الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خليل حاوي وعروة بن الورد

لطيفة الشعلان

2004 / 9 / 7
الادب والفن


صار العالم العربي اليوم في حاجة ماسة إلى تمايز الثقافي عن السياسي وتشكل مؤسسات مستقلة للثقافة، لاسيما وقد اكتوت الثقافة العربية أزمانا طويلة بنيران السياسة ومدافعها وعانى الناس في أحايين كثيرة من انتهازية العمل السياسي وعدم استقلاليته وانفصاله عن طموحاتهم.
فالوقت قد جاء ليس فقط لتحرر المثقف من شلل ألايديولوجية والتحزب وإنما لبعث ثقافة وطنية حرة لا ترتهن لماكينة الإعلام الموجه وشروطه الرسمية، لتكون هي الملاذ لإنسان جرب من الهزائم الحقيقية والمعنوية، والماضية والحاضرة، كل طعومها. وهذا يتأكد على نحو خاص كلما تذكر المرء ان العمل السياسي العربي أخفق حتى الساعة في قبول الثقافة الحقيقية واستدماجها مقوما أصيلا لاغنى عنه أو لبنة من لبناته الأساسية.
وأنت إذا نظرت إلى جماعة السياسيين ستجد في الطرف المقابل ان جماعة المثقفين العرب على كبواتها وعلاتها التاريخية هي الأكثر نزاهة وقبولا عند المواطن العربي، فمن نافل القول ان الأمور في آخر المطاف نسبية.كما ان العمل الثقافي يملك من التأثير الموجب والقدرة على التغيير ما لا يملكه العمل السياسي المحكوم بالبراجماتية والأهداف الآنية والمصالح المباشرة. ولن يضير الثقافة ان تأثيرها غالبا من ذلك النوع الهادئ الذي يحتاج وقتا ومثابرة، لإن هذا التأثير بتفاعلاته ومفاعيله ربما كان الأقدر على التجذر والصمود مقابلة بالتأثير المتأتي من غير طريق الثقافة.
والثقافة بهذا المعنى لا تنحصر في الثقافة المكتوبة وحسب (الكتب، الدراسات، وسائل الاعلام المقروءة ...) خاصة إذا تذكرنا أن الأمية في بعض المجتمعات العربية تصل إلى حدود النصف أو أكثر، لكنها ثقافة تمتد إلى حقل الفنون البصرية من سينما ومسرح ودراما تلفزيونية، إذ يبدو ان هذه جميعا هي الأكثر تأثيرا في النفسية العربية وأن دورها في صياغة الوجدان يضاهي ماكان من دور للشعر في أثناء سيطرة الثقافة الشفاهية، والأهم من ذلك هو دورها في تغيير أنماط التفكير السائد شيئا فشيئا.
ويمكنني في هذا الصدد أن أضرب مثالا واحدا بالمسلسل التلفزيوني القطري الناجح (حكم البشر) الذي عرض في شهر رمضان المنصرم، إذ استطاعت كاتبته المبدعة جدا وداد الكواري أن تلفت انتباه مشاهدها إلى قضية اجتماعية بالغة الحساسية، في قالب درامي يناسب مختلف المستويات الثقافية، فزوجة المواطن القطري غير القطرية ( مرة مصرية ومرة أخرى فلبينية) تتعرض هي وأبنائها لظلم فادح وتمييز عنصري يبدأ باللمز اللفظي ليمر بأكل الحقوق المادية وينتهي بالاغتصاب الوحشي. فهنا يجمع البصري من دون خطابة ولا محاضرات بين قيمتي الترفيه والتثقيف ومحاولة التأثير في واقع إجتماعي في الوقت ذاته، مع قدرته على بلوغ شرائح مجتمعية يعجز عن الوصول لها سيل من المقالات والدراسات والكتب.
من جهة ثانية فقيمة مثقف ما لا تحسب فقط بسمو تنظيره المجرد، أو قدرة نتاجه أو فنه على البقاء والخلود، وإنما كذلك بقدرة هذا المثقف ذاته على الفعل في بيئته الإجتماعية، وربما كان هذا المقياس الأخير هو ما يهم الناس الذين عاصروا المثقف في زمان ومكان ما. فأبو العتاهية مثلا له اليوم قيمة أدبية وفنية خالدة لا جدال في ذلك، ولكن الفعل والتأثير الايجابي في المحيط الإجتماعي وحيوات المحيطين لم يكن من نصيبه، إنما من نصيب عروة بن الورد، الصعلوك نعم، لكنه ذلك الصعلوك الذي رعى الضعيف وآوى المشرد وقدم اللقمة للفقير مع مسغبته هو شخصيا. فإن تراجعت قيمة عروة الفنية مقابلة بغيره فقد أحدث قيمة كبرى لم يحدثها هذا الغير وإن تلمسها المعاصر له بأكثر مما أتلمسها أنا أو أنت اليوم. وهذا الشاعر مجرد مثال فقط يمكنك أن تنشئ على غراره أمثلة أخرى لقيم أخرى في بيئات مختلفة حتى لا يظهر من يحاججك بأن الصعلكة لا يصلح القياس عليها كونها ثقافة ارتبطت بطبيعة الحياة الجاهلية وقيمها الخاصة.
ذلك يجر إلى القول بأن الحديث عن الثقافة أو المثقف في مقامنا هذا لا علاقة له اطلاقا بما يمكن أن أسميه بـ (الثقافة المستقيلة) التي تتدرج من الاستقالة من شأن العامة احتقارا وتسفيها لها، إلى الإستقالة من الحياة ذاتها يأسا منها، ومن فعل ايجابي يحرك ركودها. فلم يتغير شيء حتى التافه والحقير ثمنا لإنتحار سين أو صاد من المثقفين ببندقية صيد أو بإنبوبة غاز أو بغيرهما (خذ على سبيل المثال لا الحصر: اللبناني خليل حاوي، العراقية حياة شرارة، الأردني تيسير سبول ... ). فلم يتجاوز حدث دراماتيكي كموت أحد هؤلاء اختيارا بكائيات الصحف على طريقة ياسر العظمة في إحدى مراياه وقد تخصص في كتابة المراثي استباقا بمجرد أن يصل علمه أن أحد المثقفين دخل غرفة العناية الفائقة حتى انه لم يغفل من الرثاء مخرجا تلفزيونيا يابانيا سماه سموراني ياكوهاتي. ومن الخير لنا حقيقة أن شيئا ذا قيمة لم يتغير في عالمنا بقتل المثقفين لأنفسهم وإلا لصار سلوك الانهزام و سلوك المجابهة، أو الفعل السلبي والايجابي، بمنزلة واحدة من حيث القدرة على التأثير في المحيط.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا