترات الماضية قد اتكأت حركة التنوير على المعادلة الثلاثية الأبعاد والمتمثلة في: الفرد – العقل- الطبيعة، فإن الحاضر والمستقبل ينطلق من ذات الأبعاد بعد لإضافة العامل الأرأس والمتمثل في العلم، ومنجزه اللا محدود. كما أن الضرورة تقتضي منا إرساء هذا المفهوم العلمي{العلمانية} والتعرف على مضامينه التي اختزلت لدرجة قتلت ماهياته الأرأسية دون أن تمنحه قوة التفاعل العضوي لصيرورة الارتقاء الاجتماعي وذلك عندما اختزلته بمعادلة بسيطة:{ فصل الدين عن الدولة} والتي لا تمثل سوى جانب واحد من مضمون المفهوم، الذي ينطلق من كونه، بالمفهوم العام، ينظم العلاقة بين أفراد المجتمع على أساس المواطنة والعقد الاجتماعي. وبالتالي سيشتق من هذا المضمون تبديد الفهم الخاطئ المتمحور في كون العلمانية تتنكر لما يلعبه الدين من دور اجتماعي، خاصةً في مثل ظروف بلادنا على الأقل.

وعليه أرى ضرورة أن ننظر إلى العلمانية في إطارها الفلسفي، من ثم من خلال تاريخية صراعها مع نقيضه ألا وهو الفهم الديني، كحامل فكري لشرح الظواهر الطبيعية والاجتماعية، بصورة أرأسية، إذ ظهر مفهوم العلمانية مع بدء نشاط الحركات الفكرية ذات الطابع التنويري في أوربا القرووسطية (عهد التنوير) وتبلور أثناء الصراع مع الكنيسة والفكر اللاهوتي.. وقد أخذ هذا المفهوم يتطور بصورة تجريدية على وفق ماهية الصراع الفكري بين طرفيه المتناقضين، خاصة عندما اصطدم النظام الشمولي الكنسي، وما حمل من تبعات على مستوى المجتمع، بالواقع الموضوعي لهذه المجتمعات الصاعدة، حيث المطالبة بحرية الإنسان واعتباره ذات قائمة بحد ذاتها آنذاك من جهة، والتطور في المفاهيم الخاصة بالمجتمع وحدود حرية الأفراد بينهم (كذات فردية أو/و جمعية) وعلاقتهم بكل من: الفرد والجماعة؛ وعلاقة الجماعة بالدولة؛ وعلاقة الدولة بالدولة ومؤسساتها وحدود سلطاتها من جهة ثانية. وقد ساهم تطور العلوم عامة والتطبيقية خاصة في تأجيج هذا الصراع متخذاً من منظومة المفاهيم الاجتماعية والفكرية والسياسية حقلا له من جهة ثالثة. وأخيرا وليس آخر، أن فكرة العدالة الاجتماعية والصراع بين الخير والشر وتصاعد وتائره، نتيجة تعقد وتشابك العلاقات الاجتماعية، ليتضمن فكرة المواطنة والعقد الاجتماعي. اللتان مثلتا أحد جوانب تطور مفهوم العلمانية.

كان العالم البريطاني (جورج هولي أوك (George Holyoake أول من بدء بطرح هذا المفهوم في كتابه مبادئ العلمانية الصادر عام 1870.. وكما يبدو أن مضمون هذا المفهوم، قبل تبلوره في العصر الحديث، قد وجد صداه أيضا منذ أمد سحيق.. إذ يعود تاريخه، كما أرى، إلى بدايات المجتمعات البشرية بعدما عرف الإنسان ذاته وظهور الملكية الخاصة وما أعقبها من ظهور التفاوت الطبقي ومحاولات الجنس البشري آنذاك لفك ألغاز وطلاسم الظواهر الطبيعية وفهم كنهة ماهيتها، ومن ثم الاستمرار في عبادتها والتبرك بها والخضوع لها أو تركها.. وفي الأحقاب اللاحقة لتطور المجتمع الإنساني تكونت المؤسسة الدينية التي أخذت مكانتها المتميزة في التركيبة الاجتماعي وفي تنظيمها للعلاقات الاجتماعية وتقنينها حسب تصوراتها اللاهوتية، كما قامت بدور المؤول والمفسر لهذه الظواهر الطبيعية.. ومن ثم اتسعت مسؤوليتها إلى شرح وتفسير حتى الظواهر الاجتماعية التي كان يبرزها واقع الصراع الاجتماعي والفكري في بداياته لأولى.

وفي الوقت ذاته كان نشوء النظرة العقلانية هو المنطلق لبروز الإلحاد كبديل للخرافات والأساطير الميتافيزيقية، وعليه تكونت مؤسسة الإلحاد ونشأت تصوراتها للواقع وللعلاقات الاجتماعية وتنوعت فلسفتها وتفسيراتها.. إذ أخذ الإلحاد بالتبلور الأول منذ فجر الحضارات الأولى وكان يتمركز في البدء في رفضه للطرح الميتافيزيقي الذي تعبر عنه المؤسسة الدينية، من خلال تبنيه لفكرة أن {الطبيعة تُدرك بما هي عليه بناءً على الفهم الإنساني لها ولا داع لإسقاط التصورات من خارج الطبيعة أو من ورائها}. ثم اتسع المفهوم لنقد التصورات الدينية للوجود الاجتماعي.. وكان توماس هوبز أول من وجه نار النقد والتشكيك في مصداقية هذه التصورات منذ منتصف القرن السابع عشر.
في حين بدأت الكتابات النقدية للتصورات والمحرمات الدينية في البلاد العربية والإسلامية منذ أن أخذت مؤسسة الدولة الإسلامية بالتبلور بعد ظهور الدولة الأموية واشتداد الصراع بين مختلف القوى الاجتماعية المطالبة بفصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية فإن بعض معارضي الدولة الأموية، مثلاً، عندما بايعوا معاوية خاطبوه بالقول:{ نحن للأمة في أمور دينها وأنت للأمة في أمور دنياها}. واستمرت مثل هذه الحالات طيلة الفترة اللاحقة حتى أخذت شكلاً آخر في الدولة العباسية وعلى الأدق منذ خلافة المأمون عندما شجع بقوة عملية الترجمات الفلسفية والعلمية الإغريقية..إذ بدأت تظهر القراءات المغايرة للنظرة الدينية وقد كانت بصورة غير مباشرة وغير حدية إن لم تكن بشكل مهادن.. ثم انتعشت هذه التوجهات في الأندلس حيث ظهرت تصورات فكرية من خارج الموروث الثقافي والسيسيولوجي الديني. وما قول المصلح محمد عبده { لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين}، إلا تعبير عن مثل هذه التصورات، حتى تأثرت بها الدساتير في الدول الإسلامية عندما تبنت فكرة المواطنة هي الأساس في الدولة الحديثة.

وهكذا يحدثنا التاريخ البشري بأن الصراع بين السلطتين الدينية والدولة (بغض النظر عن شكلها وماهيتها)، عَمَّ مختلف حقول المعرفة والإنتاج الاجتماعي وحدود الخيار فيها.. وأخذ هذا الصراع يتطور في مساراته من حيث الشكل والمضمون ويأخذ أبعاداً تنافسية مع تطور المجتمعات البشرية ورقيها الحضاري.. وكانت الفلسفة الحقل الأوسع والأوضح لهذا الصراع وخاصة التجريدي منه. لذا تطورت هذه المفاهيم وتلك الإشكاليات وكان منها موضوع العلمانية أو اللا دينية وعلى الأخص منذ أفول النظام الإقطاعي في أوربا ونمو التشكيلة الرأسمالية في رحمها.. حيث تم نقد ودحض الخرافات الميتافيزيقية وتفضيل ما هو عقلاني من تفسيرات للواقعين الاجتماعي والطبيعي.

وكما قلت مر مضمون هذا المصطلح { العلمانية} المشتق من كلمة ( Seculatism) الإنكليزية، والتي تعني حرفيا (الدنيوية) أو بالأحرى قل أنها { تعني الارتباط بالعالم الحقيقي الذي نختبره بحواسنا وما نشتق منه قدراتنا على التفسير}، أما تعريف هولي أوك فهو: { شكل من الرأي يربط نفسه بالأسئلة والقضايا التي يمكن اختبارها من خلال تجربة هذه الحياة}. لكن هذا المضمون قد اكتسب في الآونة الأخيرة، في عالمنا العربي، بصورة خاصة، شكلا مقتضباً للغاية حُصر في ما معناه:{ فصل الدين عن الدولة وعدم تدخل الدين في إدارة الشؤون العامة}.هذا الفهم، كما قلنا، مختزل ومجحف لمفهوم العلمانية ويمكن أن نطلق عليه مفهوم العلمنة (Secularisation) وليس العلمانية المنطلقة، بالأساس، من حيث البعدين الاجتماعي والسياسي، من فكرة عدم تصنيف الناس حسب معتقداتهم الشخصية أو/و أصولهم العرقية أو/و الدينية والمذهبية وغيرها من الاختلافات بين بني البشر.

