الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حرق قبل الموت..

كريم الشريفي

2010 / 9 / 27
الادب والفن



أراد أن يبدأ ليؤرخ رحلة شارفت على النهاية ظناً منه ، ورحلة بدأت من جديد بكل مضامينها وأشكالها.. ليفاضل بين عالمين وجغرافيتين وتأريخين بل أراد مقارنة ثقافتين ثقافة خوف هرب منها، وثقافة حرية عاد إليها .كانت لديه ثقافة الخوف تشبه جداراً عازلا لمئات الامكنة التي جرى فيها البطش والظلم والتنكيل.....رأى صور الملق والمداهنة في الأمكنة جميعها. كانت تلك الصور دافعاً للأنطلاق من القيود التي أدمت معصميه ، يريد المغامرة الى عوالم غير مألوفة .. تقدم خطوات وتراجع أقل للخلف بعد أن شاهد النكوص الذي يترصده . قرّر العودة لكن الى أين؟؟ تخيل العودة الى وطنه وهو مكسور الروح،خائب الأمل،متعب الجسد، أصبحت العزلة نهباً له ، تراجع بعد أن تذكر هزائم الأماكن الظلماء يوم كان مقيداً فيها يرّدد مع نفسه رغم الهواجس الكثيرة التي لاحصر لها – عظمة الأنسان تتجلى بوضوح في انقاذ من بقى عرضةً للنهش والأنسحاق تحت وطأة الألم وثقل البؤس- بعد زمن طويل اختلفت الأشياء وهي من طبيعة تطورتها الكامنة .. عاد وحيداً يجتر معه احلام وذكريات وحكايات مثلما غادر وحيداً يوم كان عالي الهمة لايعرف المستحيل حتى لو كلفه ذلك حياته. عبر الحدود بالعودة وجد باب السماء مفتوحة ، شمّة رائحة الأرض ، انها أرضه رغم جفافها وامتداد هذا الجفاف أمام عينيه نهباً للعيون، تأمل لون الأرض الضارب للون البُنّي الذي يشبه دماء الضحايا عندما يبست على بلاطات الأماكن المظلمة.استغرق السكون والعربة تسير على ايقاع الأسلفت وكأنها غافيه في وحشة المدى .تحسس بيده اليمنى صديغيه وجبهته ،علقت رطوبة من العرق النازف على وجهه العاري الذي وجده املساً ساكناً مثل حبات الرمل . لكن سكونه حيّ .. تفحص الوجوه بجواره شاحبةً، مُعذبة، تشكو من ظلام الليالي لايعرفها أحدٌ إلا سواه.وجوه شكلها مُغم ، مُفجع ، مُقرف..لا أحد منها يستطيع التحدث، بل لا أحد يريد التحدث .. تجاوزت العربة منتصف الطريق ، فجأةُ بادر أحد الأشباح .. أين تذهب سأله ؟ .. الى الأهل تمتمها برطانة تختلف للأيحاء! أهااا.. أنت مهاجر ؟ لا أنا منبوذ! تصاعدت روائح نتنة تشبه الزرنيخ والبارود ، وروائح مرض الطاعون.. البيوت الترابية بدأت تلوح والسواتر الممتدة حول محيط القرى في تزايد .. تثاقل محرك العربة .. اومأ احدهم من مسافة أمتار .. قف! أوقفنا الحرس الغريب .. بطاقتك ؟ جيد .. أنت ؟ أنا ليس عندي بطاقة فقدتها يوم هربت .. الى أين هربت؟ الى الجبال !عليك بحمل البطاقة معك في المرات القادمة! نعم مشهد البؤس لايحتمل ، والخذلان لاينمحي عن الوجوه وكأن الأرض وما عليها تعرضت للسبيّ تواً . تبتلع العربة الأسفلت ابتلاعاً ، الأرض خراب ، الشجر يابس ، والبشر بائس ... سأل سائق العربة .. متى أصاب الزلال هذه المنطقة .. ؟ لم نسمع بنشرة الأخبار أن زلزال ضرب هذا البلد ؟ لا الذي تراه هو امر طبيعي ! ترجل من العربة ليستأجر آخرى تقله الى أهله .. أخذت العربة الجديدة طريقها وسط الشارع تتعثر بمطبات لاحصر لها والرائحة الفاسدة أكثر نفاذاً .. يقترب من حدود الأهل وربما العشيرة التي لايعرف عن اصلها شيئ سوى اهله وأجداده ..وكانوا حطباً ... متخاصمين بسبب البؤس والجوع .شارف على مدينته .. لاتختلف المناظر عن التي رآها عند دخوله البلد . لمح عن بعد.. بعض المستقبلين صور بعضهم باقية شاحبة بالذاكرة رغم السنين الطوال من فراقهم لكن ميّز البعض منهم بسب عاهات منذ الطفولة عندهم . أحدهم مشلول من الطفولة يتكئ على عربة خربة من اقاربائه لم يتعرف عليه لولا حركته الفجائية لانه لايستطيع الوقوف لأكثر من لحظات.. وجارٌ له كان يمتهن كتابة التقارير للأيقاع بالأخرين ، وثالث جندي خرج بأعجوبة من الموت اثناء الحرب ، وآخر بيده بندقية أطلق النار منها أحتفاءاً بعودة المنفي. تبعه موكب المستقبلين الى أن وصل البيت ..لم يعثر على أي ذكرى ، بل رائحة لذكرى ، مشهد ، صورة، كتاب، رسالة أو حتى قطعة ملابس ذات يوم اشتراها أو لمسها أو ارتداها .. كل الذي وجده اشباح ممسوخة كانت ذات يوم تحمل هيئات لبشر تنتمي لهذا المكان. بدأت الصور ، الأشياء والأشخاص تتجمع لتشكل مشهداً في التاريخ .. تأمل المشهد.. الحياة تتبدل طبقاً لمسسبباتها وضروراتها لتحدث كماُ من التغيير والتبّدل... لكن هنا حدث تغيير هائل ولم تتبدل الأشياء إلا أكوام الركام والخراب ازدادت لتتطاير مع المجهول الى ساحل آخر ،أو جغرافيا آخرى لتصبح حطام يحرقه التاريخ. تفحص الوجوه وكأنها تهالكت منذ ولادتها لتتحول الى هياكل مزقها الرعب.. قدرة عجيبة على تحويل الذل الى كرامة ، والهزيمة الى نصر ، والجوع الى شبع .. هذا الذي جلبته لهم الحياة منذ الولادة الأولى.. حديثهم عن الأشباح وموتى عائدين من القبور، وتخيلات الشرور وسمومها انهم في غيبوبة .. انهم استمرأو الهزيمة ، وامتهنو التوسل ،لكنهم يكابرون بالحديث عن الرفعة والعفة والكرامة ، والعّلو، والسّمو وهم بائسين .. انها قيمهم المشوهة . أدرك من اعماقه أن هؤلاء سيتحولون له الى جلادة ثانيةُ .. عاد الى منفاه وهذه المرة قد يطول به الى ان يطبق وصيته بالحرق قبل الموت !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. برنار بيفو أيقونة الأدب الفرنسي رحل تاركًا بصمة ثقافية في لب


.. فيلم سينمائي عن قصة القرصان الجزائري حمزة بن دلاج




.. هدف عالمي من رضا سليم وجمهور الأهلي لا يتوقف عن الغناء وصمت


.. اختيار الناقدة علا الشافعى فى عضوية اللجنة العليا لمهرجان ال




.. صباح العربية | نجوم الفن والجماهير يدعمون فنان العرب محمد عب