الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نزهة القائد العام للحواس

جمال علي الحلاق

2010 / 9 / 27
سيرة ذاتية



أن نخرج في نزهة – حتى ولو قصيرة - يعني أن نجعل حواسّنا مستيقظة كلّها ، هكذا ودون أن ننتبه لذلك ، نذهب الى مسطر ( الحواس / العمال ) ونحملها كلّها في جسد واحد ، كما لو أنّنا نقوم بحملة إعمار ذهني يستنفر الجسد كلّه ، وبالتأكيد فإنّ العين ستكون القائد العام للحواس المشتركة ، لأنّها تمتلك القدرة على التحسّس الى مسافات أبعد من قدرة الأذن والأنف والجلد واللسان ، أي أنّ قسماً كبيرا من حملة ( الإعمار / التنزّه ) سيقع على عاتق العين .

وبالتأكيد فإنّ الأماكن مثلها مثل أيّ شيء آخر ، تكرّرها أمام العين يجعلها أكثر ليونة وأخفّ ثقلا أثناء النظر ، فالكلمات مثلا ، ولنتحدّث عن العربية أو الإنجليزية منها ، ترتبط قراءتها لدينا بصورتها ، فنحن عبر الممارسة المتكرّرة لا نقرأ الكلمات ، بل نقرأ صورها ، وما تفعله العين أنّها تطابق صورة الكلمة على الجدران أو على أبواب الأسواق والمحلات بصورتها على جدران الذاكرة ، والأمر يحدث بسرعة هائلة لا نتحسّسها لشدّة سرعتها ، فالعين غالباً ما تمرّ أو تقفز بسرعة لأنّها تمتلك صور الكلمات المألوفة لديها ، لكنّها تتبطأ مع الكلمة الجديدة ، ونشعر بتباطؤها حتى مع الكلمة التي لم تتكرّر كثيرا بحيث لم ترسخ بعد في الذاكرة ، وقوفنا لقراءة كلمة يدخل في هذا الباب ، من هنا يدخل الإجهاد على العين ، وكما قلت فإنّ الأماكن أيضا ( سواء أكانت بنايات ، أم نصب ، أم حدائق ، أم طبيعة غير مدجّنة ) تترسّخ صورها في الذاكرة نتيجة لتكرّر عملية المشاهدة ، وعليه فالذهاب الى مكان جديد لم تره العين من قبل يتطلّب بدءا استعداد العين على تحمّل إجهاد مضاعف .


هذا ما يحدث معنا نحن المبصرين ، نشعر بتعب العين أحيانا ، وتعبها يقود الى صداع حتما ، لأنّها تعمل برفقة الذاكرة ، تذكّراً وتأسيساً جديداً في وقت واحد معا .


بعد جولة تنزّه كاملة الدسم في منطقة ( الهايد بارك ) وبعض شوارع سيدني قالت إبنتي نورس : " أشعر بالدوران وبتعب في العين فقد رأيت أشياء جديدة وجميلة كثيرة دفعة واحدة " .

وبالتأكيد ، نحن نشعر بتعب العين ، لكنّنا لا ننتبه للمسبّبات ( لا أتحدّث عن آلام كثافة الضوء وقلّته ، ولا عن الحرقة التي يحدثها الغبار ، ولا عن حرقة تصبب العرق المالح فيها ) ، ففي حالات معيّنة - والأمر يحصل معي كثيرا - أنّني أدخل بناءً معماريّاً ، أو معرضاً تشكيليّاً ، فأشعر بالتخمة البصرية قبل أن أتجاوز نصف البناء أو المعرض ، تخمة بصرية نتيجة التصميم المذهل أو الزخرفة المدهشة أو الألوان والأفكار العميقة ، فأخرج مباشرة على أن أعود لاحقاً لمشاهدة ما تبقّى ( يحدث ذلك مع الحواس الأخرى أيضا ).

وأريد هنا أن أقول أننا نتجوّل في المدن دون أن ننتبه لها ، غير إنّ تكرار التجوّل يجعلنا نكتشف شيئاً جديداً دائما ، وهذا ما يجعل المدن دائمة التجدّد حتى وإن كانت ثابتة .
والذي يجعل عملية الإكتشاف متواصلة ومكثّفة هو تدريب العين على تحسّس الجمال والقبح في الأشياء التي حولنا ، وبالتأكيد سيكون ثمّة جمال في القبح أيضا ، وهذه ليست دعوة إليه ، لأنّني في النهاية أعتبر القبح إحساسا فردياً ، حتى ولو أقرّ الإجماع بخطأ ذلك ، علماً أنّ الإجماع بالنسبة لي هو أحد أسوأ أوجه القبح في العالم .

