الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بيت علي الشباني. محطة الشيوعيين.. شهادة

عبدالكريم العبيدي

2010 / 9 / 26
سيرة ذاتية



عبدالكريم العبيدي

في ليلة باردة من ليالي تشرين الثاني عام ألف وتسعمائة واثنين وثمانين، اقتحم عبثي اليومي في البصرة أحد أصدقائي برفقة غريبين اثنين من أهالي الديوانية، اسم أحدهما حبيب ظاهر والثاني كريم، أخبرني صديقي أنهما قدما لتسفيري الى جماعة أنصار الحزب الشيوعي العراقي في كوردستان فوافقت على الفور، ولم أخبر أحدا، واستلفت مبلغ عشر دنانير من شقيقتي، وفي فجر اليوم التالي سافرنا الى السماوة، ومنها الى الديوانية التي دخلتها لأول مرة، وفي وقت الغروب.
قال "الرفيق حبيب": نبيت الليلة في بيت علي الشباني، ونغادر في فجر اليوم التالي الى بغداد.
كانت الحرب العراقية الايرانية على أشدها، وكان كتاب التقارير الحزبية والرفاق الزيتونيين والمخبرين يبحثون عن كل شاردة وواردة لأي معارض أو خصم أو مشتبه به، مما جعلني أتساءل وقتها: كيف سيسمح لنا الشباني بالمبيت في داره وسط كل هذه المطاحن والخناجر المسمومة والموت المعلن!؟.
دخلنا بيت الشباني القديم، فاستقبلتنا حرمه الفاضلة السيدة أم صمد وبالغت بضيافتنا، ثم زودتنا بالأغطية والأفرشة، وتسللنا مع أول خيط مجنون من تلك الليلة المجنونة باتجاه بيت الشباني الجديد الذي كان قيد الانشاء في حي سكني قريب، كانت بيوته جميعها تقريبا في طور التأسيس.
بعد ساعتين تقريبا قدم اثنان، فبادر حبيب بتعريفي لهما، فابتسما وعانقاني وأثنوا على خطوتي. كان أحدهما الشاعر والانسان علي الشباني والآخر صديق للشاعر لا آتذكر اسمه.
جلب لنا شقيق الشباني الطعام والشراب، وسرعان ما بدأنا الخوض في الراهن السياسي وخراب الوطن والموت المجاني، ثم تحول اللقاء الى جلسة شعرية مميزة، ألقى فيها الشاعر أبو صمد قصيدته الساخرة والجريئة وكان مطلعها، على ما أذكر: (عدنه خليفه نرجسي.. يوميه يملي الشاشه.. بدلة فرنسيه الصبح.. جفيه واعكال العصر.. ويبات بالدشداشه.. هذا الخليفيه نرجسي).
ما زالت دهشة تلك الليلة تسحرني، ما زلت ألامسها بحذر شديد، تلفه آلاف التساؤلات عن شرنقة الرعب والخوف وصدمة التحولات السريعة التي بددها الشباني بحنكة قائد، وغيرة وطني شجاع، وطيبة شاعر شفاف مرهف.
ولكن، ما زلت أتساءل: كم شباني في العراق، حول بيته الى محطة للمناضلين في عقود الدكتاتورية والبطش والقمع.!؟، كم شباني آمن وقتها أن الحياة العراقية فقاعة فصورها قبل أن تنفجر!؟، كم شباني آوى عراقيين غرباء في كل شئ، عدا عطر عراقيتهم الفواح بطعم الحب والفرح والجمال!؟، وكم شباني قسم قوته اليومي بين أفراد أسرته وظيوفه الخطرين جدا في غدوهم وايابهم بين كوردستان والبصرة والسماوة والحلة!؟.
لم أر الشيباني منذ تلك الليلة/ الحلم، التي أضافت لمخيلتي صورا مزهرة ومدهشة عن علي الانسان وعلي الشاعر وبينهما علي المناضل، فهذا الشاعر الفاتح كان متعبا ومرهقا منذ مطلع ستينيات القرن الماضي، وهو وحده الذي خرج من معطف "خسارته" الخالد، تلك الدلالة الملحمية والعنقودية الفارقة والحديثة في وهج الشعر الشعبي، التي مزجت بصورها المدهشة بين (شوغة الليل وبواچي العافية وحزن الملح وسوالف الصبير بدموع الشمس وحجي موت الخوف بدنيه الخوف).
كثيرا ما تساءل الشباني في شعره، وربما تنبأ:
(جم صبح ينـراد للماشاف صبحيه ابحياته
وجم عمر ينراد للباجر مماته)؟.
الشباني يقرأ موته/ الولادة أيضا في عنقائية ابداعه هكذا:
(أموتن غبشة ثوبي تراب
عشب روحي صبر ع الباب
أموتن سكته گلبي كتاب
واليقره الگلب يعمه).

