الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(( زهايمر )) غازي القصيبي

سلمان محمد شناوة

2010 / 10 / 1
الطب , والعلوم


رحل غازي القصيبي وكانت خاتمة حياته أقصوصة صغيرة عن مرض يصيب الإنسانية جمعاء , مرض لا يفرق على أساس الجنس أو اللون أو الديانة , الكل أمامه سواسية كأسنان المشط .. رحل غازي القصيبي ..وهو من يمكن إن نطلق عليه الوزير العاشق أو هو صورة أخرى من ابن زيدون القادم من ليالي الأندلس ... أو هو الوزير الأديب على شاكلة ابن خلدون ...رحل الأديب والشاعر والفنان والمثقف لكن قبل رحيله بلحظات خطت أنامله أقصوصة الزهايمر ... وكأنه يخاف اللحظات الاخيره من عمره , أو بدأ يشعر بدبيب الزهايمر يغزو دماغه وعقله ..هذا العقل والذي كان موجات متحركة متلاطمة تعلو أحيانا ...وتكون لحظة مخاض كتاب أو قصة أو قصيدة شعر ... أو يخرج للعالم بكتاب مثل (( فن الإدارة )) ...
أنها لحظة مرعبة حقا ..إن يتحول الإنسان من كونه يعلم إلى كونه لا يعلم ..والكل حوله يشعر انه فقد قدرته على التذكر ..إلا هو , هو لا يعلم ماذا حدث ..ولا يستطيع استيعاب الذي حدث ... كل ما في الأمر ... الأسماء والإحداث سقطت فجاءه من ذاكرته ..فلم يعد يعرف الناس الموجودون حوله , ولم يعد يعرف ماذا حدث أمس ...ولم يعد يعرف الناس الذين يلتقيهم أو من التزم نحوهم بشئ ما ... هذا الأمر يصدم المقربين منه ويحتاجون إلى فترة من الزمن حتى يتعلموا كيف يتعاملون مع الوضع الجديد ...ويتعلموا انه غير محاسب على تصرفات ينساها بعد لحظات أو أقوال لا يتذكرها بعد لحظات .... وكأنه إنسان متجددة حياته صفحة بيضاء تتجدد كل يوم ....
كل منا يستطيع إن يكتب حكايته مع المرض من خارج إطار المرض ...يستطيع إن يكتب وان يقول ماذا أصابه حين صدم بان اعز محبيه أصيب بهذا المرض ...وكيف تغلب على جهله بالمرض ..وكيف استطاع التعايش مع المرض ..بعد فترة نزاع نفسي حتى يتقبل ا ن أباه أو أمه أو زوجته أصيبت بالمرض ..كيف تغلب على نظرات الناس حين يوجهون أصابع الدهشة أحيانا ...أو أصابع الرثاء أحيان أخرى إلى هذا الشخص ويقولون لقد خرف فلان ...الخرف هذا المرض المرعب والذي يصيب فجأة بدون سابق إنذار ... أو يستطيع إن يكتب آخرون قصتهم مع هذا المرض ... وعدم قدرتهم على مواجهته والهرب منه ... بوضع أبائهم أو أمهاتهم بدار للمسنين مثلا ..أو على الأقل يخبر الآخرين بأنه فعل كل ما يمكن إن يفعله حين أتي بممرض أو ممرضه ...تقوم بالواجبات المفروض إن يقوم بها هو ...الهروب الممكن والمستحيل في نفس الوقت .... كثير منا يستطيع إن يكتب قصته عن هذا المرض ..لأنه الطبيب الذي عالج عشرات الحالات ..التي راجعته في المستشفى أو العيادة الخاصة به ... وكيف تحول إلى متخصص بهذا المرض ...وكيف استطاع مساعدة العشرات بتعليمهم فن التعايش مع المرض ... أو يستطيع إن يبقى الساعات الطويلة في محاضرة مهمة تنقلها وسائل الإعلام , أو يهلل لها المختصون عن افضل وسيلة أو علاج لهذا المرض .... أيضا كثير منا يستطيع إن يكتب حكايته كيف استطاع معايشة المرض كونه ذاك الممرض أو المعالج ويحكي أكثر من قصة إنسانية في هذا الموضوع .....
ولكن هل استطاع احد إن يكتب قصته من داخل المرض , بحيث عرفنا مثلا , كيف يكون شعور المريض نفسه ..ما هي أفكاره وما هي ذكرياته ..أحداثه شعوره وهو يساق إلى الطبيب أو غرفة الطعام أو حتى إلى الحمام لقضاء حاجته .... وهو لا يعلم كيف ذهب أو حضر أو كيف ترتبت أفكاره بحيث وصل لتلك النتيجة ... لا يستطيع احد إن يدعي ..إنه يعلم كيف يكون حال المريض لحظة استيقاظه من النوم ..وهو يشاهد وجوه غريبة تدخل عليه تحمل له الطعام ..أو تحاول نزع ملابسه لإبدالها بملابس أخرى ..أو وجوه تحاول إن تبتسم له ... وتقول له صباح الخير أحيانا أو تحاول إن تحكي له حكاية ..أو ما هذا الجهاز الغريب الموجود في غرفته والذي يعرض أحداث غريبة بعضها محزن والأخر مفرح ..وبعضها كوارث والبعض الأخر أمور مفرحة ....لا يدري لماذا هذا يطلب منه الخروج للتريض مثلا ... ولا يدري لماذا ذاك يوبخه ..لأنه وجد بقعة وسخه على ملابسه أو في غرفته ... ولا يدري لماذا الأخر يقدم له انواع معينة من الدواء .......
هل يستطيع احد إن يشرح لنا كيف تكون حياة الإنسان ..حين تصبح حياته متجددة يوميا كصفحة بيضاء ...بحيث كلما صحي من النوم كان فقد كل الأحداث والأقوال قبل نومه , انها حالة مرعبة حقا لمن يحاول إن يفكر بها .. والمشكلة ا ن أيا منا لم يفكر بهذه اللحظة أبدا إلا إذا أصاب احد أقاربه أو محبيه هذا المرض ...ساعتها يبحث عن كيف ولماذا ؟ ساعتها يبحث عن العلاج والطبيب ...يبحث عن أفضل أساليب المعايشة ويحاول إن يتعلم ويفهم ...أو يحاول قليلا إن يتفهم ....
