الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وهم استعادة النهضة في مصر

مهدي بندق

2010 / 9 / 26
مواضيع وابحاث سياسية



كثيرا ً ما يطرح هذا السؤال على موائد المثقفين وفي مؤتمراتهم بحسبانه حجر الزاوية لبناء المستقبل. والحق أنه سؤال بقدر ما يبدو على السطح مجرد استفسار برئ ، بقدر ما يشير إلى واقع ملتبس تتناوشه رؤيتان ، الأولى يتبناها الحزب الحاكم وخلاصتها أن البلاد تتقدم بمعايير عصرية لا يجوز إنكارها، حيث تم استنقاذ الاقتصاد الوطني من ركود جاء من احتكار الدولة لمعظم وسائل الإنتاج، وذلك بعد معركة صعبة بدأها الرئيس السادات بين قوى التحديث وبين بيروقراطية الدولة التي دشنت التخلف طوال عقد الستينات الماضية. ولكن بفضل "الفكر الجديد" داخل الحزب تم إدماج الاقتصاد في السوق العالمي بتدفق الاستثمارات العالمية والعربية والمحلية، فشيدت عشرات المدن الجديدة وبنيت مئات المصانع، وتحسنت الخدمات فأنيرت القرى، واحتاز ملايين المصريين الحواسب والهواتف المحمولة، كما انتعشت السياحة بما لا يقاس، والحصاد: ارتفاع الناتج المحلى الإجمالي إلى 558 مليار جنيه عام 2006 وكان لا يعدو 21 مليار جنيه عام1981 كما بلغ متوسط نصيب الفرد في نفس العام من هذا الناتج الإجمالي 7750جنيه مقابل 534 جنيه عام 1981 (الأرقام مصدرها الهيئة المصرية العامة للاستعلامات) ومن الناحية السياسية فقد تجنبت مصر الانزلاق إلى حروب ونزاعات عسكرية خارجية طوال هذه العقود الثلاثة، فـُحقنت دماء أبنائها ونجت ديارُها من الدمار، وبذلك توطدت حرية التعبير والصحافة، وتقلص النظام الشمولي Totalitarianism حيث أتيح للأحزاب ومنظمات المجتمع المدني أن تشارك في إدارة البلاد كل حسب قدرته، أضف ترسيخ الدولة المدنية بالنص على مبدأ المواطنة ( المادة الأولى من الدستور المعدل ) وإقصاء أي نشاط سياسي يقوم على أساس ديني ( المادة الخامسة ) قد يلقي بالوطن في أتون حرب أهلية مهلكة.

وللمعارضة قول آخر
أما الرؤية الثانية فتتبناها قوى المعارضة: أحزاب شرعية، وتنظيمات سياسية محظورة كالإخوان المسلمين، وحركاتٍ راديكالية مبتكرة مثل كفاية ، 6 إبريل ، الجمعية الوطنية للتغيير...الخ إذ يجادل جميعها- بدرجات مختلفة – في أن مصر فقدت دورها القائد في منطقة الشرق الأوسط، فقد حلت السعودية محلها في السبعينات ، وحلت إسرائيل محل الاثنتين في الثمانينات، وهاهي إيران وتركيا تسعيان اليوم لمنافسة إسرائيل في تدبيج الأجندة السياسية للمنطقة، تعاونا أو تنافساً مع القيصر الأمريكي. والأسوأ أن دور مصر في إفريقيا قد بهت حتى أن حكام دول منابع النيل أقبلوا يتذامرون لتخفيض حصة مصر "المحروسة" من المياه بما يهدد حياة شعبها بأسره. ذلك كله عائد - بنظر المعارضة – إلى فشل الحزب الحاكم على المستوى الاستراتيجي، جراء احتكاره للسلطة مرتكزا ً على قانون الطوارئ وعلى المؤسسة الأمنية، مؤلفةِ ملحمة تزوير الانتخابات. زد عليه " توزير" من ُوصفوا برجال الأعمال ( الرأسماليين الجدد) وهؤلاء قد تمكنوا بآليات مستحدثة من السيطرة على مقدرات الدولة، فبات إفقار الشعب واقعاً مفروضاً بسياساتهم الأنانية ضيقة الأفق، تلك السياسات التي لا تكترث بتصاعد حركات الاحتجاج والمظاهرات والاعتصامات، مما يشي باحتمالات انفجار الفوضى المنذرة بأوخم الشرور.

***
هاتان إذن رؤيتان لا سبيل إلى التقريب بينهما، فلقد تبلورا بالفعل في اتجاهين سياسيين متعاكسين، يزعم كل منهما أنه وحده المنقذ والمخلـّص دون سواه.
وعليه فإن سؤال استعادة النهضة في مصر- وهو سؤال خاطئ كما سنرى – ينبغي أن يعلق في رقبتيْ الاتجاهين معاً، لأن كليهما يقبله كصيغة لا بديل لها. وآية ذلك أن أنصار المرشح المحتمل للحزب الوطني يرفعون شعار " بداية جديدة لمصر" وكذلك يفعل أصحاب الاتجاه الثاني حين يطالبون بدستور جديد.