وتأسيسا على ذلك أمست العلمانية، شئنا أم أبينا، النزعة الفكرية التي استخدمت في الصراع مع واقع العلاقة بين مؤسسة الدولة وسلطة الكنيسة عندما (تفشت الظلمة بحلول العصور الوسطى وتشددها الديني الرهيب)، حسب تعبير الباحث الجاد رشيد الخيون، إذ كان الصراع محتدم بينهم طالما لكل منهم حقله الخاص المعرفي والوظيفي والاجتماعي، بما يتناسب ومدى الفهم للثابت والمتحول في الموقف الفلسفي من الوجود الاجتماعي (الحياة المادية للمجتمع والعلاقات المادية التي تتشكل بين الناس خلال ممارساتهم العملية المحسوسة للإنتاج الاجتماعي). وبما أن الإنسان هو في حالة تغيير ارتقائي مستمر في وعيه الاجتماعي وتجلياته، الفلسفية والمعرفية والجمالية والحقوقية بل وحتى الدينية منها.. وطالما أن وجوده الاجتماعي..هو الآخر في حالة تطور وتغيير مستمرين بصورة عامة، وهذا ما يدلل عليه تاريخية الإنسان منذ أن وعى ذاته الفردية والجمعية والى وقتنا الحاضر، هذا من جانب.

ومن جانب آخر يتحكم الثابت في حقل الدين.. في حين أن الذي يتحكم بالدولة (ومقومها الأرأس البشر) هو المتغير الدائم الحركة والمتوقف على طبيعة المواقف الأساسية الحامية لمصالح المجتمع والطبقات على وفق المنظور المحسوس وليس الغيبي. وهذا ما تعبر عنه مضامين الفتوى والتفسيرات الدينية بحد ذاتها (ما عدى الثوابت كالواجبات والنص القرآني) عن هذه الماهية.. حيث أنهما يتغيران بتغير المكان والزمان وخًرجت لهما بمقولة (للضرورة أحكامها) التي تعني في بعض مضامينها الاعتراف بالمتغير. وارتباطا بذلك يمكن التأمل بقول المفكر الكبير علي ابن أبي طالب عندما قال:{ إن معروف زماننا هذا منكر زمان مضى، ومنكر زماننا معروف زمانٍ لم يأت }. إذ تعبر هذه العبارة عن جدلية التغيير في القيم والمعايير والتحول الذي يصيبهما.

هذه النظرة الجدلية لواقع الصراع المفاهيمي تعكس ماهية الحالة بين الثابت والمتحول، والموقف من المتغيرات التي تطرأ على الوجود الاجتماعي وهذا يعني، في الوقت نفسه، على المستوى السياسي أن العلمانية تضمن، ضمن ما تضمن، حرية الاعتقاد لكل فرد، بمعنى إنها لا تعني، كما يصورها مناهضوها، بأنها الكفر والإلحاد. بمعنى آخر ينظر المتدينون عامةً والسلفيون على وجه الخصوص، إلى العلمانية..(بوجه واحد ومقاييسها محدودة وذات طبيعة إقصائية، فما دامت تطمح إلى فصل الدين عن أمور تسيير الدولة وشؤونها تبقى تحمل فكرا خطيرا ومدمرا لكل النظريات الإسلامية (الدينية) في الحكم. وتحتم المواجهة والصدام) (ضياء الخالدي،الصباح في 9/9/2009).
وإذا عدنا إلى صلب السؤال لقلنا أن للعلمانية كحركة ومفهوم، بالضرورة، تاريخيا في كل حقول المستويات السياسية والفكرية والثقافي وأزمنتها.. ولا تزال تنتج مفاهيمها العصرية أو/و إعادة إنتاج هذه المفاهيم بما يتلاءم مع المتغير في الوجود الاجتماعي، فعلى سبيل المثال.. لقد فرض واقع الصراع، إن لم نقل التناقض، الفكري بين الدينيين واللا دينيين في العالم العربي على استنباط مفاهيم جديدة، أو قل إن شئت، وسطية (وربما توفيقية) إستلزمتها الظروف الملموسة، كالقول بالعلمانية المؤمنة، التي تطالب في فصل الدين عن الدولة مع حفاظ المؤسسة الدينية والأفراد على ممارسة أنشطتهم الروحية ضمن الالتزام بحقوق الإفراد والجماعات المختلفة لحقوقها الطبيعية والمكتسبة.. ومن هذا المفاهيم الجديدة أيضاً: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، ومنهم من حاول الابتعاد عن مضمونها الفلسفي وإحلال بديل عنها في عالمنا العربي واعتبار الديمقراطية الضامنة والحاضنة لحقوق الإفراد والجماعات على مختلف تنوعها، هي بمثابة المضمون العملي للعلمانية.

جميع هذه المحاولات والإجتهادات في العالم العربي والإسلامي هي نتيجة للصراع الفكري المتبلور حول ماهيات أو/و سعة مديات المؤسسات الاجتماعية والسياسية الحديثة وفي درجة تفاعلها مع تغيير الواقع وتنظيم علائقه، طالما أن مؤسسات المجتمع المدني ترتكز على معايير: التسامح؛ التنوع؛ الإرادة الحرة المتطوعة؛ والإدارة السلمية، ومساحة فعاليتها وحقول ممارساتها، التي تفرضها طبيعة درجة التطور في الوجود الاجتماعي وحدة تناقضات علاقاته الداخلية. كان الاحتكاك بالعالم الغربي هو النقطة الأكثر بروزا في هذا الصراع.. لكن هذا لا يعني أن العالم العربي الإسلامي لم يشهد مثلك تلك الصراعات بين المدارس الفلسفية الإسلامية كإخوان الصفا والمعتزلة وغيرها من المدارس الفلسفية التي يتحدث عنها التراث العربي الإسلامي، والتي تشترك غالبيتها في الخط العام التي تحكمها رؤية أحادية الجانب وخاصة في العصر الوسيط للعالم العربي والإسلامي، عندما نظرت جميعها إلى ذاتها المتباينة كما لو أنها مستقلة بصورة مطلقة عن تاريخيتها، أي ظلت قاصرة عن كشف العلاقات الواقعية الموضوعية، غير المباشرة، بين القوانين الداخلية لعملية الإنجاز الفكري وبين القوانين العامة لحركة الواقع الاجتماعي، أي بقطع صلته بجذورها الاجتماعية.

من زاوية ثانية يمكن القول بأن ماهيات بعض الحركات الاجتماعية في تاريخنا العربي والإسلامي، كانت ماهيتها المعرفية والفلسفية أقرب إلى الفهم المعاصر للعلمانية كحركة القرامطة التي اعتبرها بعض الباحثين الجادين أول جمهورية عربية في العصر الوسيط، إن لم نقل في التاريخ العربي برمته.. فكانت دولة من طراز جديد من حيث: قواها الاجتماعية؛ ومضامين برامجها الاجتصادية؛ وآفاقها المستقبلية؛ ومطلقاتها الفكرية، خاصةً عندما انطلقت من {تأليه العقل} وأن الله هو {العقل الأعلى}. هذه المنطلقات تركت أثرا لدى جمهر من العلماء والمفكرين الإسلاميين.. لكنها لم تتطور بما فيه الكفاية لعوامل موضوعية وذاتية تنصب بعض ماهياتها في السؤال المتمركز حول استفهامية لماذا لم تتطور العلاقات السلعية النقدية في العصر العربي الوسيط وعدم قدرة هذه العلاقات على التطور لبلوغ النظام الرأسمالي عبر تطوير بناءه التحتي ليفرز لنا بناءً فوقيا يتلاءم وإياها.. وهذا حديثا ليس مجالا التوسع فيه هنا. وربما تكمن الإجابة المكثفة جدا، في قوة البناء الفوقي السلفي الذي ساد ويسود العالم العربي ونظرته إلى هذه القضايا التي تمس الأبعاد المادية ومن ثم الفلسفية والفكرية.

