الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نهاية نظام وصاية العسكريتاريا على الحياة السياسية التركية

عبدالله تركماني

2010 / 9 / 22
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


متابعة وتيرة التغيير وآفاقه واتجاهاته المستقبلية في تركيا قضية سياسية وفكرية هامة، إذ أنّ تركيا أمام فترة حساسة على مختلف المستويات، ليست انتخابات يوليو/تموز القادم سوى محطتها الأولى، فيما ستكون الانتخابات الرئاسية ذروتها. فليس صدفة، في صراع الإرادات، أن اختار رجب طيب أردوغان 12 سبتمبر/أيلول موعداً لاستفتاء الأتراك على التعديلات الدستورية الـ 26، ففي ذلك اليوم وقبل 28 عاماً فرض العسكر " دستور إيفرين " الذي شرّع لتدخل الجيش في الحياة السياسية.
إنّ العلمانية التركية السائدة تستمد جذورها من سياسات النظام العسكري، الذي أقامه كمال أتاتورك منذ العام 1923، حيث مثلت هذه السياسات محاولة للحفاظ على وجود الدولة التركية، غير أنّ هذه العلمانية ركزت على المظاهر أكثر من تركيزها على المضامين. ويدخل ضمن هذه التقاليد العلمانية المنغلقة إسناد مهمة استثنائية للجيش التركي كحارس للنظام العلماني، تمتد لتشمل التحكم بالنظام السياسي.
والجدير بالذكر هو أنّ المؤسسة العسكرية تعتبر نفسها مؤتمنة ليس فقط على النظام العلماني، ولكن أيضاً على الآليات التطبيقية للدستور، حيث رأيناها تتدخل أحياناً عن طريق السلطة القضائية إما للتذكير بضرورة الالتزام بمبدأ فصل الدين عن الدولة، أو حتى للنظر مباشرة بأمور وممارسات حياتية دينية أخرى كحجاب المرأة وغيره من الأمور اليومية.
لقد بات من الثابت أنّ الديمقراطية التركية كانت حالة خاصة تماماً في واحد من أكبر وأعقد وأصعب ملفات أي نظام ديمقراطي، أي ملف تنظيم العلاقة بين المدنيين والعسكر. فقد قام الجيش بانقلاب في العام 1960، وقام بانقلاب آخر في العام 1971، وفي عام 1980 قام الجيش بالانقلاب الثالث، ومنذ تسعينيات القرن الماضي تغير أسلوب الجيش، حيث تخلى عن الانقلابات العسكرية المباشرة، إرضاء للاتحاد الأوروبي الذي تسعى تركيا للانضمام إليه.
وتتحمل أحزاب " حراس إرث أتاتورك " المدعوة بـ " العلمانية " مسؤولية منع تركيا من إنضاج تجربتها الديمقراطية، مما قاد المجتمع التركي إلى التخبط في معمعة الأزمات السياسية والاقتصادية، ورهنه للاحتقانات الاجتماعية الخطيرة، الأمر الذي حال دون أن يأخذ مسار تطوره خطاً صاعداً نحو التقدم، حين ترسخ في ذهن المواطن أنّ " العسكريتاريا " من صلب العلمانية، وحين ساد في المجتمع ما يُعرف بـ " ثقافة الثكنة " حيث القائد العام للجيش في مقام الرئيس السري للبلاد، أوامره بمثابة تعاليم مقدسة. وهذا ما يفسر تكتل المعارضة كلها لتكسر الإصلاحات المقترحة، لأنها لا تريد بالفعل أن يتم تحديث النظام ويصبح أكثر ديمقراطية عن طريق توسيع قاعدة الحريات، وهي التي تقتات على قوة العسكر والتمييز والتحريض العرقي والمذهبي والطبقي.
ولكنّ إقرار الإصلاحات بنسبة 58 %، وبنسبة مشاركة اقتربت من 77 %، أكد تراجع الأتاتوركية وإرثها لمصلحة الإصلاحات الدستورية، مثلما أكد اتساع دائرة التأييد للتوجه السياسي الذي يمثله حزب " العدالة والتنمية ".
