الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(الخال فانيا...بين برودة الحدث...وغلبة النماذج) الرديئة على العظيمة

صباح هرمز الشاني

2010 / 9 / 22
الادب والفن


(الخال فانيا...بين برودة الحدث...وغلبة النماذج)الرديئة على العظيمة

الجزء الاول.......
الخال فانيا، واحدة من المسرحيات الأربع الطويلة التي كتبها القاص والمسرحي الروسي الكبير انطوان تشيكوف، الى جانب مسرحياته الثلاث الاخرى المعروفة: طائر البحر، بستان شجرة الكرز، والشقيقات الثلاث وقد عرضت هذه المسرحية بموسكو في الخامس والعشرين من شهر تشرين الاول عام 1889، وقام بأخراجها المنظر والمخرج المسرحي الروسي الذائع الصيت قسطنطين ستانسلافسكي. وكتب عنها مكسيم غوركي عندما شاهدها للمرة الثانية: (دائماً الخال فانيا..دائماً، وسأعود لمشاهدتها حين أحجز مكاناً... المسرحية تفيض افكاراً ورموزاً ويجعل شكلها منها عملاً أصيلاً تماماً غير قابل للمقارنة)(1)
وفي الطرف المقابل، كان تولستوي يحتقرها شأن احتقاره لمسرحيات شكسبير وينتقد ميوعتها ولا اخلاقيتها لافتقارها الى (المأساوية ومراوحة الحدث في مكانه)(2)
وبمعزل عن رأي الكاتبين العملاقين، فأن مسرحية (الخال فانيا) هي أعظم ما كتب تشيكوف، لانها تصلح أن تقدم في كل زمان ومكان وفي كل المجتمعات والعصور والأزمنة، لسبب واضح وبسيط جداً، وهو غلبة النماذج الرديئة فيها من البشر على النماذج العظيمة، وسحق انسانيتها ونبلها، وهذا ما يحدث الان، وحدث في الثلاثين سنة من حكم صدام، وكل الحقبات التأريخية التي مرت بها روسيا و العراق.
واذا عرفنا ان انجذاب (استروف) الطبيب لـ(يلينا) في هذه المسرحية، هو جزء من حياة تشيكوف التي عاشها في فترة معينة من مرضه، وان الاسم الحقيقي لها هو (ليديا أفيلوفا)، فستزداد متعة قراءتها وبالتالي مشاهدتها على خشبة المسرح.
تتكون هذه المسرحية من أربعة فصول، لا يتجاوز طول كل فصل منها على عشرين صفحة، وتدور حوادثها في ملكية (سربرياكوف) الذي ورثها عن طريق زوجته المتوفاة والدة (صونيا)، تحديداً حول انتقال هذا الاستاذ الجامعي والمثقف الدعي مع زوجته (يلينا) للعيش في هذه الملكية، لأنه لم يعد يتحمل العيش في المدينة.
ويتضح من الفصل الاول ان (فانيا) وهو خال (صونيا) اي شقيق امها المتوفاة، يكره (سربر ياكوف) لأنه يجلس في مكتبة من الصباح حتى المساء ليكتب عن الفن، وهو لا يفقه شيئاً عنه، وطوال عشرين سنة لم يفكر الاّ بأفكار الآخرين حول الواقعية والمذهب الطبيعي وكل هذه التفاهات، مع انه كان مبهوراً به وبأعماله في السابق، وكان يحرم نفسه من المال من اجل ارساله اليه، ووصل الان الى قناعة بأنه كان مخدوعاً بهِ.
واذا كان الخال فانيا يكره (سربر ياكوف)، الاّ انه كان يحب زوجتهِ الجميلة (يلينا)، وقد أعترف لها بذلك, بيد انها تصدت له وأحبت (استروف) الطبيب من خلال اعجابها بحديثه ومهنيتهِ واهتمامهِ بالثروتين النباتية والحيوانية وبجمال الطبيعة، وقد أغرمت به (صونيا) كذلك الا انه لم يشعر بحبها.