ما المقصود بكلمة النهضة ؟
يطلق المؤرخون على الفترة ما بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر في أوربا اسم " عصر النهضة " Renaissance وهو مصطلح معناه إعادة الولادة، فكأن موتاً إكلينيكياً قد حل بأوربا منذ سقطت روما عام 471 في أيدي البرابرة الجرمان، لتنقضي عشرة قرون مظلمة قبل أن يهل على الناس مولود حضاري جديد، ألقى بذرته في رحم أوربا الوصولُ إلى أمريكا، وتلقفته " قابلة ٌ" هي حركة ُ الإصلاح الديني، التي أوقفت هيمنة الكنيسة على حياة وأفكار الناس، وأما من تعهده بالتربية والتثقيف فكان فكرُ الحداثة الذي صاحب الثورة الصناعية بداية من الاكتشاف الثوريّ: طاقة ُ البخار.
فلا مشاحة إذن أن يكون هذا المصطلح - بهذا المفهوم- أداتنا العلمية َ لفحص دعوى المطالبة بـ " استعادة النهضة في مصر" فكيف نفعل ذلك؟
أولا ً : ينبغي الإقرار بأن مفهوم النهضة يشير إلي المغادرة، أي استعداد الناس لهجر الوضع ما قبل الرأسمالي Pre- Capitalismالذي يتسم بخضوع الاقتصاد لمتطلبات " أولي الأمر" واعتبار الأفراد مجرد رعايا لا شأن لهم بإدارة البلاد أو تقريرِ مصيرهم بأنفسهم. وبالمقابل تمهد النهضة لولوج عالم الحداثة الذي تحدد فيه مقتضياتُ التطور الماديُّ آفاقَ السياسات المطلوبة، بما فيها اختيار الشعب لحكامه ومحاسبتـُهم وتبديلهم...الخ إضافة إلى امتلاء شعور الفرد بذاته بحسبانه سيد مصيره، لا يعكر عليه في ذلك أية ادعاءات ميتافيزيقية أو ثيولوجية.
على ضوء هذا المفهوم، لا مندوحة من السؤال عما إذا كانت ثمة نهضة ٌ فعلية قد حدثت في مصر؟ أم مازال بعضنا ينتظر؟!
ثانيا ً: يجب الوقوف عند ذلك التعبير الذي يحمل بداخله تناقضاً ذاتياً، فالنهضة Renaissance هي- كما أوضحنا- في حد ذاتها استعادة، فهل ترانا نبتكر اصطلاحاً جديداً هو استعادة الاستعادة Rerenaissance ؟! أم نقول بالأصح إن النهضة التي كادت أن تحدث في القرن التاسع عشر بتأسيس محمد على للدولة المدنية العصرية قد أجهضت مرتين، الأولى بعد هزيمة 1827 إذ تخلى محمد علي مجبراً عن مشروعه في اللحاق بعالم الرأسمالية الحديثة، والثانية بعد هزيمة يونيو 1967حيث جرى أيضاً التخلي عن حلم الاستقلال الاقتصادي، وما تبع ذلك من انبعاث الفكر السلفي وهيمنة الأصولية كلية ً على المجتمع وجزئياً على الدولة، وربما نذكر في هذا المساق أطروحة بيتر جران في كتابه " الجذور الإسلامية للرأسمالية" القائلة بنهضة كادت أن تحدث في القرن الثامن عشر ولكن أجهضتها الحملة الفرنسية. فيا لنهضة مآلها الإجهاض كلما أطلت برأسها من الرحم التاريخي!
ثالثا ً: ليس من قبيل المماحكة اللفظية محاولة ُ التدقيق في استخدام وضبط المصطلح بتحديد ما إذا كان المطلوب هو النهضة أم استعادة النهضة، فكما رأينا آنفاً أن الاتجاهين الرئيسين في الواقع المصري يرفعان الشعار نفسه بأريحية مدهشة، ولكن دون التفات لوظيفة الشعار ومضمونه وشروطه التاريخية المحايثة!
الفحص المحايد في سياق النقد الذاتي لا غرو سيبرهن على أن مجتمعاتنا العربية، ومصر في مقدمتها لم تعرف حتى الآن سوى "محاولات " للنهضة ما تلبث حتى تتعرض للسقوط سواء بفعل عسكري خارجي( غايته إغلاق الأسواق أمام كل محاولة مصرية تستهدف رسملة البلاد) أو بالقصور الذاتي الناجم عن تخلف تاريخي كثيف، بدأ بانحسار الفتوحات العربية في القرن التاسع، حيث أرغمت البورجوازيات التجارية العربية على وضع أقدامها في الأحذية الصينية، قمعا ً لإمكانية تحولها إلى قوة ثورية في موجهة إقطاع الدولة العسكرتارية، فكان لزاماً أن ُيطرد من " قصور" المعرفة الفكرُ المعتزليُّ العقلانيُّ المتحررُ ليرقد مدحوراً في الجحور، وليحل محله في مقدمة المشهد الثقافي فكرٌ أشعري مهادن وتابع للسلطة، وفقه ٌ حنبلي جامد يخدمها بتكريسه ضيق َ أفق الرعايا. وهذا الفكر وذلك الفقه لا يزالان يعملان عملهما في عقولنا حتى الآن.

