الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاجتماعي والسياسي

لطيفة الشعلان

2004 / 9 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


قد تكون الأنظمة العربية في أحيان كثيرة أكثر تقدمية من المجتمعات التي تحكمها. وهذا التعبير وقعه أخف من قول أحدنا ان المجتمع العربي أشد تخلفا من نظامه السياسي. وسواء قلنا هذا أو ذاك فالفكرة واحدة وتفضي بنا إلى ما هو أشد إيلاما وأمضى وجعا من افتراض أن المجتمعات كما تكون تكون أنظمتها السياسية، أو كما تكونون يولى عليكم. مع ذلك فقد شاعت قيمة معارضة السلطة السياسية ونقدها من قبل النخب العربية، وهي قيمة كانت ولا زالت محمودة متى ماخلصت ونزهت من الإرتزاق والمكاسب الشخصية، لكننا لم نر منذ تجاوزنا عصر النهضة أن نقد المجتمع قد شاع مثل شيوع نقد النظام السياسي أو على إيقاعه ووتيرته، رغم أن المجتمع العربي له من السلطة القمعية ما يوازي ما لدى النظام السياسي، وإن شذت كل من السلطتين عن الأخرى في ألياتها وأهدافها.
وإننا لنجد اليوم ان كثيرا من المكاسب الثقافية والإجتماعية في نطاق المرأة والتربية والتعليم كانت نتيجة مباشرة لنقد مجتمعي تصدره رموز عصر النهضة كمحمد عبده وقاسم أمين والافغاني، ومن المفارقات أن هذه المكاسب توقفت عندهم فلم يضف غيرهم إليها شيئا ذا قيمة. فقد إنحسر مد تيار نقد المجتمع جذريا لصالح التنظير في الصراعات والقضايا الكبرى والمشاغل المصيرية، مع أن النخب المثقفة لو إشتغلت بدرجة الحماس والمثابرة نفسها على النقد الإجتماعي لتحصلت منه على نتائج أفضل في رفع مستوى عيش الانسان العربي، وتطوير أنظمته القيمية، وخلق رأي عام يؤثر في القضايا وصياغة القرارات العليا. وهذا يعني بطبيعة الحال أن التطوير الإحتماعي ليكون فاعلا حري به أن ينطلق من القاعدة، أو أن تطالب هي به، قبل قمة الهرم. والناس حين تفهم قيمة مكتسب إجتماعي أو ثقافي ما وتنعم به، فهي تميل إلى التمسك به والدفاع عنه في وجه قوى تريد الإنتكاس بهم. بل إن الطريق لحصول الإنسان العربي على حقوقه السياسية لا يكون بالقفز إليها مباشرة وإنما بتأهيله أولا من الناحية الإجتماعية والقيمية، فأي حقوق سيعرفها الفرد لنفسه غير حق الطعام والشراب ودار الخلاء إن كان مكبلا بعادات متخلفة ومفاهيم إجتماعية بالية ما أنزل الله بها من سلطان.
يقف المجتمع العربي اليوم ببنيته وأعرافه السائدة ونظامه القيمي التقليدي عائقا حقيقيا من بين عوائق أخرى أمام تطور قضايا عدة لها علاقة بالتنمية والتحديث والأقليات والحريات الشخصية ووضع المرأة وغيرها.
فالثورة التي شهدها الانسان العربي على الصعيد التكنولوجي والمادي لم يصاحبها تطور أو نمو يعتد به على الصعيد القيمي. فما زلت ترى العربي الذي يستقل الطائرة كل شهر ويحدث كومبيوتره وجهازه النقال كل بضعة أشهر يعتنق قيما ثقافية وإجتماعية متخلفة لا تستند إلى أي منطلقات دينية ولكنها اكتسبت قوة وشرعية المقدس فلا يطالها التغيير مهما طال الزمان. خاصة والسلطة السياسية تؤدي دور الحارس لقيم المجتمع ومعاييره التي إرتضاها مهما كانت معوقة لشروط التغيير إما لكونها - أي السلطة السياسية- موقنة بعدم جدوى القرارات في اجتثاث ماله صله بالنظام القيمي، أو لإن الاتكاء على سلطة المجتمع، أو إتخاذها تبريرا وتسويغا، يكرس لها أوضاعا إجتماعية وثقافية تكون في صالحها.
ويتصاعد في العالم العربي دور السطة السياسية في تعضيد سلطة المجتمع وخياراته كلما توجست الأولى أن هناك ما يلوح في الأفق من تهديد أو إنفلات قد يحدث جراء تناول ما صار عرفا إجتماعيا سائدا بغض النظر عن إيغاله في التخلف أو دوره الفاعل كمصد في وجه التنمية. لكن مثل هذه الحالات العربية تتهددها في الوقت الحاضر الرياح العولمية العابرة للقوميات والقارات، التي تحمل معها نذر كسر أطواق العزلة وانحسار الثقافات الاقليمية. وحتى إن كان من المبكر تقويم أثر العولمة نوعا ومدى على النظم القيمية المحلية، فإن المتخوف عليه أن يثق في أن ما ينفع الناس فقط من قيم ومعايير ومواضعات إجتماعية هو ما سيبقى في الأرض.
المثقف العربي ملزم بنقد مجتمعه قيميا، بمعنى أن يعطي هذا الشأن بعضا مما يخصصه لنقد السياسي، فربما كانت المحصلة العملية على هذا الصعيد أكثر نجاحا منها على الصعيد السياسي. فقد لاك المثقف ومضغ على مدى عقود طوال كلاما واحدا متشابها عن الدكتاتورية والانتخاب والفساد وتداول السلطة وما شاكل ذلك من استغراقات سياسية، من دون أن نلمس في الغالب الأعم تغييرات أو نجاحات ترتبت على هذا (النضال) الطويل. بل على العكس فمن عباءة هذا المثقف خرجت الحركات والأحزاب الشمولية طورا، والأفكار الطوباوية طورا آخر، لتفعل جميعا فعلها في إحباط الناس، ومزيد من إفساد الحياة العربية، وإرهاقها بالحروب والنكسات. و(نهاية المثقف) ليست مجرد سباحة معولمة في ملكوت ما بعد الحداثة كما قد يتبادر الى الذهن لأول وهلة، ولكنها التبشير بنهاية ذلك المثقف التبشيري.
المثقف الجديد يخرج من الأفكار المجردة إلى الواقع الإجتماعي، ومن المبادئ النظرية الى الممارسة الحياتية، ومن التفكير الوصائي إلى الإنساني، فالثقافة تفقد معناها وقيمتها إن حبست نفسها في برج التنظير العاجي ولم تتفاعل مع مطالب الإنسان وعثراته وإحتياجاته. والناس في غنى عن مثقف ينشد المعرفة لذاتها مترفعا عن قضيتهم الإجتماعية وهموم معاشهم اليومي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيطاليا: تعاون استراتيجي إقليمي مع تونس وليبيا والجزائر في م


.. رئاسيات موريتانيا: لماذا رشّح حزب تواصل رئيسه؟




.. تونس: وقفة تضامن مع الصحفيين شذى الحاج مبارك ومحمد بوغلاب


.. تونس: علامَ يحتجَ المحامون؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. بعد لقاء محمد بن سلمان وبلينكن.. مسؤول أمريكي: نقترب من التو