لقد أحدث مصطلح العلمانية وأثار جدلا واسعا في العراق، كما في بقية البلدان العربية، وكانت تخوم القرن العشرين (الفترة التكوينية أو الجنينية) للبروز العملي لهذا المفهوم في المجتمع العراقي، إذ كانت هذه الفترة بمثابة المرحلة الجديدة للعراق المعاصر لتسرب المفاهيم العلمية التي تدلل على الاستدلال بهذا المفهوم أو قريبة منه كمنظومة حداثوية وهدفا مستقبليا، ترجمت ذاتها عبر أنشطة فكرية وحركات ذات نظرة تغيرية اجتماعية وأحزاب ومؤسسات سياسية. لقد كانت الحرب العالمية الأولى، وما أعقبها من تغيرات في بنية الدولة وقوامها وقاعدتها الاجتماعية، واحدة من أهم المؤثرات في هذا التغيير الذي شهده المجتمع العراقي.

وفي هذا السياق وضمن هذه التناقضات لابد من الإشارة إلى ملاحظة هامة لها علاقة بموضوعنا استقيتها من واقع الأنساق المتعددة للفكر العراقي وتطوره وهي: أن العاملين في الحركات الاجتماعية والسياسية العامة وذات البعد التنويري خاصةً العراقية قد برزت وبرعت بصورة كبيرة في الجانب التنظيمي لهذه الحركات أكثر مما هو عليه في الجانب التنظيري التجريدي لها، لذا لم يستطيعوا تكوين:
- بناء نظري لماهية الدولة العراقية وآفاقها المستقبلي، والمفروض أن تكون مرتكزة على الهوية الوطنية (الجوهر الأرأس للعلمانية) والخيار المشترك والعقد الاجتماعي؛
- ولا لبنية المجتمع عامةً والمدني، خاصةً ومكوناته ومعاييره باعتباره الوسيط بين الدولة والمواطن، وهو كما قيل مولد المجتمع السياسي الديناميكي، إن لم نقل الدولة ذاتها.

ومن جانب أخرى أرى أن شيوع وتسرب الأفكار المساواتية (ببعديها الديني واللاديني) وتلك ذات المسحة (الاشتراكية) واللبرالية الحديثة التي شهدها المجتمع العراقي منذ مطلع القرن المنصرم وازدادت حدته بعد نشوء الدولة العراقية المعاصرة.. جاءت ليس من خلال الصراع الاجتماعي الداخلي للمجتمع العراقي، بل كانت ذات طبيعة فوقية استلزمتها: الظروف المادية لتأسيس الدولة العراقية ذاتها؛ وتدخل العامل الخارجي في تكيف الواقع العراقي على وفق مصالحه الاستراتيجية من جهة؛ ومتطلبات الوجود الاجتماعي ذاته من جهة ثانية. وأزعم أن أحد أسباب هذه الظاهرة يكمن في عمق التخلف الاقتصادي/الاجتماعي، وكان ضعف القوى المنتجة دلالته الأرأس في المجتمع العراقي.. منذ سقوط بغداد على يد هولاكو في شباط 1258، ومن ثم تعدد الاحتلالات الأجنبية وأخرها كان العثماني الذي دام أكثر من خمسة قرون. وما التطور الذي حدث في هذا المجال الفكري، في منتصف العشرينيات سوى تعبير عن الاستقلالية النسبية للبناء الفوقي عن البناء التحتي. وكان في رحم هذه الظروف صيرورة تتشكل بتراكمات كمية بصورة بطيئة، تحولت لاحقاً إلى كيفيات سياسية وفكرية ونظرية.. مَثل بعضها فواصل مهمة في تاريخ العراق المعاصر، كالتغيير الجذري في 14 تموز. تفسر هذه الصيرورات (مع مجموعة عوامل أخرى) إلى حد كبير سبب عدم الاستقرار العام في العراق باعتبار أنه يعيش في مرحلة انتقالية. أما طرق انسياب هذه الأفكار المعرفية الجديدة للعقول، وخاصة الشابة المتعلمة والمثقفة، فكان بصورة سرية في البدء وبطرق مختلفة منها من خلال:
- الكتب والمجلات والصحف العربية والأجنبية التي بدأت تتوافد منذ مطلع القرن العشرين؛
- الصلات المباشرة التي أقامها بعض المثقفين العراقيين مع قوى تقدمية في الخارج؛
- الالتقاء ببعض مؤيدي الاشتراكية والراديكالية خاصةً، أثناء الحرب العالمية الأولى؛
- ما كان ينقله ويبشر به بعض زوار العتبات المقدسة والصحفيين والسياح الأجانب؛
- الصلات المنظمة التي أقامها رواد الفكر التقدمي (الاشتراكي) مع الأممية الشيوعية؛
- الجنود والفنيين الهنود وبعض البريطانيين العاملين ضمن جيش الاحتلال الأول؛
- خلال الطلبة العراقيون العائدون من الخارج والمتأثرين بالفكر العلمي واللبرالي.

بدأت هذه الأفكار تتسلل بهدوء وسرية إلى عقول المثقفين النيرة كوسيلة ومنهج للخروج بإجابات لما تطرحه الحياة من إشكاليات وتساؤلات من منظور علمي جديد يخالف ما هو متداول من أفكار غيبية وتفسيرات لاهوتية والتي كانت تعبر عما تطرحه المؤسسة الدينية والتقليدية، بحيث لم تعد مقنعة للجيل المتعلم. لقد أثارت هذه الظروف مكامن البحث ليس عن الاستقلال السياسي فحسب، بل اكتسبت قبل ذلك بسنوات لدى جيل الشباب مشاعر الشك والاستفهام حول التوجه السياسي وتركيبة السلطة وماهية قاعدتها الاجتماعية والمحيط الاجتماعي وما ينتابه من قيم أفكار، عادات وتقاليد من قدسية النصوص وتبجيل القديم بكليته حتى ظهرت مشاعر التمرد بينهم. كما تعمق الانزعاج الفكري الذي عبر أول ما عبر عن نفسه في سنوات مطلع القرن الماضي والذي كانت جذوره تمتد إلى استنفاد الإسلام، وأصبح ميل الشباب التعلم إلى الشك بالأمور التي يراها كبار السن مثالية أو يعتبرونها مسلمات وانحسر احترام هؤلاء الشباب للتقاليد. كما بدأ الناس يسمعون في هذا الوقت، كما رصد ذلك الباحث الأكاديمي د.عامر حسن فياض، صيحات تطالب بالنظام الجمهوري وتحرير المرأة ومساواتها بالحقوق (الطبيعية والمكتسبة) والمطالبة بالحرية الفكرية والاهتمام بالمشاكل الاجتماعية.. كان التحسس بواقعها في الحياة السياسية والاجتماعية قد بدأ بصورة جلية منذ بداية العقد الثاني، وتبلورت بصورة ممنهجة إلى حدٍ ما في العقد الثالث من القرن المنصرم، وما إشراك العمال والأجراء والطلبة والقوى المهنية والمتعلمين ( وهم يمثلون نواة الطبقة الوسطى) منذ نهاية العشرينات في الساحة السياسية والحراك الاجتماعي إلا دليل على ذلك.

وتأسيسا على ذلك يمكننا أن نؤرخ للفكر المسترشد بمفهوم العلمانية في العراق، كمحصلة جماعية، من أنه كان مع بدايات النشاط العلني للرواد الأوائل للفكر المساواتي (الاشتراكي) التقدمي والذي عبر عن آرائهم حسين الرحال ومجموعته، الذين مثلوا النواة الناضجة لفئة المثقفين(الانتلجنسيا) العضويين الذين قرروا إصدار مجلة ناطقة باسمهم وتعبر عن توجهاتهم ونظرتهم للحياة على وفق منظور علمي.. وهكذا أصدروا مجلة (الصحيفة). لكن في الوقت نفسه علينا أن لا نبخس دور رواد الفكر اللبرالي الذين بدءوا منذ مطلع القرن العشرين بالنضال بالكلمة ونشر الرأي الجريء وخاصة بعد حركة المشروطة في إيران (1906) والانقلاب الدستوري العثماني (1908)، وكان الشاعر جميل صدقي الزهاوي من ابرز هؤلاء الرواد اللبراليين خاصة إذا علمنا أن الظروف الداخلية والخارجية وما تمخض عنها في تلك السنوات وما تلتها.. قد وِسمت بصفة التطرف السياسي حتى أصبح الاعتدال بغيضاً نتيجة للتململ والحراك للمحرومين والفقراء في المدن خاصةً والفلاحين المطرودين من الأرض على وفق تغيير واقع ملكيتها.. لذا قام الحزب السري العراقي، كما يرصد ذلك الأكاديمي حنا بطاطو، بتهديد طبقة التجار، ففي تموز عام 1924 قام بعض من أعضاء الحزب المسلحون باقتحام مكاتب بعض كبار الأثرياء وهددوهم بالموت إذا لم يدفعوا آلاف الروبيات.