طوال فترة مكوث (سربر ياكوف) وزوجتهِ في الملكية، يتوقف الكل عن العمل وتنال (يلينا) اهتمامهم إبتداءً من الطبيب الذي يهمل اهتماماتهِ، ومرورا بالخال فانيا الذي طفق يلاحقها وانتهاء بصونيا التي أخذت تترك عملها لتتكلم معها، وفي أحد الايام يقرر (سبرياكوف) بيع الملكية فيباغت فانيا بهذا الامر لأنه لا يعرف الى اين سيذهب بعد بيعها مع والدته وصونيا، وأثر مشادة كلامية يخرج سوبرياكوف غاضباً ويتبعه فانيا ويسمع دوي طلقات في محاولة فاشلة لقتل سربر ياكوف الذي يقرر الرحيل مع زوجته من حيث أتى لتعود الحياة الى طبيعتها في الملكية كما كانت في السابق.
من يظن أن حدث هذه المسرحية يدور في مكانه، فهو على خطأ، والأصح أنه يلفه الغموض ومن الصعب هضمه بقراءة واحدة، أو حتى قراءتين ، ذلك أن انتقال الحدث المألوف الى غير المألوف بحاجة الى مفردات شعرية تُفضي الى التقليل من شأنه، أو تعمل على برودته، وهذه المهمة ليست هينة، وأصعب من كتابة نص مسرحي تقليدي كونها عملية فنية بحتة وبمنآى عن الاجناس الادبية والفنية الاخرى التي لا تدخل ضمن العملية المسرحية وهي اقرب الى كتابة سيناريو تنشطر فيه الفصول والمشاهد الى خطة اخراجية متقنة. ولتحقيق هذا الهدف يستخدم تشيكوف في هذه المسرحية ثلاث مفردات هي:
1 - المفردات الدالة على حالات الجو والطقس
2- المؤثرات الصوتية
3- تدخل الشخصيات الثانوية في المواقف المشحونة.
تأتي المفردات الدالة على حالات الجو والطقس اكثر من عشر مرات في الفصول الثلاثة الاولى، ما عدا الفصل الرابع موزعة بنصيب ثلاث مفردات للفصل الاول وأربع للثاني وخمس للثالث وهي: الجو حارٌ، ياله من يوم جميل، في يوم كهذا، هبت الريح، ستمطر الآن، عاصفة تهب، انحسرت العاصفة، الغيوم، الشمس، الخريف،الشتاء، والعاصفة الرعدية.
تَرِدُ جملة (الجو حارٌ) على لسان (فانيا) لتمنح معنيين في آن، فالمعنى الاول هو اشارة الى تذمره من (سربرياكوف) والثاني اعجابه بـ(يلينا) زوجة (سربر ياكوف)، فانيا: الجو حارٌ، ويقبض الصدر، بينما يرتدي رجل المعرفة العظيم معطفه وينتعل حذاءيه المطاطين، ويحمل مظلته وقفازيه.
استروف: من الواضح انه يعتني بنفسهِ.
فانيا: كم هي جميلة لم أرَ في حياتي إمراة اكثر جمالاً منها؟!
أما جملة (يا له من يوم جميل) تأتي على لسان (يلينا) لتغيير الحديث الدائر بين صونيا وفانيا ومارينا من جهة ولفت انتباه (فانيا) اليها من جهة اخرى، فيجيب عليها )فانيا) بنفس النبرة الموحية: ( سيكون من المفرح أن يشنق المرء نفسه في يوم كهذا، قاصداً شنق نفسه من أجل (يلينا).
ولعل توغل تشيكوف بهذه الرمزية في تصعيد لغته في الحوارات التالية، يكسب هذا المشهد منحيين، شاعري وتهكمي، متمثلا المنحى الشاعري في الحوار الدائر بين يلينا وفانيا، والتهكمي في تشبيه الدجاج وفراخها بـ(يلينا) والغراب بــ فانيا.
(يدوزن تليغين أوتار القيثار وتمشي مارينا ذهاباً واياباً بالقرب من المنزل منادية الدجاج: تشوك..تشوك...
صونيا: اية دجاجة تنادين؟
مارينا: المبقعة، لقد ذهبت الى مكان ما مع كتاكيتها، قد تنال منهم الغربان.
وفي الفصل الثاني، وبعد أن تشعر (يلينا) ان زوجها في ذروة يأسه، تغلق النافذة بقوة وتقول: لقد هبت الريح..ستمطر الآن ..لا أحد ينتهك حقوقك.