يوم تتغير الأسئلة
فهل ثمة أمل في أن يدرك الاتجاهان الرئيسان في مصر أن سؤال النهضة( بله استعادتها!) قد ولى زمنه وتلاشت شروطه، ليركزا على ضرورة الاندماج " الثقافي" في عالمنا المعاصر، المسافر على ذرى الموجة الثالثة، تلك التي تندفع بزخـْمها للمستقبل عبر ثورة المعلومات والاتصالات والإنتاج المعرفي؟
ذلك هو السؤال المنتج حقاً، ولحسن الحظ فإن الثورة الحالية هي ثورة من نوع جديد، متمرد على نموذج " المركزية الأوربية " الذي يشترط النهضة أولا ً ثم الإصلاح الديني ثانياً فالتنوير ثالثاً قبل الدخول في عالم الحداثة ! إنما في ظل الثورة الحالية فإن بإمكان أي مجتمع متخلف أن يركب موجتها قفزاً، وسواء نجحت قفزته بدرجة امتياز أو بدرجة مقبول فلا ريب أن أفكاره ( بما فيها أسئلته) سوف تتغير.
ونموذج أيرلندا - مثالاً لا حصراً - أقوى شاهد على صحة القول بأن وجود الناس هو الذي يحدد أفكارهم وليست أفكارُهم هي التي تعين أنماط حياتهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - وهم استعادة النهضة
مديحة ابراهيم ( 2010 / 9 / 26 - 12:50 )
مامن شك في أن العامل الخارجي ليس وحده المسئول عن اجهاض كل مشروع نهضة في مصر ، ولكن يضاف الي ذلك العامل ما سماه كاتبنا الكبير الدكتور مهدي عامل القصور الذاتي في ثقافتنا العربية ، وكيف لا وتلك الثقافة قامت على الفتوحات العسكرية واستلاب أقوات الغير . وما أن انحسرت الفتوحات حتى تراجعت كل الفرص في انتقال البورجوازية التجارية الى موقع القيادة كما جرى في أوربا . والحل لا حل بغير ميلاد طبقة وطنية تعرف أهمية العلم وترتبط بالثورة المعرفية الجديدة . شكرا للكاتب الكبير


2 - اين القيمة وحراسها؟
محمد البدري ( 2010 / 9 / 26 - 13:57 )
مع تقديري لجهد المفكر الجاد والمثقف الرصين د. بندق فان كلا المدرستين اللتان تصارعتا علي مفهوم النهضة في المقال لم يضعا في الحسبان كيفية المحافظة علي مكاسب النهضة في المدرسة الاولي (لو انه صحيح) وما العمل عبر مفكرين لتجاوز الاخطاء القاتلة في المدرسة الثانية (وهي صحيحة). فمن المؤكد ان الرصيد الثقافي والمعرفي للمواطن المصري عامة حاليا ادني بكثير من مثيله في فترات سابقة وان النخب الحالية اسيرة افكار ماضوية مهزومة ولا نشعر بان لها مسؤولية عن المستقبل الا بقدر ما يكسبونه لحظة بلحظة. بكلمات اخري لم يتم ترسيخ قيم ليبرالية بقواعدها القانونية حاليا ولها اصحابها والمدافعين عنها تماما مثلما لم ترسخ قيم اشتراكية بمنظومة قانونية تحميها في فترات سابقة مما يجعلنا نشعر بان ما جري ويجري في كلا الفترتين هو مجرد رد فعل للاحداث خارج مصر اقليميا او دوليا بدليل ان الثروة النفطية المجاورة طغت حتي علي الاخلاق ولن نقول فقط في السياسة اما من العولمة فقط طغت قيم الفهلوة السريعة والاستهلاك الردئ. كل هذا علي حساب الرصيد التاريخي للمصريين. شكرا وتحية وتقدير للمثقف د. بندق المهموم بما الت اليه اوضاعنا المزرية.

اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -