الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفساد في العراق (الحلقة الثالثة)(1)

محمد علي زيني

2010 / 9 / 23
الادارة و الاقتصاد


أكبر لكي أساهم بذلك الفساد»
«أشلي بريليانت»

موجة الفساد الثانية
بدأت هذه الموجة برحيل سلطة التحالف المؤقتة بقيادة بريمر في 28 حزيران (يونيو) 2004 وتسليم السلطة إلى الحكومة العراقية المؤقته التي تم تعيينها برئاسة الدكتور أياد علاّوي. إن موجة الفساد هذه هي الأخطر والأقسى على الشعب العراقي من حيث حجم المال العام الذي تعرض ولا زال يتعرض بسببها إلى النهب، ومن حيث طول مدتها إذ لا يزال النهب بعنفوانه مستمراً رغم ارتفاع بعض الأصوات النزيهة بمجلس النواب خلات العام الماضي (2009) بضرورة وضع الحد لهذه الكارثة الرهيبة ومحاسبة الفاسدين، حيث كان من نتائج ذلك النداء القبض على بعض الضالعين بالفساد بوزارة التجارة وفرار الباقين.

إن ما يدمي القلب ويضاعف المصيبة هو أن أكثر وأشد الفاسدين وسرّاق الشعب في موجة الفساد الثانية خرجوا من نفس الطبقة المعارضة لنظام الحكم السابق والتي ساهمت بإسقاط النظام بحجة تخليص الشعب من شرور ذلك النظام، والتي كان من ضمنها الفساد الذى استشرى بعد فرض الحصار الأقتصادي على العراق. ولقد تسارعت، بعد سقوط النظام، وتيرة انتشار الفساد بين طبقات الحكومة من أعلاها إلى أسفلها حتى وصلت لمستوى أن تحدث حادثة رشوة في العراق كل دقيقة واحدة وفي جميع المفاصل وقد تتعلق بأعلى الهرم، كما بين ذلك رئيس لجنة النزاهة في البرلمان العراقي النائب صباح الساعدي(2).

ولقد نتج عن هول انتشار الفساد بالعراق أن انحدر مستوى هذا البلد العريق نحو أسفل جدول مؤشرات الفساد بالعالم للسنتين 2007 و2008، وهو جدول يبين سنوياً مستويات الفساد لدول العالم المشمولة بالدراسة، وهي 180 دولة(3). ولم يبز العراق بالفساد للسنتين المذكورتين إلا ميانمار (بورما سابقاً) والصومال. ورغم التحسن الضئيل في إداء العراق في السنة الماضية (2009)، بقي هذا البلد، مع ذلك، ضمن أفسد الدول ولم يتفوق عليه بالفساد هذه المرة إلا أربع دول هي السودان وميانمار وأفغانستان والصومال. ومن النظر الى هذا الجدول يتضح البون الشاسع بين فساد الدول في أسفل القائمة ونزاهة الدول الأخرى التي جاءت على رأس القائمة، مثل نيوزيلنده والدنمارك وسنغافورة والسويد، حيث حصلت هذه الدول على 9.4، 9.3، 9.2 و 9.2 على التوالي وهي أعلى العلامات في السلّم مقارنة بما حصل عليه العراق من علامة وهي 1.5 فقط(3). فهل هذا هو نصيب العراق، أبو الحضارات وقد تخلص لتوّه من واحدة من أعتى دكتاتوريات العصر الحديث، أن يُنزل به إلى الدرك الأسفل بين الدول الفاسدة؟ وماذا سيقول أولئك القائمون على حكم العراق الآن إلى الشعب العراقي العريق وإلى أجياله القادمة عندما يدون التأريخ كل هذا الفساد، بل كل واردة وشاردة منه؟

فـتـّـش عن الـمـحاصصة
إذا تم البحث عن أهم الأسباب التي أسقطت العراق في مهاوي رذيلة الفساد فلا بد أن تأتي المحاصصة، التي جاءت بها سلطة التحالف بالاتفاق مع قادة الأحزاب ورؤوس النخب السياسية العراقية، على رأسها. فالوزراء وما دون، الذين جاؤوا عن طريق المحاصصة، أصبحوا يتصرفون وكأنهم مصونون غير مسؤولين، تماماً كالملوك في الملكيات الدستورية، إذ ترى المسؤول غارقاً إلى أذنيه بالفساد دون أدنى خوف، فهناك حزب يسنده وميليشيا تحميه، والويل لمن يجرأ على مسائلته أو حتى القول له "على عينك حاجب!" على العكس، فالأحزاب الأخرى لا تريد تحريك ساكن إذ هي الأخرى منغمسة بالفساد حيث ترتع منه دون وجل، بل هي تتنافس مع الآخرين بارتكاب هذه الرذيلة. فكل شيء يهون طالما استمرت أموال الفساد تملئ جيوب الفاسدين وترفد خزائن الأحزاب والقوى التي جاءت لتولي السلطة بحجة نزالها الطويل وتضحياتها الجسيمة لإسقاط نظام صدام حسين من أجل إنقاذ العراق ونصرة شعب العراق المظلوم. يا لها من فضيحة!!!