في مثل هذه الظروف ومن خلال هذا الاندفاع الفكري وتلك المؤشرات التأسيسية الفكرية التي نشأت ثم تطورت رويدا رويداً، بدأ الصراع الحقيقي على عدة مستويات:
- الدولة ومؤسساتها والمكونات الاجتماعية؛
- الهوية الوطنية وصراعها مع الولاءات الدنيا؛
- الصراع من اجل تغيير الكثير من عناصر العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع؛
- السوق الموحدة والأنماط الاقتصادية وتلائمها مع الحداثة والعصرنة؛
- بين المؤسسات السياسية والمجتمع المدني وبين الصيرورة المادية لتأسيسها؛
- الصراع بين القيم والموروث الاجتماعي (ذو الطابع الديني) ومتطلبات التطور؛
- الطبقة الوسطى ودورها في عملية التغيير الاجتماعي والأفق التاريخي لمشروعها.



*
تعاني الحركات العلمانية أزمة مستديمة منذ سبعينات القرن الماضي حيث ضآلة شعبيتها وتشر ذمها واختلاط القيم والمفاهيم (الحرية وحرية المعتقد الديني؛ المساواة؛ التسامح؛ المواطنة) هذه المفاهيم تبدو شاحبة وغير محدودة في البنى الفكرية للجماعات العلمانية أو الحركات أو التجمعات. أين تكمن الأزمة هل هي سياسية ظرفية أم أزمة تأسيسية ( أزمة الدولة والمجتمع والثقافة).

***
في البدء علينا الإقرار بصواب تشخيصكم للأزمة وأنها أصبحت ظاهرة ليس في الحقل الفكري حسب، بل شملت البنى الثقافية والسياسية والتنظيمية وانعكست في الإبداع العام وغياب روح الحداثة في النص وماهيته وفي الغائية الاجتماعية له. هذا من جهة. ومن جهة ثانية علينا قبل الإجابة التنويه إلى أن من أهم العوامل التي أثرت في مجمل القضايا الفكرية تلك التي تكمن فيما أرى في تعددية البنى الفوقية للمجتمع العراقي نتيجة لتعددية الأنماط الاقتصادية..إذ يُوصف الاقتصاد العراقي بتعايش أكثر من نمط اقتصادي في آنٍ واحد.. وطالما أن الوعي الاجتماعي للناس هو نتاج لوجودهم الاجتماعي، أي إن إنتاج الأفكار والتماثلات والوعي ترتبط قبل كل شيء وبصورة صحيحة بنشاط البشر المادي وتعاملهم المادي، إنه لغة الحياة الواقعية. لذلك يجب أن نبحث عن تفسير لجميع أنواع النتاجات النظرية وأشكال الوعي من الدين وفلسفة وأخلاق في المجتمع، أي أن نفسر الفكر من زاوية الممارسة المادية لا العكس. ولذا فالوعي الاجتماعي وتجلياته كان في مجتمع العبيد وعياً ذات طبيعة ميثولوجية، في حين كان في مجتمع الإقطاع في علاقته بالعالم وعياً دينياً، أما في المجتمعات الرأسمالية فكان ذو طبيعة صنمية.. وعليه ففي هذه التشكيلات الاجتماعية التي تؤكد العام أكثر من الخاص، يُصنع وعياً وهمياً زائفاً لا يختلف في بنيته إلا بالمظهر الخارجي.. ونستنتج بأن هذا الوعي سيكون أكثر تشوها في عالم الأطراف ذات الأنماط الاقتصادية المتعددة حيث يقترن الميثولوجي بالديني وكلاهما بالصمني .. مما يكبح من فعالية الوعي كقوة دافعة، ويزداد التشابك من مفردات هذا الوعي ومفاهيمه.

وعند العودة إلى ذات السؤال نرى صحة تحقيبه للأزمة وربطها منذ سبعينيات القرن المنصرم..لكني اعتقد أن هذا التشخيص قد طال ليس كل الجوانب المتعلقة بالحركات العلمانية.. ربما أصاب السؤال في واحد أو أكثر، وعلى الأخص أزمة التنظيم للحركات العلمانية أو حتى ذات اللمسة العلمانية التي كانت خاتمتها منع نشاطها ومن ثم الإبعاد القسري لأغلب هذه التنظيمات من الساحة العراقية ، جغرافياً وتأثيرا، وبالأخص قواها الراديكالية .. والشيوعية على وجه الخصوص. ومن خلال قراءتي لواقع النظام السياسي للعراق المعاصر..أثار انتباهي عمق الملاحقة الفكرية والاضطهاد الجسدي الفيزيائي والروحي، والتشريد والتفتيت الذي أنصب على هذه الحركات ومفاهيمها العضوية ومؤيديها منذ الاحتلال الأول (1917-1932) عندما أسس ما أطلق عليه عام 1917، (التحقيقات الجنائية). وقد ألصقت بهذه الحركات وقواها شتى النعوت اللا أخلاقية بغية خلق رأي عام، لدى أكبر كمية ممكنة من الناس، ضد هذه الحركات التي رغم كل ذلك، لعبت دورا تنويريا مؤثراً، شاءوا أم أبوا، اتفقنا معها أو لم نتفق، ووسمت الثقافة العراقية عموما بنزعة تحريرية ذات منهج تاريخي مقترن بمنطق علمي وذو أفق مستقبلي بدأ ينحسر، ولم يقضى عليه، منذ نهاية سبعينيات القرن المنصرم نتيجة للقهر والملاحقة. ومما عمق هذا الانحسار هو أن الحكومات التي استولت على السلطة بالمعونة الأجنبية في الجمهورية الثانية (1963-2003)، رأت بحدسها السياسي وحسها الطبقي أن بقاؤها بالسلطة مرهون بالتبني الشكلي (المظهري) أفكار الحركات العلمانية، أو إن شئت قل ذات لثغة علمانية فحسب.. لذا تبنت عمليا هذه الأفكار والمفاهيم الملثغة بالعلمانية لكنها أفرغتها من ماهياتها الاجتصادية (الاجتماعية /الاقتصادية)، وتم لها ذلك وسحبت عمليا البساط من أرضية هذه الحركات العضوية المؤثرة فكريا وشعبيا وخاصةً لدى شباب ومتعلمي ومثقفي المدن. وبعد أن أمنت تلك السلطات القمعية بقاءها في السلطة ارتدت عن هذه المفاهيم وبدأت بتريف المجتمع المديني وقتل روح المعاصرة والحداثة وأخذت تستلهم الماضي بشموليته بشكل تبريري لا موضوعي، أي أنها حاولت تكراره بصورة مشوه وتؤكد على الجوانب الذاتوية لهذا التاريخ ويتجاهلون طابعه وطبقيته وزمنيته وبمعزل عن علاقته بالواقع الاجتماتاريخي (الاجتماعي/ التاريخي) المادي، وبالقوة البشرية المنتجة ودورها في خلق هذا التراث.

لنعد ثانية وننظر لموضوع السؤال بكليته.. فأني اعتقد أن أزمة الحركات العلمانية تكمن في مجموعة من العوامل: الموضوعية ( تعددية البنى العلوية على رأسها) والذاتية (مكونات القوى السياسية وبنيتها) لكل من: البلد ؛ للحركات العلمانية ؛ للقوة التغيرية الاجتماعية التي تتضمنها هذه المفاهيم وماهياتها الفلسفية وكيفية رؤيتنا الخاصة لها وممارستها ومفعول تأثيرها في صيرورة التغيير الاجتماعي وما تؤثر في المصالح للطبقات والفئات الاجتماعية المتباينة. لذا لا يمكن حصر السببية في عامل واحد بأي شكل كان، إذ علينا أن نحلل بنية النظام الاجتصادي/السياسي والبحث عن صلة هذه المفاهيم بتاريخها الحقيقي والموضوعي وماهية بيئتها. أي بمعنى آخر أن نحدد تاريخيتها. من جانب آخر أرى أن العوامل المؤثرة يمكن تصنيفها، من حيث الأهمية، إلى: عوامل أرأسية وأخرى رئيسية وثالثة ثانوية.. بغية الكشف عن قيم هذه المفاهيم النسبية..طالما أنها لا تقوم وتمارس في فراغ.. بل في ظل نظام سياسي ذو بعد تاريخي.

عليه إن العودة إلى تاريخية الحركات العلمانية والفكرية (ربما) سيوضح بعض من إشكالياتها الحالية إذ إن الفكر الحداثوي، أو إن شئت حركة النهضة، نمت وتوسعت في العراق منذ بداية تاريخ العراق الحديث، والذي اعتقد أن بدايته كانت منذ النمو الجنيني للسوق العراقية الموحدة التي ابتدأت بالتشكل منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وتسارع خطاها، على وجه التحديد، بعد إصلاحات والي بغداد(العراق) مدحت باشا في الفترة (1869-1872).

