الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بيت كان باردا (قصة قصيرة )

بشير زعبيه

2010 / 10 / 1
الادب والفن


مرة واحدة قلت لها متظاهرا وكأني أحدث نفسي :
- بيتك بارد ..
لم أسمع منها اجابة وددت أن تكون محددة ، لكنها ردت بجمل عديدة كأنها تشرح درسا فهمت من محصلته أنها لا تشاطرني هذا الاحساس ، وبدت حين تحدثت أنها كانت تبذل جهدا واضحا ليس لاقناعي فقط با ربما لاقناع نفسها أيضا ، اذ أنني لم أفلح في التقاط بعض المفردات التي نطقت بها بشكل أقرب الى الغمغمة رغم قرب المسافة بيننا وانتباهي المركّز لاجابتها ، لذلك لم أستقبل هذه الاجابة بحياد .. ثم لماذا اذن :" أعددت وجبة غداء لشخصين .. لك مسافة الطريق " وقبلها ذلك الابتهاج الذي ظهر في نبرتها حين جاءها صوتي :" آلو " ولم أنطق بعدها لأنها أقفلت السماعة فور تأكدها أن الذي رد على الهاتف هو أنا .. غير أن صوتها الآن يصدر بنبرة مخالفة تماما حتى لكأن احساسك يقترب من الشك في أن هذا الصوت هو نفسه الذي كان يهاتفك قبل قليل وأن الدعوة التي حملها لك كانت قاطعة فعلا ، أم هي مزحة لولا هذه المائدة المهيأة التي تنهمك في ترتيبها في الوقت الذي تحادثك فيه بما أفهمه اضافة أخرى للاجابة .. حتى عندما جلست قبالتي تفصلنا المائدة كانت تواصل اضافتها ، واذ قاطعت نفسها لتعلن أن المائدة صارت جاهزة انتهزت الفرصة لاتساءل بغير حياد أيضا :
- لماذا نجلس هكذا كمتفاوضين ؟!
وخلال المسافة التي استغرقها تنقلها من مجلسها لتصير بجانبي كانت قد عادت الى الحديث..
أشياء عديدة ازدحمت على المائدة وكأسان فقط وفي المكان رائحة جوع ..
حجرة حيدة ليست ضيقة تماما هي المكان كله ، كتب تناثرت في زوايا الحجرة الثلث أما الركن الرابع فقد حجب بساتر خشبي ليشكل ما يشبه المطبخ الصغير ، وليس ببعيد عن مجلسها وضعت بعض الكتب وجرائد غير رسمية في شكل عشوائي بدا أنه مفتعلا وها رحاب تمد احدى يديها نحو تلك الجرائد وتسألني ان كنت قد قرأتها أو سمعت عنها ثم تلاحظ أنها سيئة الطباعة وتنتقد موضوعا محددا فيها وتصف ما جاء فيه بالمغالطة الكبرى ، وتدلل على ذلك بكتاب قرأته مؤخرا فيما طافت بعينيها أرجاء الحجرة كأنها تحاول الاشارة الى ذلك الكتاب قبل أن تكتشف بما يشبه الافتعال أيضا أن الكتاب بحاذاتها فتتناوله على الفور ، لكنني أسارع القطع محاولت وشيكة منها لتلاوة فقرة أو صفحت ما مفصحا بلهجة المكتشف عن اعجابي بطريقتها في اعداد الأكل .. ورغم تراجعها عن محاولتها واعادتها للكتاب جانبا الا أنها بدأت تسرد تفاصيل ملآخذها عن الموضوع دون أن تنسى كعادتها اقتناص أو صنع فرص لاعلان موقفها المترفع عن النظرة النسائية في التحليل والرافض لمثل هذا التصنيف أساسا ..
هكذا هي رحاب منذ أن عرفتها قبل ثلاث سنوات حين بدأت اقامتي في هذا البلد المشرقي الشقيق ، لاوقت لديها لما تسميه بالثانوي ولا شيء لا يتحول عندها الى مشروع حوار أو نقاش حتى عندما يتعمد أحد مغازلتها مازحا أو قاصدا فان ذلك قد يصبح بقدرتها رأس خيط لقضية جوهرية أو عنصرا جديدا تلتقطه لتعزز به برهانا قاطعا لنظرية ما تتبناها .
لعلني الوحيد أو هكذا تهيأ لي طوال معرفتي بها من كان يثير فيه سلوكها احساسا أقرب الى الاشفاق لسبب لا أستطيع تحديده .. من جاءت ملاحظتي :
- بيتك بارد ..
ثم لم أعلق على سيل الحديث الذي ردت به رحاب على هيئة اجابة ، بل ملت باتجاهها حتى اختنقت المسافة بيننا وكانت حبة حمص قد سقطت حينها قبل أن تصل شفتيها ورأت أنني قررت أن أخوض محاولة خاصة لاعادتها الى فمها الصغير الذي صنع مع عينيها التين اشتقتا لونهما من دخان حالة بين الترقب والاستغراب ، اذ بقيت الشفتان متباعدتين في هيئة انتظار بينما ظلت العينان تتناوبان النظر مرة الى وجهي وأخرى الى يدي التي تخوض المحاولة وحتى أتمكن من الوصول الى الحبة والتقاطها كان لا بدّ أن أصنع وضعا مريحا أسند فيه مرفقي الأيسر الى رحاب وتحديدا عند منطقة الجانب الأيمن من الخصر وأمد يدي اليمنى الباحثة ، وحين صارت في متناولي أحسست بمحيطها الصغير المستدير وبأنها تصلبت بسرعة بين أصبعيّ ، لكن اعتدال رحاب المفاجيء الى الخلف أحبط شعوري بالظفر وجعلت حركتها المفاجئة حبة الحمص تفلت مرة أخرى وتبتعد ثم تختفي ..
منذ تلك الجلسة لم اعد ألفت انتباه رحاب الى برودة البيت بل كنت أستجيب لحواراتها وأبادر باختراع الفرص التي تتيح لها استعراض واستخلاص استنتاجاتها النظرية وأوافقها .. ولا بد أنني لم ألحظ خلال الوقت الذي مضى بعد ذلك تغيرا ما في مسلكها الا ذلك الايقاع البطيء الموحي الذي نطقت به مرة :
كأنما الصوت وكأن تلك الكلمة كانت جملة مفيدة تغني عن استطراد رحاب :
- أعددت ...
قاطعتها لأتساءل ان كان الصوت فعلا صوتها فقاطعتني بدورها خشية أن أمهد لاستحضار عذر : سيكون الحمص على المائدة ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