إنّ خيارات الناخب التركي كانت بالفعل التخلص من نظام الوصاية العسكرية المدعوم من المؤسسات القضائية، ولم يكن الحزب الحاكم وحده يريد ذلك، بل أنّ فئات واسعة من الشعب التركي، من ليبرالية ويسارية وقومية وإسلامية، كانت تريد أيضاً تحديث النظام وترسيخ نظام المساواة والعدالة.
وفي هذا السياق من الخطأ اعتبار نتيجة الاستفتاء انتصار تيار إسلامي ضد التيار العلماني، بل إنّ الجانب الاجتماعي هو الأكثر أهمية، إذ أنّ النخبة الكمالية التي تربت في المؤسستين العسكرية والقضائية، وحكمت البلد زهاء أربعين عاماً، تواجه معارضة من الطبقة الوسطى، حاملة التغيير، القادمة من وسط الأناضول. وهذا ما عبر عنه أردوغان بقوله: إنّ تركيا شهدت حدثاً تاريخيا‏ًً,‏ إذ أنّ هذه الـ " نعم " التي عبر عنها الناس لا تبشر بقدوم عهد متجدد من الديمقراطية وحسب، ولكنها سوف تضع أيضاً حداً نهائياً لكل الانقلابات العسكرية التي كانت تزعزع الأمن والاستقرار في البلد وتقوض وتعيق التطور والانفتاح والتقدم.
ولكن يبدو أنّ المرحلة الأتاتوركية كانت ضرورية لإعادة توحيد الأمة التركية، التي تمزقت بفعل نهاية نظام إمبراطوري دام أكثر من 600 سنة، في إطار دولة قومية جديدة. ولولا هذا النجاح الأتاتوركي لكان من المستحيل ولادة المرحلة الأردوغانية، التي يُفترض أن تنقل تركيا من حقبة العسكرة الكاملة إلى حقبة الدمقرطة الكاملة.
وتكمن قوة الأردوغانية: أولا، في شعبية حزب " العدالة والتنمية " الواسعة التي لا تقتصر على الفئات المتدينة من الشعب، فقد ضم جمهور ناخبيه أيضاً علمانيين يتوقون إلى التحولات الديمقراطية، بعد قرن من إمساك الجيش عملياً بالسلطة، وجمهور الأقليات القومية والدينية التي تتوق إلى نظام منفتح يعترف بالتنوع، وطبقة رأسمالية صاعدة. وثانيا، في إنجازاتها الاقتصادية ( أصبحت تركيا، في عهد حكومة حزب " العدالة والتنمية "، في عداد أقوى عشرين اقتصاد في العالم، وفقاً لتصنيف البنك الدولي ) والإصلاحات السياسية الهادفة إلى توسيع هامش الحريات، وتقليص دور الجيش في الحياة العامة، في إطار تلبية معايير " كوبنهاغن " للاتحاد الأوروبي، تمهيداً للحصول على عضويته. وثالثا، بسياساته الإقليمية، وتصالحه مع جميع جيرانه على أساس المصالح المشتركة، وتسوية الخلافات بالحوار، ووضع مصلحة تركيا فوق ما عداها، والوقوف إلى جانب قضايا الحق، والتصدي للغطرسة الإسرائيلية وحصارها الظالم لقطاع غزة.
إنّ التعديلات الإصلاحية لن تؤدي إلى تعزيز المستقبل الديمقراطي لتركيا فقط، وإنما إلى تصحيح أخطاء الماضي، ووضع حد لسطوة المؤسسة العسكرية، وهيمنتها على دوائر صنع القرار تحت ستار كاذب اسمه الحفاظ على مستقبل العلمانية، وقد أصاب الأستاذ ياسين الحاج صالح حين قال " خسر العلمانيون وفازت العلمانية ". الآن سيعود العسكريون إلى ثكناتهم، بعد أن بات محظوراً عليهم، وبمقتضى الدستور، التدخل في العملية السياسية، وقمع الإرادة الشعبية، وحكم صناديق الاقتراع. كما سترتفع رايات " العلمانية المؤمنة " في تركيا، تعبيراً عن المصالحة الحقيقية بين الإسلام والحداثة.
ومن المؤكد أنّ التعديلات الدستورية ليست كلها تعزيزاً لسلطة حزب " العدالة والتنمية "، ولكنها أيضاً أعطت حقوقاً إضافية للأقليات والمرأة وحماية الطفل، ومنحت الأفراد حريات كبيرة لم تكن ممنوحة في السابق. فهي نصت، من ضمن ما نصت، على: توسيع عضوية المحكمة الدستورية العليا ومجالس القضاء، وتعزيز الحق بالمساواة بين المواطنين، واحترام خصوصيات الفرد، وحماية الأطفال، والمساواة في الحقوق والواجبات بين المرأة والرجل، وحق المساواة الجماعية، وتمديد صلاحيات المحاكم المدنية على حساب المحاكم العسكرية، وإنهاء حصانة القوات المسلحة إزاء الملاحقات القضائية.
ومن المؤكد أيضاً أنّ الطريق ليس سهلاً أمام أردوغان وحزبه، فإذا كان تدخل المؤسسات غير المنتخبة مثل العسكر والقضاء في الشأن السياسي مسألة تتعلق بكل شرائح المجتمع فإن التحديات المتبقية عديدة: هناك المسألة الكردية، حيث يريد الأكراد أن يُدخلوا ضمانة الاعتراف بهويتهم في الدستور الجديد، بعد أن كانت المؤسسة العسكرية القومية تنظر إليهم باعتبارهم خطراً انفصالياً.
ومن جهة أخرى، يمكن أن تشكل نتائج الاستفتاء التركي فرصة لكثير من الحكومات العربية، التي ما تزال مترددة في مغادرة مربع العقلية الأمنية، للسير في طريق الإصلاح الحقيقي نحو الديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون واستقلال القضاء. فبالرغم من موقف الحكومات فإنّ الحدث التركي سيساعد على تشكيل نقلة نوعية في الثقافة السياسية العربية، حيث شكل الاستفتاء ونتائجه مفاجأة بالنسبة إلى الرأي العام العربي الذي لم يكن يتوقع أن يكون جيرانهم الأتراك على هذا المستوى من التطور والتقدم.
وأياً كانت النتائج التي ستتمخض عنها التطورات المتسارعة في المشهد السياسي التركي الراهن، فإنّ القراءة الموضوعية للمشهد تكاد توحي بأنّ كرة الجليد تحركت في اتجاه التغيير، حتى أضحى الأتراك بصدد تدشين أسس جمهوريتهم الثانية، كي تغدو أكثر تقبلاً للاختلاف والتعددية وأشد قرباً من الديمقراطية والدولة المدنية الحديثة.
وهكذا، يبدو أنّ استقرار المعادلة بين " الدولة العميقة " القديمة في تركيا، والحزب الحاكم الذي يمثل دينامية الأجيال الجديدة والفئات المتوسطة، ويراهن على الخيار الأوروبي لاحتواء " النظام الأمني "، هو العامل الذي يضمن أن تكون حصيلة سنة 2011 الانتخابية في منزلة إيجابية، ما يفترض أن تكون تركيا قادرة على التطلع إلى الأمام نحو آفاق يعاد خلالها تحريك عجلة الإصلاح وتفعيل الدور الإقليمي.
ولكن هل ستكون حكومة حزب " العدالة والتنمية "، بعد هذا الانتصار، أكثر قدرة على مواجهة المشكلة الكردية، المشكلة الوحيدة ذات الخطورة الاستراتيجية على الداخل التركي، والتي لا تزال تفرض على الجيش التركي نفسه قدراً من العسكرة في العديد من المناطق، أي تفرض خروجاً دائماً من الثكنات في تلك المناطق ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات الطلبة في فرنسا ضد حرب غزة: هل تتسع رقعتها؟| المسائ


.. الرصيف البحري الأميركي المؤقت في غزة.. هل يغير من الواقع الإ




.. هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتحكم في مستقبل الفورمولا؟ | #سك


.. خلافات صينية أميركية في ملفات عديدة وشائكة.. واتفاق على استم




.. جهود مكثفة لتجنب معركة رفح والتوصل لاتفاق هدنة وتبادل.. فهل