وللاشارة الى عدم رغبة (سربر ياكوف) بقاء (فانيا) معه يبادر الاخير من خلال جملة (ان عاصفة تكاد تهب) ايصال مغزاها الى المتلقي قبل ان ينطق بها (سربر ياكوف).
فانيا: ان عاصفة تكاد تهب (برقة) أرأيتم هيلين وصونيا، اذهبا الى فراشكما لأحل مكانكما.
سربر ياكوف: (متنبها) لا لا ! لا تتركاني معه، لا تفعلا ذلك، سيقتلني بكلامه.
ويستخدم (فانيا) مفردتي العاصفة والرعد في حوار مع نفسه (المونولوج الداخلي)، وذلك بعد أن ترفضه يلينا وتتركه لوحده: فربما كانت أيقظتنا هذه العاصفة، ولو كانت خافت من الرعد، لكنت أخذتها بين ذراعي وهمست لا تخافي انني هنا، يا لها من فكرة، كم هي ساحرة.
ولعل قول (يلينا) وهي تفتح النافذة: لقد أنحسرت العاصفة، يا له من يوم جميل، اشارة الى اشتراكها مع صونيا في حب (استروف) الطبيب، مع رفض استروف لـ حب (صونيا).
وفي احد حوارات استروف، تحديداً في الفصل الثالث، تأتي اكثر من خمس كلمات، وهي تعبر عن حالات الجو، وهي: الطقس، الغيوم، الشمس، الخريف، والشتاء، لابراز النزاع الدائر بين فانيا وسربر ياكوف على المزرعة، وفضه في النهاية: ليس الطقس سيئاً للغاية اليوم يا عزيزي، لقد كانت السماء ملبدة بالغيوم عند الصباح، كما لو انها ستمطر، ولكنها مشمسة الآن، يجب الاعتراف، بأن الخريف قد ظهر، انه جميل جداً، وبأن فترة الشتاء واعدة جداً (يلف خريطته)، كل ما في الأمر أن الايام تقصر.
وجملة: ارقصي يا كوخي، وارقصي يا ناري، ليس السيد في أي مكان ليرتاح، أيقظتني العاصفة الرعدية، يا لها من بقعة مطر طاهرة! كم الساعة الآن؟ التي تأتي على لسان (استروف) وهو ثمل، هي امتداد للمشهد السابق. حيث يندب (فانيا) حظه العاثر مع (سربر ياكوف) المخدوع به، لتصعيده الى ذروته، وابراز الجانب الآخر لشخصية استردف.
ولو راجعنا هذه المفردات، وقمنا بصياغتها في جمل وعبارات، بهدف الوقوف على مغزاها، لتبين انها المتن الحكائي للمسرحية وعلى النحو التالي:
.الجو حارٌ : إستياء فانيا من سربرياكوف واعجابه بـ يلينا.
.يا له من يوم جميل: لفت يلينا انتباه فانيا والرد عليها بنفس النبرة.
.لربما كانت العاصفة قد أيقظتنا : العودة الى الماضي.
.انحسرت العاصمة : رفض استروف لـ حب صونيا واستئثار يلينا بحبه.
.الطقس، الغيوم، الشمس، الخريف، والشتاء: النزاع الدائر بين سربرياكوف وفانيا.
أما المفردة الثانية المتمثلة بالمؤثرات الصوتية فقد وظفها بأربع صيغ هي:
الصفير، الغرف، ضرب العصا بالارض، وقرع أجراس الاحصنة، بنصيب، مرتين للاول والثالث، ولكل منهما، والثاني سبع مرات، والرابع ثلاثاً، اي بمجموع (أربع عشرة) مرة في المفردات الأربع. وقد جاء الصفير مرة في الفصل الاول، ومرة اخرى في الفصل الثاني، بهدف ابراز التذمر والدهشة في الاولى، وتشبيه (سربر ياكوف) بالكلب في الثانية.
1-
استروف: هل سيبقون هنا مدة أطول؟
فانيا: (يصفر) لعلها ستكون مئة عام ! لقد قرر الاستاذ الاستقرار هنا.
2-
يلينا: لا تضرب بالعصا فالسيد ليس بخير.