ويعود ويسخر علي الشباني بنبرة أسى من رحلته الموجعة وعذاباته وآلامه وما آل اليه، يقول:
(دخان هذا العمر، عود الرماد ايوج)!؟
ثم يتغنى من داخل سجن الحلة في مطلع ستينيات القرن الماضي مزهوا بأنينه الشباني الخاص وبوحدته وغربته، معولا على حبيبه أن يغدق عليه بقليل من الحنان، يقول:
(ونيني لا شهر يخلص ولا عام
ونيني خاص إلي وحدي ولا عام
أخبرك لا أخو ينفع ولا عام
أريد من الحبيب يحن عليَّ).
بعد ما يقرب من ثمانية وعشرين عاما، قادتني الصدفة وحدها لرؤية علي الشباني برفقة صديقي أحد أصدقائي في مشفى ببغداد مؤخرا. وجدته هيكلا ابداعيا يغفو على بحر ابداعه، صامتا، هامسا، لكنه سرعان ما يستفز ضيفه بذاكرة متوقدة، لم يعرفني في أول الأمر، وما أن دفعت بذاكرته الى ثمانية وعشرين عاما من ذالك الأمس، حتى لمحت ابتسامة مدهشة ارتسمت على وجهه، هي الابتسامة الجميلة ذاتها التي استقبلني بها في تلك الليلة المجنونة داخل بيته قيد الانشاء، محطة المناضلين الغرباء الا من عطر عراقيتهم الفواح بطعم الحب والفرح والجمال، ثم سرعان ما عقد الشباني بمبادرة خاطفة لقاء "موبايليا" بيني وبين رفيقي القديم الرفيق حبيب ظاهر، الغريب الذي قادني الى كوردستان في تلك الليلة المعجونة بالرغب والصدمات.
وقتها فقط شعرت بسعادة بالغة، وخرجت من المشفى فرحا منتشيا بسحر هذا الشباني الجميل والمدهش.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - هذه هي روح واخلاص وشجاعة الشيوعيين العراقيين
ازهار محمد علي ( 2010 / 9 / 26 - 22:48 )
الاستاذ المكرم عبد الكريم العبيدي ..تحيه طيبه
اسلوبك جميل ورائع والاجمل هو ذاكرتك النقيه والصادقه لنضال وتضحيات الشيوعيين العراقيين الذين مابرحوا يدافعوا عن قضيتهم العادله في بناء عراق ديمقراطي مزدهر
وان الشاعرالمناضل علي الشباني هل كان يبغي مكسبا ماديا من خلال عمله الجبار آنذاك ام ان واجبه الوطني والنضالي دعاه لان يسهل لكم انتم مناضلي الحزب الشيوعي العراقي السبيل للالتحاق بصفوف الانصار؟؟
تحيه وتقدير لك وللشاعرعلي الشباني قبله على جبينه
والخزي والعار لاعداء الشيوعيه الجدد وبالذات من على صفحات الحوار المتمدن


2 - الوفاء
ايار العراقي ( 2010 / 9 / 27 - 22:49 )
شكرا سيدي الكاتب على هذا المقال (الوفائي)وربما تستغرب الشكر فاجيبك لان التنكر والخيانة ونكران الجميل اصبح السمة الغالبة للكثيرين ممن عضوا الايادي اللتي امتدت لهم وطبطبت على اكتافهم وارشدتهم الى طريق الحق والنور
الشباني وانت وغيرك من المخلصين هم الحزب اما سقط المتاع فلايمثلون سوى انفسهم بعد ان تفسخوا في غربة الروح والوطن فاضحوا لايعرفون من هم اصلا
جميل ان يوفي الانسان سلمت

اخر الافلام

.. -عفوا أوروبا-.. سيارة الأحلام أصبحت صينية!! • فرانس 24


.. فيديو صادم التقط في شوارع نيويورك.. شاهد تعرض نساء للكم والص




.. رمى المقص من يده وركض خارجًا.. حلاق ينقذ طفلة صغيرة من الدهس


.. انقلاب سيارة وزير الأمن القومي إيتمار #بن_غفير في حادث مروري




.. مولدوفا: عين بوتين علينا بعد أوكرانيا. فهل تفتح روسيا جبهة أ