لكن الفترة الأكثر خطورة وأهمية بالنسبة لبداية تطور العراق، وخاصة الفكرية، كانت مطلع القرن المنصرم وخاصةً منذ الحرب العالمية الأولى ومن ثم تأسيس الدولة العراقية وبعد الاحتكاك المباشر بالغرب الأوربي والبريطاني على وجه الخصوص. حيث بدأت الأفكار تغزو عقول المثقفين والمتعلمين .. وبروز ظواهر جديدة في المجتمع العراقي لم تستطع الثقافة التقليدية مجاراتها من جهة؛ ولم تكن تفسيراتها لهذه الظواهر مقنعاً لدى قطاعات واسعة من الفئات الاجتماعية الجديدة، التي أخذت تنمو في رحم حاضنتها الجديدة (الدولة العراقية) وإلى حدٍ ما (قوى الاحتلال الأول بريطانيا). في هذه الظرف احتدم الصراع بدرجة كبيرة بين الثقافتين التقليدية والحديثة.. وقد ترجمتها كثير من الممارسات الحياتية سواء في العقل والأنماط الفكرية أو في طراز الحياة والسلوكية الاجتماعية في العيش واللباس وفي استخدامها للمنجز العلمي الذي إستطحبته قوى المحتل الأجنبي، من خطوط التلغراف ووسائط النقل الحديثة (سيارات سكك حديد، طيران وسفن بخارية) التي هيأت بدورها لنشوء أشكال جديدة من إنتاج الثقافة وبروز مفاهيم جديدة لم تكن مألوفة في المجتمع العراقي.. حتى جعلت الفرد يتمرد ويتصارع مع نفسه ومع محيطه وبيئته وموروثه السيسيولوجي/ الثقافي.. فكانت علامة بارزة في التراكم الكمي وبالتالي في تحولها إلى صيرورات اجتماعية نوعية.. هذا التحول أقترن بظهور ظاهرتين جديدتين هما:

-الأولى: تكون الطبقة الوسطى (الفئات البينية) وخاصةً الطلبة وضباط المؤسسة العسكرية والمعلمين والمحامين وكذلك فئة التجار والعمال المأجورين الذين مثلوا الحالة الجنينية للطبقة العاملة بعد عدة عقود لاحقة.. حيث شاركت هذه الفئات، بهذه الدرجة أو تلك، في عملية التغيير الاجتماعي. ومما زاد هذه الوضعية حراكاً هو بروز فئة (البرولتاريا الرثة- الهامشيين) في المدن الكبيرة بعد انتزاع (أغلبيتهم) عنوة من الريف وطردهم منها والاستحواذ على الأرض بموجب قوانين التسوية وتغيير الملكية الحقوقية لأراضي العشيرة ومنحها بصورة ملكية خاصة لشيخ العشيرة (الإقطاعي) بدلاً من الاستغلال المشترك للعشيرة وخاصةً في المناطق الرسوبية (الوسطى والجنوبية). لقد لعبت هذه الفئة الهامشية دورا كبيرا في الحركات الاجتماعية والسياسية سواءً بالريف أو بالمدينة ومثلوا ضغطاً كبيرا على مؤسسات الدولة والحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية ذاتها. إذ كانت مثل أغلبية الفئات الاجتماعية، لديها فهمها وتفسيراتها الخاصة لمجمل المفاهيم الحديثة التي غزت الواقع الاجتماعي الراكد مثل: (الحرية الشخصية؛ حرية المعتقد الديني؛ المساواة؛ التسامح؛ المواطنة، الديمقراطية، البرلمانية...الخ). هذا الفهم لا ينفصل عن رغبتها في التخلص من الفاقة والحرمان والإفقار (النسبي والمطلق).. لذا كانت مشاعر المنتمين إليها، مع القوى الطبقية الجديدة التي كانت تزرع فيهم الأمل في الخلاص من واقع الاستلاب والاغتراب.. لذا توزعت مشاربهم في الانتماء الحزبي على عدة حركات سياسية وتركزة بصورة خاصة في القوى السياسية صاحبة المشروع الديمقراطي العام والراديكالي بصورة أخص والتي كانت تعبر عن مطامحها ومصالحها. ومن فئة (الهامشيين)، بالأساس، تكون تيار خفي من تيارات الرأي العام كان ولا يزال يتخلل فئات المحرومين خارج إطار سياسة القوة، وكان من السهولة بمكان تعبئته لأبسط الذرائع. واعتقد زاعماً أن هذه الفئة وممارساتها قد تفسر أحد أسباب التململ والاضطراب الاجتماعيين وصراع المصالح الضيقة التي تسود المرحلة الانتقالية الحالية للعراق. وللأسف لم تسلط الأضواء العلمية على هذه الفئة ودراسة حجمها ومناشئها الاجتماعية والمناطقية وماهية مكوناتها الفكرية ودورها في تهشيم وتحجيم بعض الأبعاد للمشروع النهضوي التنويري الذي قادته الطبقة الوسطى وخاصة في الجمهورية الأولى (تموز1958-شباط 1963) وما بعدها. وكذلك دورها الحالي في الجمهورية الثالثة (نيسان 2003- ) ومساهماتها في الصراع القائم ذات الطابع العنفي والذي تمثله عدة حركات سياسية أغلبها ذات طابع ديني أو طائفي أو من ذوي الو لاءات الدنيا (علاقات رابطة الدم) والمنطقة والمذهب والاثنية.

- الثانية: بعد هزيمة (ثورة) العشرين ونتيجة لها بالأرأس، تم تأسيس الدولة العراقية وصراعها المستمر من أجل تأمين مسارات قراراتها المركزية حيث دخلت منذ البدء في صراع كبير مع القبائل المتشظية ( وخاصة الكبيرة منها) بغية إخضاعها لقراراتها ومن ثم الاعتماد عليها كأحد عناصر قاعدة الحكم. ولقد تمخض عن هذه الصيرورة السياسية/ الاجتماعية وغيرها عدة أوضاع فكرية/اجتماعية/ سياسية/ اقتصادية.. تمثلت في: تبني النمط شبه الإقطاعي في الريف؛ وهن وضعف دور المؤسسة الدينية لدى الأجيال الشابة؛ نشوء حاضنة مادية للطبقة الوسطى متمثلةً بالدولة المركزية؛ انتشار وتبني للمفاهيم الجديدة من قبيل (الدستور، البرلمانية؛ الديمقراطية، الأحزاب، المجتمع المدني، النقابات، الحرية، الحقوق المدنية، المواطنة، التكافل الاجتماعي، المساواة، العلاقات السلعية -النقدية...الخ).

