الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عندما نسينا ماركس

سعيد ناشيد

2010 / 9 / 26
بوابة التمدن



السفير

كانت أمنيتي، في إحدى مراحل طفولتي، أن يجعلني مصور بارع أتحول وأصبح صورة، فلا أبقى على هيئة إنسان يموت كما مات الكثيرون. وتحسباً لنجاح عملية التحول كنت أوصي والديّ بأن يحرصا على أن لا تمزقني أختي الأصغر مني سنا.
عندما كبرت أدركت أن أمنيتي لن تتحقق، فحتى بعد أن التُقِطت لي عشرات الصور، حافظت على هيئة إنسان، واستنتجت في الأخير، أن الإنسان لا يمكنه أن يصبح صورة.
غير أني سأكتشف لاحقا أني تسرعت في هذا الاستنتاج.
ذلك أن عالم العولمة الرأسمالية اليوم، هو عالم أخذت في صورة الواقع موقع الواقع المادي.
كان هيدجر يرى أن خطاب الحداثة انتهى إلى نسيان الوجود لفائدة الموجود، وبوسعنا أن نري اليوم كيف انتهى خطاب الرأسمالية إلى نسيان الوجود الاجتماعي لفائدة العلامات والرموز والصور، ما يحيلنا مباشرة ومرّة أخرى على أطروحة الناقد الكبير للاقتصاد الرأسمالي.
سبق لماركس أن أماط اللثام عن ظاهرة بسيطة، لكنها كانت المدخل الأساس، لمشروعه في نقد الاقتصاد السياسي. فقد لاحظ كيف أصبح السّوق، في النظام الرأسمالي، يعرض أمام المستهلكين بضاعة أو خدمة بنحو يحجب عنهم كل الظروف الاجتماعية لأولئك الذين أنتجوا تلك البضاعة أو وفّروا تلك الخدمة.
حين نريد أن نقتني حذاء أو سيارة أو مسحوقا للصابون، فإننا قد نسأل عن جودة الإنتاج، لكننا لا نسأل عن تلك الجودة بكل المعايير، إذ ثمة معايير لجودة الإنتاج لا تعنينا ولم نتعود على السؤال عنها، تتعلق بالظروف الاجتماعية والكلفة الإنسانية التي رافقت عملية الإنتاج. وذلك هو الخلل الذي يَسترعي اليوم انتباه واهتمام أنصار ما يسمّى بالتجارة العادلة أو المنصفة، فيما يبدو كأنه باب من أبواب محاولة تخليق العولمة الرأسمالية.
في المرحلة الرّاهنة للمنظومة الرّأسمالية العالمية، أمست البضاعة أكثر قرباً من المُستهلك؛ معروضة أمامه على الرّفوف داخل السوبرماركت، يفحصها بملامسه من دون وسطاء آخرين. وحده المستهلك اليوم في مواجهة مباشرة مع البضاعة، في حين لا تتعدى الكاميرات، المبثوثة داخل السوق، حدود المراقبة الفوقية والخفية وشبه الإلهية. أصبح المستهلك يقف وجهاً لوجه أمام البضاعة في لقاء مفتوح وعبر تجربة ذاتية بلا وسطاء، وصارت البضاعة اليوم في احتكاك مباشر وشفاف مع المستهلك. لكن خلف هذا الانكشاف، ثمة معطى يزداد اختفاءً واحتجاباً عن المستهلك، وهو الظروف الاجتماعية والكلفة الإنسانية لعملية الإنتاج.
لا يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل الأدهى من كل ذلك، أن المنتوج نفسه قد فقد بُعده المادي، وأصبح يُختزل في مجرّد صورة رمزية أو بصرية.
لقد تمّ اختزال جودة المنتوج في مجرّد علامة، وأصبحت العلامة كافية للدّلالة على الجودة والإيحاء بأنّ كل شيء على ما يُرام، بصرف النّظر عن الظروف الاجتماعية للإنتاج وبغض الطرف عن مادّة المنتوج. لم تعد علامات البضائع اليوم تدلّ على البضاعة، وإنّما أخذت العلامة موضع البضاعة، أخذت العلبة مكان المعلّب، اختفت مادّة الإنتاج التي لم تعد تقدم نفسها سوى من خلال الصّورة والعلامة والأثر.
إننا اليوم، لم نعد نبيع أو نبتاع غير الرموز، لم نعد نسوق أو نتسوق أكثر من العلامات، وخلف الرموز والعلامات يتوارى الواقع الاجتماعي والمادي للإنتاج ولظروف الناس الذين شاركوا في عملية الإنتاج. لقد أخذت العلامة مكان الواقع، في وقت تحوّل فيه الرأسمال الإنتاجي إلى رأسمال مضارباتي، وحلّ الاقتصاد الصوري والافتراضي محل الاقتصاد المادي، وبدلا من الإنتاج النمطي، التكراري، المتشابه، ظهر الإنتاج المشخصن الذي يعمد إلى مراعاة طبائع الأشخاص واختلاف أذواق المستهلكين وانتماءاتهم الطائفية والدينية والعرقية، فصرنا نرى زمزم كولا، والماكدونالد الحلال، والمايوه الشرعي، والهاتف المحمول الذي يؤذن للصلاة في أوقاتها... الخ.