صوت الحارس: انني أهم للذهاب (يصفر) انت هناك! كلب جيد تعال ّ كلب جيدّ
وجاء العزف في نهاية كل الفصول تقريباً وما بينها، للتعبير عن حالتي الحزن والفرح، واكتفي بضرب نموذج واحد، كما هو في هذا المشهد من الفصل الثاني:
استروف : اعزف لنا شيئاً
تليغين: لقد آوى الجميع الى الفراش
استروف: هيا أعزف
(يعزف تليغين)
استروف: (يكلم فانيا): هل انت هنا وحدك؟ ما من سيدات (يضع يديه على خاصرته، ويغني بهدوء، إرقصي يا كوخي ، وارقصي يا ناري، ليس السيد في أي مكان ليرتاح.
بينما أقترن توظيف مفردة ضرب العصا بالارض، إمتداداً للحالة المبثوثة، بهدف مضاعفة تأثيرها، في الفصل الثاني فقط، فقد جاءت في المرة الاولى لكشف أنانية (سربر ياكوف) واستياء زوجته منه.
سربرياكوف: اذا نطقت بكلمة واحدة يشعر الكل باليأس، فحتى صوتي يقززهم، حسناً، اظنني مقززاً وأنانياً....
يلينا: ما من احد يحاول انتهاك حقوقك (تغلق النافذة بقوة)...) ستمطر الآن...لا احد ينتهك حقوقك).
(وقفة قصيرة، يضرب الحارس الليلي بعصاه ويأخذ بالغناء).
والمرة الثانية، تعبيراً عن السعادة والأمل المرتقب:
صونيا: انني سعيدة للغاية
يلينا: عليَّ ان اعزف شيئاً...
صونيا : (تعانقها) ..لا استطيع النوم...
يلينا: .......
صونيا: ساذهب...
(يضرب الحارس بعصاه في الحديقة)
والمرة الثالثة، تمهيداً لتصعيد المفردة الثانية الا وهي (الصفير).
ووظفت مفردة قرع اجراس الأحصنة مرة للحزن ومرة للفرح والمرة الثالثة للاستقرار،حصراً في الفصل الرابع:
1-
فانيا: فليرحلو أما انا فلا. لا استطيع، انني حزين، لابد أن اشغل نفسي بعمل ما حالما استطيع...
(وقفة قصيرة، ثم تسمع قرع اجراس الأحصنة)
2-
استروف: كم ان الجو هاديء، فريشات الكتابة تصر صريراً حفيفاً، والجدجد يغني، انه دافيء وحميم، لا أشعر برغبة في مغادرة المكان.
(يسمع قرع اجراس الاحصنة)
3-
فانيا: (يكتب) الثاني من شباط، زيت بزر الكتان، عشرون باونداً، السادس عشر من شباط، زيت بزر الكتان مجدداً. عشرون باونداً..الحنطة السوداء..
(وقفة قصيرة يسمع قرع اجراس الاحصنة)
ان توزيع المؤثرات الصوتية على الفصول الاربعة، بما ينسجم مع التطور الدرامي للمسرحية، لم يأت بشكل عابر، وانما بحرفية، وفهم عميق لبناء معمارية الفن المسرحي الذي تجلى تحديده بمفردة (الصفير) في الفصل الاول والثاني، حيث يبدأ التذمر، ومفردة (الضرب بالعصا) في الفصل الثاني إذ تجتمع كافة صفات الانسان الطيبة والسيئة، و(العزف) في الفصول الاربعة وما بينها، لمرور الانسان بحالتي الحزن والفرح في حياتهِ، ومفردة (قرع اجراس الاحصنة) في الفصل الرابع، حيث يعم الحزن والفرح وعدم الاستقرار واللا استقرار.
ان فك شفرة كل مفردة من هذه المفردات، يقودنا الى نتيجة مؤداها، انه كل واحدة منها أتخذت مسارها الصائب، واحتلت موقعها السليم، لتصعيد الفعل الدرامي بشكل تدريجي، ومنتهى البرودة الى النهاية، ويقر تشيكوف بتبنيه لهذا الاسلوب، عندما يقول: (كلما كان الكاتب اكثر برودة، كانت حكاياته اكثر حساسية وتأثيراً، فيلبكِ القاريء او القارئة اذن عند قراءة مسرحيات فالفن هو هذا.) (4) كما ان غوركي يكتب اليه وبهذا الخصوص، تحديداً حول مسرحية الخال فانيا ما يلي: (انك تعامل الناس ببرودة ابليسية، أنت لا أبالي مثل الثلج، مثل العذاب)(5) .