إن هذه التطورات التي حدثت بالعراق منذ مطلع القرن العشرين، وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى وما تمخض عنها من هزات عميقة، كانت من السرعة بمكان بمقارنةً بمثيلاتها من الدول العربية كمصر وسوريا.. وكانت استجابات المكونات الاجتماعية العراقية لهذه التطورات متباينة في التأثير والتأثر مما أحدث تخلل وتململ في داخل البنية الاجتماعية وبالتالي خلق حالات من الصراع الذي وصل حد التناقض وبعضها كان تناقضا تناحريا اصطبغ بالعنف المادي.
ولوعدنا إلى ذات السؤال في حدوده الابسيمولوجي (المعرفي) فإن الأزمة التي يعيشها الفكر العلماني بكل توجهاته اللبرالية أو/و الراديكالية مرتبط بذلك البعد التاريخي لنشوء المجتمع العراقي المعاصر، وكما سبق أن قلت بعوامل عديدة بعضها ذات طابع ظرفي ( سياسي/اجتماعي/ ثقافي)، والبعض الآخر أزمة لازمته منذ تأسيس الدولة ودخولها العصر الحديث، باعتبارها كانت النافية لماهية الحكم العثماني ومؤسساته الفكرية والتنظيمية التقليدية.
لقد سبق وأن طرحت في دراساتي السابقة ونوهت عن أن هذه المفاهيم الحداثوية قد زرعت بصورة فوقية ولم تكن نتاجا للصراع الاجتماعي للمجتمع العراقي آنذاك، أو إن شئت قل، استوجبها عنصران أراسيان هما:
- مصالح قوى الاحتلال الأول بعد تأسيسها للدولة العراقية وتسليم مفاتيحها الأرأسية إلى الضباط العراقيين في الجيش العثماني وبالأخص الشريفيين منهم من جهة؛
- ومن جهة أخرى إن الدولة العراقية عند تأسيسها قد استمدت شرعيتها من مزيج عاملين رئيسيين هما: ديني يستند إلى الغلبة في المجال غير الرسمي؛ والقوة (المادية واللا مادية) في المجال الرسمي.
لقد تلحف هذين العنصرين بخطاب سياسي ومنظومة مفاهيمية ذات لثغة علمانية مفعمة بمفاهيم وأشكال تنظيمية عصرية استقدمت من خارج حقل ما كان سائدا بين المكونات الاجتماعية للمجتمع العراقي آنذاك، كما لم تكن نتاج للصيرورات والوجود الاجتماعيين المحليين، قدر كونها طبقت (قسراً) من فوق على واقع مختلف ومتخلف في آنٍ واحد، لم يعرفها سابقاً ولم تكن نتيجة صراعه الاجتماعي. هذا الوضع المادي الجديد للسلطة الملكية وفشلها في تهيأت تربة التغيير ذات الأبعاد المتعددة (الاقتصادية والسياسية والاجتماعية)، أدى إلى عواقب مستقبلية وخيمة على نخبة الحكم ذاتها وقاعدتها الاجتماعية من جهة، وعلى ماهيات هذه المفاهيم وفعاليتها العضوية ودورها في هذه الصيرورة المعقدة من جهة ثانية. ومن الناحية السيسيولوجية علينا الاعتراف والقول إن الإشكاليات التي واجهت سلطة الدولة آنذاك كانت فوق إمكانياتها المادية وطاقة تفكيرها المعرفي وحقل ومساحة حرية تحركها في مجتمع متعدد الإنتماءات والولاءات وقرارها السياسي كان منقوصاً، مما أنتج تصادم بل وتناقض بين مكونات الجيل الجديد وفي الأفق التاريخي لثقافته المتناقضة في مفاصلها الأرأسية مع رؤية الثقافة التقليدية ومنظومة مكوناتها التي لم تندحر بعد. أما من الناحية السياسية فإن هذه المفاهيم الجديدة المرتبطة بماهيات الفكر الحديث، قد تم تشويه مضامينها وقتل روحها الحقيقية من قبل نخب الحكم ومثقفيه ليس في المرحلة الملكية فحسب، بل حتى في الجمهورية الثانية (شباط 1963-نيسان 2003) حيث هُمشت هذه المفاهيم وتم محاربتها بلا هوادة وبأشكال متعددة.. لأن مضامينها تتناقض مع فكرة السلطة المتريفة.
وتأسيسا على ذلك يمكننا القول أن هذه المفاهيم المعبرة عن الأفق التاريخي للحداثة وما بعد الحداثة.. قد تعرضت إلى محاربة كبيرة جداً في زمن الحكومات القومانية (الملكية والجمهورية) على وجه الخصوص، وعلى ثلاثة مستويات:
- الأول تفريغ هذه المفاهيم من مضامينها الحقيقية من خلال التزوير والتأويل أو/و من خلال التطبيق المشوه.. بغية خلق وعي زائف عنها لدى السواد الأعظم من المتعلمين والمثقفين التقليدين، وبالتالي النفور منها.
- وينصب المستوى الثاني على التباطؤ في تكوين القاعدة المادية لتطوير الفئة الحاملة لهذه المنظومة الفكرية وأعني بها الطبقة الوسطى تحديدا بفئاتها المتعددة وعلى وجه الخصوص المثقفة عامةً العضوية منها على الأخص.
- أما المستوى الثالث فهو محاولة السلطة لإجتثاث للقوى الراديكالية سياسياً واجتماعياً و(خاصة ذات النزعة اليسارية) الحاملة والمبشرة بهذه المفاهيم، حتى وصل في بعض مفاصله إلى إعدام الحياة للكثيرين منهم.. وهنا يمكن الإشارة إلى القمع المادي لإضراب عمال شركة {النفط} في كاورباغي وما تحمله من دلالات غير مباشرة، وإعدامات وما رافقها من قمع عام 1948، الطامحة للاستقلال والتحديث الدستوري وما تلا ذلك من الانتفاضات الشعبية ذات التطلعات المستقبلية المناقضة في جوهريتها لما هو سائد، في الأعوام 1952؛ 1954؛ 1956، والقمع المادي والمعنوي اللا أخلاقي ذات الطابع الجنائي الذي رافق انقلاب شباط 1963، وما تم من ممارسات همجية متعددة طالت القوى الحركات العلمانية والتنويرية والراديكالية بالأساس منذ عام 1968 ولحين السقوط المخزي للنظام السابق عام 2003. لقد فاق هذا القمع كل التصورات الأخلاقية والسياسية والفكرية وكانت الجمهورية الثانية، حقبة في أغلب مفاصلها، مثلت العقود المظلمة وبمعايير الرؤية الإيديولوجية حقبة بائدة وبالمعيار الثقافي همجية خالصة وبمعايير الجمال فهي قبحا تاما وبمعايير الأخلاق رذيلة لا مثيل لها.. وعلى وفق المفهوم الجنائي فهي جريمة لا تغتفر.

في الوقت نفسه تلعب مقاومة القوى التقليدية ومؤسساتها دورا مهماً في إبطاء غرس مثل هذه الحركات وبالتالي منظومة مفاهيمها ورؤاها في المجتمع.. إذ لا تقف هذه القوى مكتوفة الأيدي إزاء هذا التبني للحركات العلمانية، خاصةً أنها تعتبر مثل هذه الحركات بدعة وتهدد منظومة أفكارها وقيمها.. وهي نظرة اقل ما يقال عنها أنها غير صحيحة. لنا من واقع دخول المؤسسة الدينية في العراق في الحياة الحزبية بعد ثورة 14 تموز بصورة خاصة. طالما{ أن تقاليد جميع الأجيال الغابرة تجثم كالكابوس على أدمغة الأحياء } كما قال ماركس.
لم تستمد ثورة 14 تموز ذات البعد العلماني أشعارها من الماضي بل من المستقبل فحسب لأنها لا تستطيع أن تنفذ مهماتها الأرأسية قبل أن تقضي على خرافات الماضي.. إذ كان في النظام الملكي الجملة تتعدى المحتوى لكن بعد الثورة فأصبح المحتوى يتعدى الجملة. لذا ثارت قوى المؤسسة التقليدية (الدينية والعشائرية والأرستقراطية المحلية) على الثورة وناهضت أغلب إجراءاتها وكان منها الحركة العلمانية.

وتأسيساً على ذلك أرى أن احد أسباب الأزمة يكمن في ماهية الظروف الاجتماعية التي سادت العراق في القرن المنصرم وطبيعة السلطة السياسية التي يتناقض، مشروعها الفكري تناقضا تناحريا مع مفاهيم ورؤى الحركات العلمانية على تعدد مشاربها الفكرية والفلسفية. ولهذا كانت السلطات الحكومية في حالة حرب دائمة طيلة القرن المنصرم مع هذه الحركات التنويرية، باستثناء مرحلة لم تدم أكثر من 1666 يوماً وهي الجمهورية الأولى التي هيأت البيئة الاجتماعية وتربتها لعملية التغيير من منطلق علماني، إلى حد كبير غير مشوب بالعداء للمؤسسة التقليدية، ولم تناهض تصورات الفكر الديني إذ أبقت مساحة كبيرة لمجال نشاطه وممارسته، كما أنها أكثر من ذلك أسست القاعدة المادية للحركة النهضوية ضمن أفق تاريخي موعود وقوى اجتماعية جديدة وبرنامجية متوائمة مع درجة تطور قوى الإنتاج، وتنصب فعالياتها قي خدمة الطبقات الاجتماعية الدنيا.

من جانب آخر إن الأزمة تكمن، كما أرى أيضاً، في طبيعة الطبقة الوسطى ذاتها بفئاتها المتعددة.. إذ كما هو معلوم، ولدت هذه الطبقة في العراق بصورة مشوه في البدء ضمن مؤسسات الدولة، التي ولدت هي الأخرى مشوه وتأسست على أسس غير سليمة من حيث التمثيل الاجتماعي، وتطورت في خضم المهادنة الاجتماعية وخاصةً فئاتها العليا مع نخب الحكم التي لم تعِِِ ماهية وأهمية هذه الطبقة في ظروف العراق المتعدد التكوينات الاجتماعية والأنماط الاقتصادية. وتكمن الأهمية الأساسية للطبقة الوسطى في الدور التاريخي المناط بها انطلاقاً من كونها طبقة انتقالية تتمثل فيها مصالح طبقية مختلفة. لذا يلاحظ أن الفئات العليا منها تبنت، على سبيل المثال، الدستورية البرلمانية واللبرالية الاقتصادية ( الرأسمالية الموجه).. أما المراتب الدنيا منها فقد كانت ذا نزعة راديكالية توزعت على تبني إيديولوجيات قوما نية (فاشية وقومية/شعبوية)، وماركسية عارضت الصيغة البرلمانية للحكم الملكي نتيجة ظروف تكون هذه الفئات ذاتها.. مما أدى إلى تصادم هذه الفئات وتعرقل مسيرتها وانتشار الفكر العلماني وضعف في حراكه العام بين حاضنته التنظيمية.