شاهدت مره فلما لشخص أصيب بفقدان الذاكرة أو هو نوع من أنواع الزهايمير بحيث انه ينسى كل ذاكراته كلما صحا بعد نوم ... كان في حالة نزاع نفسي رهيب ..كيف يتصرف ماذا يفعل من يسال ...لجأ إلى طريقة فريدة يحاول بها التذكر ...لان الذاكرة هي الأساس لأي فعل أو قول أو التزام يمكن إن يفعله الإنسان ...وبدون الذاكرة سيكون فقد كل الأدوات التي تجعل الإنسان ذا كيان في المجتمع ...هذا الشخص اخذ بالتقاط الصور للناس الذين حوله وكتابه اسمأئهم على تلك الصور ...لأنه بمجرد نومه يعلم انه لن يتذكر الأشخاص أو أسمائهم ...فكلما أتي شخص التقاء به وحاول محادثته ..كان يبحث في الصور حتى يعرف اسم الشخص الذي يحدثه ... وكان يكتب ملخصات مع صور هؤلاء الأشخاص بحيث لو تقدم إليه أي شخص يعرف اسمه من الصورة المكتوبة عليها اسمه ..ويعرف ماذا يريد منه إن يفعل أو ماذا كان الالتزام معه من خلال الملخصات المرافقة للصور ......
إلا ترون كيف هو الأمر مرعب إن يكون هو داخل أطار المرض ...وليس خارج هذا الإطار ..وكيف هو هذا المخزون الرائع المسمى (( ذاكرة )) يجعل من حياتنا سهلة وبسيطة ... لا بل تجعل لنا كيان محترم يعتد به في المجتمع ... وتدخلنا في دوامة الأسئلة من يعتمد على الأخر هل العقل هو ابن لهذه الذاكرة ..أم العقل هو المسيطر على هذه الذاكرة ...لكن حين نفقد الذاكرة اين يكون العقل ... وكأننا أمام جهاز كمبيوتر ..به هارد يخزن كل البيانات وهي الذاكرة ...وبها برامج تحلل وتنظم حياة الإنسان وهي العقل ...لكن ماذا تفعل هذه البرامج إذا تدمر الهارد في جهاز الكمبيوتر ...ماذا تفعل البرامج المحللة ...إذا فقدنا كل قاعدة البيانات المخزونه في ذاكرة الجهاز .... وبنفس الوقت ماذا نستطيع إن تفعل كل الذاكرة بدون برامج مناسبة .... المصاب بالزهايمر يكون قد فقد ذاكرته أو قاعدة بياناته لكن لا تزال البرامج المحللة له تعمل ...ولكن لا تستطيع أبدا إن تسعفه أو تجد له حلولا مقبولة لمشكلات لا يعرف كيف بدأت أو كيف يستطيع إن يجد لها حلا .....
كثير من الأحيان يبدوا مريض الزهايمر مترددا يبدو عليه الاضطراب ..لأنه يجهل التصرف المناسب ويخاف من التوبيخ لو كان تصرفه غير مناسب ...انه معضلة كبيرة بالنسبة له ... وكأنه طفل صغير يحتاج للتوجيه وينتظر من اقرب الناس إليه لتوجيهه ماذا يفعل ... وحتى يتم ذلك يحتاج إلى الثقة بينه وبين هذه الوجوه الغريبة التي تملاء فضاء المكان ...المشكلة وكان عملية بناء الثقة هذه عملية يومية ..سوف تتعب من هم حوله ...لكنها تكون الحل الوحيد بالنسبة لها...
يقولون إن غازي القصيبي تحول فجأة في روايته الوداعية إلى كاتب رومانسي صاحب خيال خصب ..صور من خلالها قصة زوج حال فقد الذاكرة عنده بسبب الزهايمر دون يتذكر العطر المفضل لزوجته فيدرك انه المرض الخبيث الذي تصاب به الذاكرة لكبار السن ويتوجه من تلقاء نفسه للعلاج في إحدى المركز المتخصصة ...
اثنا عشر رسالة، رسائل يوجهها الزوج من مشفاه إلى زوجته، ينتقل فيها بلسان من اختلطت عليه , فبدأ بالتوهان، ونسيان القديم، ثم الأحدث، وهكذا إلى أن يصل به الأمر إلى عدم تمييز من حوله، وما يحيط به من الأشياء، وصف المرض مرة بأنه وباء أرستقراطي، وأن صفوة الصفوة قد أصيبوا به من علماء وقادة ونجوم سينما وغيرهم مستشهدا بالرئيس الأميركي ريغان الذي وصف المرض متندّرا بأنه مرض جميل تقابل فيه الأشخاص أنفسهم، وتظن أنك ترى وجوها جديدة كل يوم.
يعقوب العريان يخبر زوجته نرمين انه مسافر في رحلة عمل طويلة ...وبدلا من يذهب في رحلته تلك يتجه الى المستشفى ليتم علاجه من مرض أحسه يزحف إليه ببطء... (( ٍحالة الاستشعار التي يشعر بها الإنسان وكثيرا ما يتجاهلها اعتقادا منه انه لا يزال ذاك القوي المملوء صحة ..الغرور الذي يصيبنا حين القوة )) يستشعر يعقوب العريان أو ربما هو غازي القصيبي ..أو ربما أكون إنا أو أنت ..من يدري ..يستشعر إن ذاكرته ليست طبيعة بدا رحلة النسيان ...أو ما يسميه البعض ..الموت بسرعة بطيئة كما كتبت (( الينور كوني )) , من المستشفى يرسل إلى زوجته اثنا عشر رسالة بعد أشهر السنة أو بعدد الأسابيع التي قضاها ... يتكلم عن السياسة والمجتمع ..يصف حالة المرضى حوله , ومعاناة من يوالونهم من أهاليهم مصور إعراض المرض الذي يميزه عن غيره ...وكأنها حالة يعايشها القصيبي بنفسه ...يشكك في حالة الحب الإيمان لإعطاء العزيمة لتحمل مأساة رعاية المرض ... خلاف لحالة ( روبرت دانيس ) القس الذي لجأ إلى الإيمان للسيطرة على ما بقى من قدرته وذاكرته لمواجهة المرض .....