نعم، فتش عن المحاصصة وراء كل جريمة فساد! وبهذا المعنى ندرج أدناه اقتباسا معبراً من ورقة جيدة نُشرت على الانترنت وأعاد نشرها معهد التقدم للدراسات الإنمائية(4):
«كان اعتماد الأمريكيين مبدأ المحاصصة الأثنية/الطائفية/الحزبية، بدءاً من تشكيل مجلس الحكم، والذي استغلته النخب السياسية بشكل فج في تشكيل الوزارة الانتقالية، ثم المؤقتة ومجالس الرئاسة والمجلس الوطني المؤقت، عاملاً حاسماً في تكريس بنية الفساد، خاصة مع نقل هذا المبدأ إلى حلقات المسؤولية التالية: الوزراء، وكلاء الوزارات، المستشارون، المدراء العامون، المدراء. بل وصل الأمر إلى توزيع (صكوك الغفران)، التي تم اشتراطها في التعيين في وظائف الدولة بعد نيسان 2003، والتي استغلتها الأحزاب للابتزاز ولتحسين المواقع ولجلب المريدين لتحسين قواعدها، بل أن المحاصصات الحزبية والطائفية والتعيينات العشوائية، التي قدمت الانتماء القومي والطائفي والحزبي على الكفاءة والنزاهة، سمحت لكثير من الفاسدين بتبوء مناصب عليا في الدولة، والمثال الأبرز على ذلك، ما تحدثت به هيئة النزاهة عن اتهام وكيل وزارة الاتصالات في الحكومة الانتقالية بتزوير وثيقة تخرج لشهادة الماجستير في القانون والعلوم السياسية، واستعمال الوثيقة المزورة لغرض التعيين، علماً بأن منصب وكيل وزارة يقع ضمن حدود المحاصصات الحزبية، وهذا يعني أن حزباً ما قد قام بتعيين شخص غير معروف لديه بشكل كامل، بخاصة أن هيئة النزاهة نفسها صرحت أن هذا الشخص سبق وأن حُكم عليه في قضيتي تزوير وانتحال صفة لمدة ثماني سنوات إبان حكم النظام السابق. عدا ذلك، فأن تعيين شخص من دون تأريخ وظيفي ومن دون أي مؤهلات في منصب وكيل وزارة هو في ذاته فساد صريح».