كما اكتسبت هذه الطبقة أهميتها بسبب غياب الدور الفعال للطبقتين: البرجوازية الوطنية والعاملة لأسباب موضوعية تكمن في الوجود المادي للتخلف العميق ذات البعد التاريخي. وبالرغم من كون هذه الطبقة تتمتع بمزايا الوعي النقدي والإدراك الواقعي والتصرف العقلاني.. لكن التعامل معها تم ولا يزال من منظور مثالي ضيق. لذا لم يرافق نموها نمو دورها في المجتمع، لا بل أنحدر هذا المستوى وذلك النمو منذ دخول العراق في أتون الحروب العبثية المدمرة الداخلية، منذ عام1968 والخارجية منذ عام 1980، ولحد سقوط النظام السابق.

. ومن الملفت للنظر في هذا المجال التخلف النوعي للتعليم والتربية والثقافة بحيث لم تستطع الحركات النهضوية من أن تعيد إنتاج هذه المفاهيم على وفق ضرورات الواقع المادي للوجود الاجتماعي الخاص بالعراق.. بحيث تتلاءم مع هذا الواقع ومن ثم إعادة صياغتها وتكيفها لأجل تكوين مشروع محلي الطابع علمي المضمون يأخذ بمزج المفاهيم العامة مع الخصوصية للظاهرة العراقية. ومن هذا المنطلق عجزت أغلب الحركات التنويرية ذات الطابع العلماني بالانشطار والتشرذم نتيجة كيفية التبني لهذه المفاهيم والمقولات، ومما عمق ذلك هو تباين الترجمات العربية لها. ويمكن رصد هذه الظاهرة ومتابعتها منذ أربعينيات القرن المنصرم واشتد أوارها ما بعد الستينيات حيث تحول الصراع والسجال بين هذه الحركات إلى تناقض تناحري حيث حاولت بعضها( وخاصة تلك التي استولت على السلطة عبر الانقلابية العسكرية) إجتثاث البعض الأخر القريب منها في نمط التفكير، بصورة غير مبررة لا عمليا ولا علميا.. مما أدى هذا الصراع إلى عواقب وخيمة على جميع هذه الحركات التنويرية بحيث عبدت الطريق، ضمن عوامل أخرى، إلى توفير مستلزمات إعادة إحياء الفكر التقليدي وحتى بصيغته السلفية. لنا من بلدان المشرق العربي خير دليل وخاصة في صيغته العراقية حيث الاحتراب شبه المزمن بين كل من هذه الحركات والفكر التقليدي، وفي الوقت نفسه بين ذات الحركات التنويرية. و كانت صيغتها الأكثر شيوعا وتداولاً هو الاحتراب بين الحركات القومانية والقومية (على تعدد أحزابها ) والحركات الديمقراطية عامة واليسارية على الأخص.

هذه الظروف وغيرها كانت من الأسباب التي لم تستطع الحركات السياسية المتبنية للفكر العلماني من تشييد بنية فكرية معبرة بواقعية عن مشروعها المتتوءم مع الوجود الاجتماعي في أفقه المستقبلي.. مما أوقعها في شرك بروز وإحياء الموروث العشائري وتحكمه بها وبحواملها الاجتماعية وعجزها في بناء نفسها في قوة سياسية قادرة على تشكيل مرجعية للحركات العلمانية وفكرها.. نتيجة تخلفها الذاتي وصعوبة ظرفها الموضوعي.


*
نتيجة لغياب التأسيسات النقدية والفكرية للحركات العلمانية العراقية، أصبحت هذه النخب ذات نزعات نخبوية مغلقة وبالمقابل ظهور نخب شعبوية رثة وبدائية منذ ستينيات القرن الماضي وهيمنتها على المشهد السياسي/ كيف تؤسس الحركات العلمانية ذاتها ووجودها الموضوعي في تاريخ العراق الحديث، هل هذا ممكن عبر تفكيك الدولة الريعية العراقية.؟ أم تنمية وترميم الطبقات الاجتماعية الوسطى أم الاندماج بالحداثة؟ وهل أن المجتمع العراقي الراهن يحمل داخله بذور جماعات علمانية؟

**
في البدء علينا تفكيك السؤال من ناحيتين الأولى: مكونات السؤال المتعدد الجوانب؛ والثانية من فرضيات السؤال التي ربما لا يتفق معها جمهرة من مؤيدي الحركات العلمانية. فمثلا ما الدليل على انغلاق النخب العلمانية؟ وهل هي غائبة أم مغيبة؟ وقبيل ذلك هل تبلورت هذه الحركات وكونت نخبها؟ أليس هذه الفرضية محدودة إذ يناقضها النخبة العلمانية العضوية والمنضوية في فعل التغيير الاجتماعي، بغض النظر عن حجمها؟ أما من الناحية المنهجية ففي السؤال يغيب البعد التاريخي لهذه الظاهرة ويحددها بالستينيات من جهة ومن ثم عدم تحديد دقيق للمفاهيم من جهة ثانية، ثم الفصل بين مسببات التأسيس للحركات العلمانية.
وعند العودة للسؤال من حيث الرؤية النظرية..فأرى مما ذكر أعلاه أن بداية هذه الحركات في شكلها الجنيني، كما اشرنا، قد بدأ بالظهور والتشكل منذ عشرينيات القرن المنصرم.. وكان متأثرا بقوة بالظروف الموضوعية للبلد ولذاتية نشوء وتطور المجتمع المعاصر بكل طبقاته وفئاته.. هذا بصورة عامة.. لكن موضوعة بهذا القدر من التشعب والتعقد والتداخل بين الأبعاد المادية واللا مادية للمجتمع؛ وبتداخل حلقات الزمن الثلاث؛ وارتباط العوامل الداخلية بالخارجية للبلد وتفوقت هذه الأخيرة من حيث التأثير؛ ولذات مكونات الموضوعة، فليس بالإمكان تعليلها وتسبيبها، ومن ثم تفكيكها وشرحها، بعامل واحد أو عوامل بسيطة. إذ يمكننا الاسترشاد بذلك الإرث التاريخي لنشوء هذه الحركات التي لأجل نجاحها يتطلب: مستوى عال من الوعي الاجتماعي وتجلياتها بحيث يعكس ماهية سمة العصر من جانب، ومن جانب آخر ماهية درجة التطور الاجتصادي. وبالتالي يلعب هذا الظرف الموضوعي دورا مهما في تبني ومن ثم ترسيخ هذه المفاهيم في الوعي الاجتماعي.. ففي مجتمع تسوده الأساطير والرؤى الغيبية والمفاهيم اللا علمية ويتمسك بالقيم القديمة إن لم تكن بالية بحيث يفرض عليها فكرة القداسة والأزلية والمطلق متناسياً ظرفها التاريخي.. مجتمع كهذا لا يتقبل بسهولة مفاهيم العلمانية والتحرر والانفتاح على العالم وعلى ذاته في الوقت نفسه.. لذا فالمنطلق في تحقيق هذه الصيرورة الاجتماتاريخية تبتدئ من التركيز على تغيير ماهية الوجود الاجتماعي في افقه التاريخي والتغيير في ماهية الأنماط الاقتصادية المادية.. من خلال العمل العضوي لتوفير ظروف الإنتاج الاجتماعي المتطور وإفساح المجال للطبقات الجديدة وبالأخص، في ظرفنا الراهن، للطبقة الوسطى.
نعم إن برنامجية التحديث لا تتعلق في الحاضنة المادية للدولة المركزية فحسب بل بعوامل أخرى ستكون مفتوحة للاجتهادات العديدة والرؤيا المختلفة. ربما يكون تفكيك الدولة الريعية غير المستندة على الإنتاج الاجتماعي المادي، من المهام الأرأسية في الظرف الحالي.. لكن هذا التفكيك يتطلب قوى اجتماعية جديدة لها برنامجية ورؤيا واضحة الحدود وأفق مستقبلي حضاري.. والصعوبات التي تعرقل تحقيق هذا الهدف عديدة ومتباينة من حيث التأثير والديمومة.. تكمن حسب اعتقادي في: التخلف الاقتصادي العام؛ التبعية الاقتصادية للمراكز الرأسمالية؛ المركزية المفرطة للدولة، إذ أن الدولة العراقية ولحد الآن تعتبر أكبر منتج ومستهلك.. ومن هنا يمكن أن نستنبط جملة من المعرقلات لطبيعة الدولة من جهة، ومن جهة أخرى للطبقات الاجتماعية الجديدة التي تحقق المجتمع الحر القائم على الإرادة والخيار المشتركين لكل التكوينات الاجتماعية، وتحقيق الرؤية الموضوعية لواقع علاقة الوجود الاجتماعي وعلاقة المجتمع بالطبيعة والقضاء على الاستلاب والاغتراب للإنسان. بمعنى آخر أن نرتبط بالعالم الحقيقي ونختبره بحواسنا وما تشتق منه قدراتنا على التفسير ومن ثم التغيير من خلال أدوات البحث العلمي المضطردة التطور. هذا المنظور سيحطم الرؤية المقدسة للظواهر وسيكون في حالة تغيير مستمر طالما إن القيم والمعايير هي متغيرة دوماً.. ألم يقل ابن أبي طالب {لا تعلموا أبناءكم عاداتكم.. فهم مخلوقين لزمان غير زمانكم}.