اذْ يبدأ من الفصل الاول عبر تذمر كل الشخصيات من سربرياكوف، وتتوضح تفاصيل معاناتها وصراعاتها معه في الفصل الثاني والثالث، وتحل العقدة في الفصل الرابع، من خلال قرع اجراس أحصنة سربرياكوف ، وهو وزوجته يغادران المزرعة، اشارة الى عدم الاستقرار، وبقاء فانيا ومارينا وصونيا في المزرعة، دلالة على الاستقرار.
وأعتمد في المفردة الثالثة على تدخل الشخصيات الثانوية في المواقف المشحونة، كشخصية تيليغين، ومارينا، وصونيا، وذلك للتخفيف من حدة توتر هذه المواقف، والتقليل من شأن الحدث وبرودته وعدم بروزه بشكل واضح، واستخدمه بحدود عشر مرات، مرة لا يقاف صونيا خالها فانيا الحديث عن معاناته وهي تقول له: (هذا ممل).وفي المرة الثانية بمخاطبة جدتها وخالها: (أتوسل اليكما).
واذا كانت هذه المفردة قد جاءت لمرتين في الفصل الاول فقط، فأنها جاءت سبع مرات في الفصل الثالث وهي: ردع ماريا لـ فانيا الكف عن اهانة سربرياكوف بمناداة اسمه : جان!، وتوسل تليغين بقوله: لا تفعل ذلك، ويتكرر هذا التوسل بأضافة: لا احتمل ذلك، وايعاز يلينا له ايقاف اهانته لسربرياكوف: ايفان بتروفتش، أصر على ان تتوقف...أتسمعني؟، وقول تليغين! لا أستطيع احتمال هذا، وماريا: اقبل كما يقول اسكندر، وصونيا متوسلة بمرضعتها، لفض النزاع الحاصل بين فانيا وسربرياكوف وهي تصرخ!ناني !ناني! وفي حوار آخر تقول لوالدها! لابد ان تتحلى بالشفقة، خالي فانيا، وأنا تعيسان، وبتكرار توسلات صونيا بمرضعتها وهي تقول: ناني! واذا أمعنا بالمفردات الشعرية الموظفة في هذه المسرحية، والبالغ عددها اكثر من ثلاثين مفردة والموزعة على اربعة فصول بنصيب سبع او ثماني مفردة لكل فصل، لوجدنا انها تقوم مقام الحوارات الدائرة بين شخصيات المسرحية، اي مقام اللغة وبأقل عدد من الكلمات، اذ أن أقصى ما تبلغه المفردة الواحدة لا تتجاوز ثلاث كلمات. ما معناه، ان مسرح تشيكوف بالاضافة الى ما يتحلى به من الرمزية، فأنه يتمتع بصفة الأختزال والتكثيف، وهي ابرزواهم سمات الأدب والفن. ولعل شرح استروف لـ فانيا ما جرى من احداث في الفصل الثالث بأربعة أسطر، ومقرونة بخمس مفردات لحالات الجو و الطقس، أثبت دليل على ذلك.وعلى الرغم من ان المسرحية تعود في نهايتها من حيث بدأت من خلال شروعها وختامها في الحوار الدائر بين مارينا واستروف حول شرب الشاي:
*بداية الفصل الاول:
مارينا: (تسكب فنجانا من الشاي)-هاك-تناوله يا عزيزي.
استروف: (يأخذ الفنجان على مضض). لا اشعر برغبة في شربه.
ماريا: العلك ترغب في كأس من الفودكا؟
*الفصل الرابع:
مارينا: هل أنت راحل اذاً قبل ان تشرب الشاي؟
استروف: لا اريد شيئاً ايتها المرضعة.
مارينا: لعلك ترغب في تناول كأس الفودكا؟
الا انها لاتعتبر من النصوص الدائرية، وانما تنتمي الى النص المفتوح، ذلك لتعدد الاصوات الزاخرة بالرموز والقابلة للتأويل والتفسير فيها، كشخصية (سربرياكوف) المصابة بمختلف الامراض، والمكروهة من قبل الكل، والشبيه بقياصرة روسيا المنبوذين من الشعب، و(يلينا) التي أحبها الكل الرامزة الى الوطن الذي اغتصبه (سربرياكوف). و(استروف) المنجذب لجمال (يلينا) التي احبته، رمزاً (للمنقذ)، وفانيا الممثل الحقيقي للشعب الروسي المثقف والطيب، و(صونيا) و(تليغين) و(مارينا) الى عامة الشعب.
وهنا تطرح عدة اسئلة نفسها بألحاح:
*ترى لماذا اكتفى تشيكوف، حصر ميل استروف تجاه يلينا في حدود الانجذاب اليها، ولم يطوره الى حب؟ هل لأنه في هذا المنحى كان يصنع شخصية ثورية؟ خصوصاً اذا عرفنا انه وكما يقول هنري ترويا: ( كان ينتقد علناً في كتاباته وأحاديثه عمليات القمع الوحشي التي تمارسه الحكومة)(7)
ولعل هذا السؤال يقودنا الى سؤال آخر لا يقل عنه أهمية، وهو:
*هل من المعقول ان يعتذر فانيا لـ سربر ياكوف؟!
سربر ياكوف: أقبل اعتذارك بسرور، وأطلب منك ان تسامحني ايضاً، وداعاً (يتعانقان) هو وفانيا ويقبلان بعضهما ثلاث مرات.
يقول الروائي الكبير هنري ترويا: ( كانت شهرة تشيكوف المتزايدة تدفع بمجهولين للجوء اليه، لا من اجل مساعدة مالية، أو نصيحة حول أسلوب أو توصية لناشر حسب، ولكن ايضاً لسؤاله عن مشاكل الساعة، وكان هذا النوع الاخير من الاسئلة يُعكر مزاجه، فقد رفض طيلة حياته ان يتخذ موقفاً من الاحداث السياسية والاجتماعية...)(8)
ويقول في مكان آخر: (انه لم ينتم الى اشتراكية غوركي النضالية، كانت الحركات الشعبية تخيفه، وكان هو الليبرالي العنيد، يشجب العنف، أجاءَ من أعلى، أم من أدنى. كان من رأيه، ان ما يحقق تطوراً ملائماً في روسيا ليس عمل الجماهير، بل عمل بعض الرجال الوحيدين والأصلاء...)(9)
ان اعتذار فانيا لـ سربرياكوف بدوره، يعيدنا ثانية الى السؤال الاول للصلة الوثيقة القائمة بينهما، ترى هل أنه أراد عدم تطوير هذه العلاقة الى علاقة حب، لأنه هكذا عاشها في حياته مع (ليديا أفيلوفا) وعلى ارض الواقع؟
وقبل الاجابة على هذا السؤال أقول، انطلاقا من قراءتي لرموز المسرحية وتآويلها، وليس من وجهة نظر تشيكوف، ان اعتذار فانيا لسربرياكوف هو بمثابة تنازل الثقافة الحقيقية في روسيا للثقافة المزيفة، ان لم اذهب اكثر وأقول انه في مصاف خضوع الشعب الروسي لحكومة القياصرة، كما ان استمرار سربرياكوف تلقي المبلغ بانتظام من حصته في المزرعة التي يعمل فيها فانيا وبقاء الاخير كما كان في السابق هو العودة الى نقطة الصفر لكن لقاء فوز فانيا على الطمأنينة وراحة البال والاستقرار وخسارة سربرياكوف لكل هذه الامتيازات من خلال مغادرته وزوجته للمزرعة: الرحيل.
أعود وأقول، هل أراد تشيكوف عدم تطوير هذه العلاقة لانه هكذا عاشها في حياته، على ارض الواقع؟
يجيب هنري ترويا على هذا السؤال فيقول: (في مسرحية النورس، أقترح تشيكوف بعض التعديلات على التمثيل وطلب ان يحل ستانسلافسكي نفسه محل الممثل الذي يؤدي دور (تريغورين) وكان ستانسلافسكي الذي يقوم بالاخراج ايضاً، يمتلك فهما دقيقاً لفنه. وكان في نيته أن يجلب للكواليس ضفادع تنق وكلابا تنبح حتى يصور جو الريف بشكل حقيقي. هذا الحرص على الواقعية أضحك تشيكوف كثيراً وقال بصوت عال: (ان للمسرح مواصفاته الخاصة ليس فيه جدار رابع وفوق ذلك فأن المسرح فن، انه يعكس زبدة الحياة ولذا يجب الا يدخل عليه اي شيء مصطنع.)(10)
وللعودة الى السؤال الاول فأن يلينا هي الشخصية الحقيقية لـ (ليديا أفيلوفا) التي كما يقول ترويا: (لم يكن يريد تشيكوف القبول بحبها ولا التخلص منه نهائياً فبعد الزيارة التي قامت بها الى عيادة الدكتور اوستروموف حيث كان مريضاً هناك، استمرت هذه الشابة في توجيه الدعوات اليه بقصد رؤيته واتهامه بجفاف قلبه) (11)
وقد كتب اليها يقول في (10تموز 1898): اذا كانت رسائلي قاسية وباردة جداً أحياناً، فلأنني لست جادا)(12). وينقل عدم جديته هذه على لسان تليغين في الحوار الدائر بينه وبين استروف وفانيا في الفصل الاول من المسرحية وعلى الوجه التالي.