غيض من فيض
نظراً لعدم أتساع المجال هنا، سننشر في الحلقة التالية (الحلقة الرابعة) أمثلة موثقة عن حالات الفساد بالعراق خلال الفترة 2003 – 2009. وسنكتفي هنا بأن ندرج لإطلاع القارئ الكريم بعضاً من مظاهر الفساد الذي جرى ويجري في العراق الجديد(5).
(1) استشراء ظاهرة تزوير الشهادات للحصول على وظائف حكومية بدون حق.
(2) منح العقود والمقاولات الرسمية استناداً إلى الأسس القرابية والحزبية والعرقية والطائفية، أو نتيجة لرشوة في غالب الأحيان، دون تمتع الممنوح له بأية خبرة أو اختصاص أو قدرة مهنية معقولة.
(3) منح العقود والمقاولات للمذكورين أعلاه بدون منافسة وبقيم عالية لا تبررها طبيعة الأعمال أو المشاريع المراد تنفيذها، مما يستتبع ذلك انتقال مهمات التنفيذ بين عدة مقاولين من الباطن ليقوم المقاول الأخير، الذي تسلم المقاولة بأقل قيمة، بتنفيذ عمل رديء النوعية ودون المواصفات المطلوبة.
(4) تنفيذ المشاريع المشار إليها أعلاه من دون إشراف أو رقابة حكومية وتسلمها بصورة رسمية رغم عدم مطابقتها للمواصفات المطلوبة ورغم رداءة العمل أو حتى عدم إكماله.
(5) تمظهرات للفساد لا يمكن السكوت عنها في الدول الديمقراطية مثل أمريكا وكندا وأستراليا والدول الأوربية، ومنها (أ) الأموال الطائلة غير معروفة المصدر التي مكنت الأحزاب من اقتناء السيارات الحديثة وتعيين الأعداد الكبيرة من العاملين وفتح وتأثيث المكاتب الفرعية وإدارتها في شتى أنحاء العراق وامتلاك الفضائيات التلفزيونية وتمويل الإعلانات وحتى تقديم الرشى حين الانتخابات. أضف إلى ذلك حالة التواطؤ الجماعي في عدم تشريع قانون للأحزاب يكون من إحدى واجباته تنظيم العمل الحزبي في البلاد ووضع الشروط الأصولية لتمويل الأحزاب، و(ب) استيلاء الأحزاب على أملاك الدولة واتخاذها مقرات عامة لها ومحلات سكن لبعض المتنفذين من منتسبيها، و(ج) شيوع التعيين بوظائف الدولة بناءً على الوشائج القرابية والحزبية والطائفية والأثنية والمناطقية، بما في ذلك من انتهاك لحقوق المواطنة والمساواة أمام القانون.
(6) إصدار القوانين التي يُتاح بموجبها للمسؤولين الحصول على أكبر قدر من أموال الدولة وأملاكها، وهو ما يمكن تسميته بالفساد المقنن أو "الفساد في أطار القانون". ومن الأمثلة على ذلك قيام كبار موظفي الدولة (مجلس الرئاسة، ورئيس مجلس الوزراء والوزراء ووكلاء الوزارات والمدراء العامين، والسلطات التشريعية الثلاث: المجلس الوطني المؤقت والجمعية الوطنية ومجلس النواب، والمستشارين، وذوي الدرجات الخاصة، وأصحاب الرتب العليا من العسكريين وقوى الأمن الداخلي) بإصدار قوانين وأنظمة وتعليمات وقرارات وأوامر من شأنها زيادة رواتبهم ومكافئاتهم ومخصصات الإيفاد التي يتقاضونها عند السفر والعطايا وكذلك استحقاقاتهم التقاعدية. إن التوسع في السخاء بالمال العام من أجل الإثراء الشخصي ومن دون مسوغ قانوني أو حتى وازع أخلاقي هو ليس فقط فساد ناتج عن التمادي اللامقبول باستغلال السلطة، وإنما هو أيضاً خيانة لأمانة مقدسة ألا وهي أمانة الشعب التي وُضعت في أعناق هؤلاء المسؤولين!
(7) قيام السلطة التنفيذية (وبالأخص الأمانة العامة لمجلس الوزراء) بالتدخل بشؤون هيئة النزاهة (المفوضية العليا للنزاهة سابقاً) ومحاولة التأثير عليها وحتى عدم الاعتراف باستقلاليتها. وأحد الأمثلة على ذلك عدم إمكان هيئة النزاهة إحالة الموظف الفاسد إلى القضاء إلا بموافقة الوزير. كذلك تعرّض هيئة النزاهة إلى ضغوط من سياسيين كبار للحؤول دون النظر في قضايا فساد معينة.
______________________________________________
(1) هذا المقال مقتبس مع بعض التحوير من كتاب الدكتور محمد علي زيني "الأقتصاد العراقي: الماضي والحاضر وخيارات المستقبل"، الطبعة الثالثة 2010. يمكن تنزيل الكتاب كاملاً من الموقع: http://www.muhammadalizainy.com
(2) أنظر: نصير العلي "في العراق حادثة رشوة كل دقيقة تبدأ من أعلى الهرم"، معهد التقدم للدراسات الإنمائية، 29/5/2009.
www.progressiraq.com/inp/view_printer.asp?ID=1145&A
(3) أعلى علامة يمكن الحصول عليها هي 10.0 وأوطأ علامة 0.0، وكانت علامة العراق 1.3 في 2008 ثم تحسنت قليلاً الى 1.5 في 2009. لمزيد من المعلومات أنظر:
Corruption Perception Index (CPI), Transparency International (TI)
http://www.transparency.org/policy_research/surveys_indices/cpi/2009/cpi_2009_table
(4) يحيى الكبيسي، مصدر سابق.
(5) المصدر السابق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل تستثمر في حقيبة -هيرميس- الفاخرة أفضل من الذهب؟


.. كل الزوايا - شركة -فري زونر- تناقش فرص الاستثمار في دول -الم




.. عيار 21 الآن.. سعر الذهب اليوم الخميس 2-5-2024 بالصاغة


.. الرئيس السيسي يوجه تحية لليد المصرية وعمال مصر لجهودهم في تأ




.. كل يوم - - كل يوم - يفتح ملف الدعم أيهما أفضل للمواطن العيني