يبين تاريخ العراق، البعيد والقريب، وجود هامات حضارية فيها سمات إبداعية متميزة وهذا ما وسم هذا التاريخ، حتى انعكس في الذات العراقية. كما أن التاريخ يدلل على وجود فلسفات تشكيكية سواءً في العهود الغابرة أو الوسيطة أو الحديثة، وأخرى عقلية وثالثة نقلية...الخ. بمعنى أن التعددية الفكرية بمختلف أشكالها، ضمن ظرفها التاريخي، قد تواجدت في العراق منذ القدم، مما يجيز لنا الاستنتاج بتوافرها في العراق المعاصر متمثلتاً بالعديد من الحركات العلمانية تلك ذات الرؤى اللا دينية من جانب. ومن جانب آخر لو استطعنا تحليل البنية الفكرية السائدة في عراق اليوم فاني أرى وجود تنوع كبير فيها، متباينة في التوجه ومختلف في المضمون الفلسفي والطبقي. وهذا أمرُ موضوعي.. خاصة نحن قد عرفنا إن الحركات الاجتماسياسية ذات الأفكار التنويرية قد بدأت بالظهور في العراق المعاصر منذ تأسيس الدولة الحديثة حتى أن الحزب اللا ديني كان من أوائل الأحزاب التي تأسست في العراق المعاصر. إن فوضى الصراع الفكري المحتدم في العراق الحالي، والمتخذ أشكالاً متعددة، قد يخلط صورة التواجد للحركات العلمانية، خاصةً إذا علمنا أن من المهام الأرأسية للنظام السابق، كانت متمحورة في القضاء على الفكر العلمي والحركات العلمانية.. وهذا له جذور في فكر ميشيل عفلق، وذلك عندما أشار في أربعينيات القرن المنصرم إلى أن أهم دافع لنشوء حزب البعث كان يتمثل في التصدي للفكر الاشتراكي العلمي.. وهذا ما أشار إليه عضو القيادتين القومية والقطرية (السورية) الدكتور محمد الزعبي في أطروحة الدكتوراه عن تأثير الفكر الاشتراكي على أحزاب البرجوازية الصغيرة في المشرق العربي. ولقد حاول النظام السابق إجتثاث هذا الفكر وكل الحركات التنويرية مما مهد بقوة لبروز الأفكار السلفية وإنعاش المؤسسات التقليدية.
وانطلاقا من ذلك يمكننا القول إن التربة العراقية غنية بما تتضمنه من تطلعات تصب في توجهها العام في تأييد الحركات العلمانية، وخاصة عند انتعاش الظرف السياسي والأمني. إن مجرد توفير جزء بسيط من الظروف سوف يعاد تكون هذه الحركات بقوة كبيرة، وعلى رأس ذلك توفير مستلزمات النهوض للطبقة الوسطى بكل فئاتها باستثناء الطفيلية منها، إذ إن التوسع في رفع مستوياتها المادية و المعنوية ومنحها الفرص الكافية يُعد، حسب رأي، ضرورة موضوعية لآجل التعجيل في النشاطات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية، وهذا الدور المهم يتطلب في الوقت نفسه التوسع الكمي والنوعي لهذه الطبقة بفئاتها المتعددة لما لها من دور في عملية الإنتاج الاجتماعي المادي، وكذلك من خلال الانفتاح على المنجز العلمي حتى نستطيع الولوج في دروب المستقبل.
لذا فإن عملية إعادة إنتاج الحركات العلمانية وإعادة دورها الفكري والفلسفي، بالرغم من تعقده وتشابكه، يعتبر مهمة ملحة، ولا يمكن تحديدها بهذا العامل أو ذاك.. بل بجملة متكاملة من الإجراءات تشمل:
- تطوير الوجود الاجتماعي وماهياته والعتلات الحاضنة لنموه بما يخدم الإنسان؛
- تغيير أولويات الأنماط الاقتصادية وتنشيط تلك المنسجمة مع فكرة التطور؛
- العمل على تغيير الظروف المادية لترسيخ الطبقات الجديدة حاملة مشروع التغيير والتنوير وبالأخص، في الظرف الراهن، الطبقة الوسطى؛
- توسيع وتوحيد السوق الوطنية ونشر العلاقات السلعية النقدية؛
- الانفتاح الحقيقي على مختلف الآراء والأفكار والفلسفات وتوجهات الحداثة؛
- تحديث التراث الفلسفي/السيسيولوجي/ الثقافي لما لهم من دور في البناء الديمقراطي؛
- تحديد أفق تاريخي لمستقبل العراق يضمن التفاعل الجدلي للمكونات الاجتماعية برمتها؛

إن التنوع والتعدد في الرؤى الفكرية سمة أساسية لكل المجتمعات الإنسانية، وتبرز هذه بحدة في ظروف التغيير الثوري (ذات الطابع الانتقالي) لبنية المجتمع الحامل بالمجتمع الجديد.. كما أن اختلاف الرأي هو الآخر من سمة المجتمعات البشرية، ومنه يشتق الانشقاق، إن جاز التعبير، ويظهر الجديد وهذا هو جزء أساسي من أوالية (ميكانيزم) الحياة الاجتماعية وتطورها، إذ تتضح من التاريخ الإنساني أنه عند تأسيس كل مؤسسة، فكرية أم اجتماعية، كان ثمة تيار رافض لهذه العملية أو لمضامينها، ومع كل حركة فكرية أو دينية أو فلسفية ينشأ النقيض المعارض لها. وهذه إحدى سنن المجتمعات البشرية، ومن الواجب الأخذ به والتعايش والتأقلم معه. وما الصراع القائم في الوقت الحاضر المناهض للعلمانية ما هو إلا شيء طبيعي من قبل القوى الرافضة لها، كما أرى.. لكن على هذه القوى جميعها أن تتحاور وتتساجل فيما بينها ولا تجتث بعضها البعض الآخر.. طالما غابة المعرفة تستوعب الكل: الصالح والطالح. ومن هذه الرؤية يمكن أن ننشط النظرة النقدية لكل الظواهر الاجتماعية ونخضعها للنقد الموضوعي ونبين درجة تطابق واختلاف ماهياتها مع الواقع الموضوعي.. الذي علينا أن ننطلق منه بغية تقويم آراؤنا لتتحول إلى طاقة عضوية في عملية البناء والتغيير. كما أن ظهور نخب شعبوية ورثة، فهو الأخر نتاج طبيعي لماهيات الوجود الاجتماعي ودرجة التبلور الطبقي، إن تعددية الأنماط الاقتصادية والتشابك المعقد بينها وما تفرزه من بناء فوقي يمثل جوهر الإشكالية. كما كانت هنالك عوامل، اغلبها سياسي كما اعتقد، ساعدت على انتشار مثل هذه الأفكار، وذلك عندما استخدم قهر الدولة الاقتصادي وغير الاقتصادي ضد الحركات التنويرية والعلمانية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إدارة بايدن وملف حجب تطبيق -تيك توك-.. تناقضات وتضارب في الق


.. إدارة جامعة كولومبيا الأمريكية تهمل الطلاب المعتصمين فيها قب




.. حماس.. تناقض في خطاب الجناحين السياسي والعسكري ينعكس سلبا عل


.. حزب الله.. إسرائيل لم تقض على نصف قادتنا




.. وفد أمريكي يجري مباحثات في نيامي بشأن سحب القوات الأمريكية م