استروف: هل هي وفية للاستاذ؟
فانيا: آسف على القول بأنها كذلك.
استروف: لكن لم عليك ان تأسف
فانيا: لأن هذا النوع من الوفاء غير صحيح.....فأن تكون غير مخلصة لزوج عجوز لم تحبه سيكون عملا غير اخلاقي، أما ان تقوم بأقصى جهدها لتخنق في نفسها كل شبابها وحيويتها وقدرتها على الشعور فليس بعمل غير اخلاقي!
تليغين: (دامعاً) ..فانيا لا يعجبني الامر حيث تقول هذا الكلام. فعلا...!
فكل من يقدر على خيانة زوجة أو زوج هو شخص غير جدير بالثقة وقد لا يتأخر عن خيانة وطنه ايضاً!
الا ان الحوار الدائر بين يلينا واستروف في الفصل الثالث لا يوحي بأن تشيكوف معجباً بها وحسب، وانما كان يحبها أيضاً، وهذا ما يفهمه ستانسلافسكي في اخراجه لهذه المسرحية الذي يعتبره تشيكوف في رسالته الموجهة الى اولغا (زوجته) خطأً، بتبرير ان الحديث الصادر من استروف والموجه الى يلينا (ليس الاّ قضاءا للوقت)(13) وانطلاقا من إبداء رأيه فيها صراحة في كونه (منجذباً لجمالها في الفصل الاخير، وهو يحدثها بلهجة تشبه لهجته عندما يخبرها بالحرارة السائدة في افريقيا ويقبلها مشتت البال)(14).
ان المعلومة الاخيرة لترويا صائبة، فيما يتعلق بتقبيل استروف لـ يلينامشتت البال في الفصل الاخير، ولكن معلومته بخصوص حديثه معها بلهجة تشبه لهجته، عندما يخبرها بالحرارة السائدة في أفريقيا، غير صحيحة، اذ ان هذا التشبيه يأتي وكما هو مدون في النص مع مارينا وفانيا/ هكذا:
مارينا: لعلك ترغب في تناول كأس من الفودكا؟
استروف: بتردد (ربما)
استروف: (بعد وقفة قصيرة) لقد أصبح واحدٌ من أحصنتي أعرجاً لسبب ما ، لاحظت ذلك البارحة عندما أخذته بتروشكا ليشرب.
فانيا: عليك ان تغير حدواته.
استروف: سيتوجب عليَّ ان استدعي الحداد. لا يمكن تجنب ذلك (يتوجه نحو خريطة افريقيا وينظر اليها.) أظن انه هناك في افريقيا، لا بد أن يكون الحر شديداً الآن!

المصادر
(تشيخوف)
تأليف: هنري ترويا
ترجمة: خليل خوري
مراجعة: الدكتور على جواد الطاهر
الصادر عن وزارة الثقافة والاعلام العراقية-دار الشؤون الثقافية العامة-بغداد 1987








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب للسقا يقترب من حصد 28 مليون جنيه بعد أسبوعين عرض


.. الفنانة مشيرة إسماعيل: شكرا للشركة المتحدة على الحفاوة بعادل




.. كل يوم - رمز للثقافة المصرية ومؤثر في كل بيت عربي.. خالد أبو


.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : مفيش نجم في تاريخ مصر حقق هذا




.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : أول مشهد في حياتي الفنية كان