اتامل القصيبي ( يعقوب العريان ) حين يقول "«أفكار حزينة قاتمة تنتابني» أو: «أعيش يومي لحظة بلحظة، ساعة فساعة».
يتذكر زواجه الأول من قريبة له أيام المراهقة، هذا الزواج الذي أجبر عليه قسراً لغاية عائلية
تذكر امرأته نرمين يسري التي تصغره كثيراً وكيف تعرّف إليها في شرم الشيخ خلال مؤتمر مصرفي شارك فيه بصفته رئيساًَ لمجلس بنك «الدهناء»، وشاركت هي فيه كموظفة في بنك يملكه أبوها...... تذكر جده.
يتذكّر «يعقوب» أشياء كثيرة وينسى أشياء أخرى كثيرة. ينسى اسم زوجته الثانية، بل ينسى إن كان تزوج مرة ثانية ويشك في الأمر. ينسى الأحداث الأولى في حياته: الفيلم الأول، الكتاب الأول، الحذاء الأول... «تزعجني ذكريات المرة الأولى لأنها تجيء ثمّ تتملص وتهرب» يقول.
لكنه يتذكر جيداً كيف كان في طفولته يلعب «لعبة الموت» فيتظاهر انه مات ليخيف أهله. هذه الذكرى لم تفارقه، بل هي تلحّ عليه الآن في مرضه الذي دفع به إلى حافة الفراغ: «بلا ذاكرة لا يوجد سوى الفراغ، فراغ الموت».
ثم لا يتوانى عن مساءلة نفسه: «أ-
الا توجد قوة تقهر النسيان»؟
ولا يضيره في أحيان أن يسخر من هذا المرض الرهيب فيسميه «الزهايمر المتلصّص» أو «العزيز ألزهايمر» وكأنه يستحضر الطبيب الألماني آلويس ألزهايمر الذي اكتشف هذا المرض العام 1906 وسمّي من ثم باسمه، كما يشرح لزوجته في إحدى الرسائل.