غالباً ما كنت أجوّل في شارع السعدون في بغداد ، ولم أكن أر فيه غير المكتبات والسينمات ، كان الشارع بالنسبة لي مختصراً بالمكتبات والسينمات لا غير ، وذات يوم أراد الجميل ( جلال نعيم ) أن يستبدل نظّاراته الطبيّة بعد أن نصحه الطبيب الشخصي لعبد الكريم قاسم بذلك ، فسألته وأين يمكن أن نجد محلات العوينات . قال جلال : في شارع السعدون .

فما أن دخلنا الشارع حتى بدأت محلات العوينات تنبت من الأرض كالفطر ، ووتقافز هنا وهناك كالضفادع تحت المطر ، فجأة بدأت عيني ترى ما لم تكن تراه سابقاً ، كانت المحلات أكثر من عدد المكتبات إن لم تكن أضعاف عددها ، تجربتي مع جلال جعلتني أرى شيئا غير المكتبات والسنيمات في شارع السعدون ، وجعلتني أنتبه الى أنّني لا أرى الشارع الذي أمشي فيه ، بل أرى حاجتي منه .

الخروج في نزهة ، هو تجربة في النظر ، نحن نتعلّم كيف ننظر للأشياء مع كلّ مرّة نخرج فيها - الى المدن أو الى الطبيعة - شرط أن تكون هناك حاجة جديدة أو مختلفة هي التي تدفعنا الى الإستكشاف والتعلّم ، وعليه فإنّ سبب تغيّر ميولنا تجاهها عائد الى تغيّر واختلاف زوايا نظرنا ذاتها .

والتنزّه أيضا تجربة في اللون ، وقد يحدث أن أخرج للتجوّل في شوارع المدن فقط لأقترب من فهم أهلها للون ، الألوان تكشف وتشف عن روحية الأفراد ، كما أنّ اللون أصبح - بفعل تأثير تجربة العولمة - حسّاً جمعيّاً ، فكما تدور السنوات عند الفلكيين على أبراج بعينها ، فيقولون : دارت السنة على ثور أو نمر أو أيّ برج آخر ، فإنّ فصول الأزياء تدور على ألوان بعينها ، فترى اللون الأسود طاغياً مرّة أو قد يُطلى بلون آخر ، وبالتالي فإنّ القدرة على تحسّس لون الفصل يجعلك إمّا قريبا أو بعيداً عن الذائقة العامة .

وبالتأكيد فإنّ اللون شعار لجهات كثيرة ، سواء أكانت هذه الجهات دينية أو لا دينية ، فألوان الأزياء تكشف عن الإعتقادات أيضا ، وعليه ، فأن نقوم بالتنزّه في شارع هو نسيج لهذه الألوان العقائدية أيضا يعني في النهاية أنّنا نمارس تدريباً إنسانيّاً بحتا على المرونة في رؤية الآخر ، ومع تكريس عملية التدريب هذه ، التي تُتوَّج بصقل الحواس ، العين بدءاً ، فإنّنا نبدأ ، بقصد أو بغيره ، نبدأ بالشعور بالميل والتعاطف مع وجود الآخر ، سيكون جميلا وجود الأحمر البوذي والماركسي وأرض الأبورجينيزي الى جانب الأبيض الإسلامي والصابئي الى جانب الأسود اليهودي إلى جانب ألوان لأقوام واتّجاهات مختلفة أخرى ، والقضية هنا لا تتعلق بمدى عمق أيّ من هذه الألوان ، ولا تتعلّق حتى بعمق أيّ من هذه الإتجاهات ، لأنّ التنزّه في حدّ ذاته يرتفع على التحجيم ، ويترفّع عليه أيضا ، التنزّه لا يتحقّق بشكله العميق إلا عندما تقف العين / القائد العام للحواس المشتركة على أعلى نقطة ، وتُشرف من هناك على النسيج اللوني الكلي ، الذي يمزج القيم والإعتقادات بألوان الطبيعة والمكان .

التنزّه في النهاية تمرين إنساني بحت ، ومحاولة في تبرير وجودنا في العالم ، ووجودنا الحقيقي لا يتعمّق إلا باستنفار الحواس كلّها في حملة إعمار ذهنية لا تتوقّف .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من يتحمل مسؤولية تأخر التهدئة.. حماس أم نتنياهو؟ | #التاسعة


.. الجيش السوداني: قواتنا كثفت عملياتها لقطع الإمداد عن الدعم ا




.. نشرة إيجاز - الحكومة الإسرائيلية تغلق مكتب الجزيرة


.. -تجربة زواجي الفاشلة جعلتني أفكر في الانتحار-




.. عادات وشعوب | مدينة في الصين تدفع ثمن سياسة -الطفل الواحد-