وبموازاة مع نمط الإنتاج المُشخصن، اتّجه الوعي السياسي نحو حقوق الأقليات، والحقّ في الاختلاف وفي التنوع، والحريات الدينية للطوائف والجماعات، وما إلى ذلك من خطاب تفكيكي، يستغني عن العيش المشترك مكتفياً بالتعايش، ويَستبدل الحق في الاندماج بخطاب الحق في الاختلاف، ثم يحصر مبدأ المساواة في مجرّد الدّلالة على المساواة بين الجنسين.
الوعي الديني والعلامة:
على منوال نمط الإنتاج الرّأسمالي الرّاهن، فإنّ الوعي الديني، المُنفجرة حممه على مرمى ومرأى الكثيرين، يختزل الوجود في مجرّد رموز وعلامات تثير حولها الحراك أو العراك، لكنها في أساسها تظلّ رموزاً وعلامات تحجب عنّا الواقع الاجتماعي الذي يعيش فيه الناس، وتختزل هذا الواقع في مجرّد بنية ذهنية ورمزية، وعلى هذا الأساس نرى اليوم كيف تحوّل ما يُسمى بالحجاب الإسلامي إلى تكثيف رمزي لهوية افتراضية منزوعة عن كل سياق مادي، سواء تعلق الأمر بالسياق الاجتماعي والذي يختلف باختلاف التاريخ والمصالح، أو تعلّق الأمر بسياق المناخ الجغرافي والذي يختلف تبعاً لاختلاف المناطق والأقاليم.
ليس من باب الحس السليم أن ترتدي مسلمات موريتانيا نفس لباس مسلمات كندا، بيد أن اختزال الواقع المادي، الذي يعيش فيه الناس، في مجرّد رموز ذهنية وعلامات صورية، ينزع لباس الناس عن شروطه الاجتماعية وظروفه المناخية، ويختزله في مجرّد رموز صوريّة وعلامات تدلّ على هوية افتراضية، في زمن أصبحت فيه صورة المادّة بديلاً عن مادّة الصورة. ومع ذلك، ورغم كل ذلك، فإنّ الواقع المادي المنسي ما ينفك يثأر من الرّموز والعلامات وينتقم من نسيانه، حين يتحول نسيان الوجود الاجتماعي إلى بؤس يسري وأمراض تستشري.
ومن دون شك، فإن تحوّل الواقع الاجتماعي للمسلمين في الغرب، إلى مجرّد رموز وعلامات، قد انتهى إلى استبدال معركة الحقوق الاجتماعية للعمال المهاجرين، بمعركة الحقوق الدينية، ذات الطابع الرّمزي، الرّوحي والصوري، وفي مقابل ذلك انخرط الوعي الإسلامي الرّاهن في معارك صورية من أجل تحسين صورة الإسلام في العالم، مكرساً بذلك عملية احتجاب الواقع خلف الصورة ووضع الدّلالة موضع المدلول، في فضاء ثقافي أصبح فيه الوجود يتكلم لغة العلامات، الرّموز والإشارات.
من نسيان الوجود إلى نسيان الموجود:
تكمن «الخطيئة الأصلية» للكثير من الحركات المناضلة اليوم، في أنها استبدلت نقد الرّأسمالية بنقد الحداثة، وانشغلت عن تحسين الحياة الاجتماعية للناس، بتغيير الأشكال والصور والرّموز والعلامات، وبذلك ساهمت في احتجاب الشروط الاجتماعية للإنتاج.
ومع ذلك، فحين ننسى الواقع الاجتماعي للناس، إنما ننسى الأقدام الحافية والبطون الجائعة والنفوس المظلومة، ونجعل أنين المعذبين من دون صوت مسموع، إن هو إلا صمت الصور والعلامات والرموز والدلالات.
عندما نسينا ماركس، نسينا الواقع الاجتماعي لهذا الانسان الذي لا يمكن لأي مصور بارع أن يجعله يتحول ويصبح صورة، حتى حين تأخذ الصورة مكانه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 9 شهداء بينهم 4 أطفال في قصف إسرائيلي على منزل في حي التنور


.. الدفاع المدني اللبناني: استشهاد 4 وإصابة 2 في غارة إسرائيلية




.. عائلات المحتجزين في الشوارع تمنع الوزراء من الوصول إلى اجتما


.. مدير المخابرات الأمريكية يتوجه إلى الدوحة وهنية يؤكد حرص الم




.. ليفربول يستعيد انتصاراته بفوز عريض على توتنهام