وتنتهي الرواية القصيرة بورشة عمل يلتقي فيها الأطباء المتخصصون في هذا المرض في مركز جامعة جورج تاون مع المرضى ومن يتولون رعايتهم يشرحون فيها المراحل الثلاث المبكرة والمتوسطة والمتقدمة التي يمر بها المصابون، وخصائص كل مرحلة، مع تقرير أن الطب لم يستطع حتى الآن إنتاج عقار يصدّ تقدمه في المرحلتين الأخيرتين، مما يعني أن حالة من التشخيص المبكر قد تفيد في منع تدهوره، ولا بد لقارئ الرواية التي تلامس واقع مرضى ألزهايمر من أن يخلص إلى أن الإفصاح عن حالة المريض في الأسرة يمثل البداية العملية في إسداء العون له.

في نهاية الرواية يموت يعقوب العريان بنوبة قلبية ...وهو حل منطقي لنهاية الرواية ..واختلف مع الذي قال إن القصيبي اطلق رصاصة الرحمة على المريض بنوبة قلبه وهو داء ليس له علاقة بالوباء الذي أصابه ...وكأنهم يعتقدون إن الموت يجب إن يكون بداء الزهايمير ...وهذا اكبر خطأ يمكن إن يقع به احدهم .... لان مرض الزهايمير ليس بالمرض القاتل ... ومعظم مرضى الزهايمير ماتوا بأسباب ليس لها علاقة أبدا بهذا المرض ...مرض الزهايمير يصيب الذاكرة بمقتل ... لكنه لا يصيب أي من وظائف الجسم الحيوية ....
الزهايمير هو مرض نهاية الحياة ...ويصيب كبار السن , ولا يوجد له علاج لغاية ألان ..وكل الذي تفعله الأدوية الباهظة الثمن هو الحد من تدهور حالة المريض ...وهناك اتجاه لدى الأطباء بتشخيص المراحل الأولى المبكرة للمرض ...ربما تساعد في إزالة الآثار المدمرة لهذا المرض ...يبقى هذا المرض تحد كبير للإنسانية ...

أنها لحظة مؤلمة إن يلتقي القصيبي مع الزهايمير في أخر أيامه ... إلا إن هذا اللقاء أثمر هذه الرواية الجميلة ...والأجمل هو حكاية ربما تأتي من ارض الخيال لا الواقع ..عن هذا العالم الذي يعيشه مريض الزهايمير ..والذي لم يستطيع احد إن يدخله ..لان كل المصابين بهذا المرض ..لا يعودون بحيث يحكوا لنا ...حكاياتهم مع هذا المرض ...
أو كما قال دانتي ذات مرة ...... (( من يدخل هذا الجحيم فلا عودة منه ابدا )) .....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بروفايل| أوبنهايمر مخترع أول قنبلة نووية في العالم.. هل يشفع


.. أصوات من غزة| استمرار معاناة الحصول على الأدوية بالتزامن مع




.. يا رب ننجح .. فرحة طلاب الشهادة الإعدادية بالبحيرة بعد أداء


.. ما حجم انعدام الأمن الغذائي في المنطقة العربية؟




.. -قرطاج يجب تدميرها-.. مؤسس فيسبوك يثير غضب التونسيين بسبب عب