الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مير بصري .. شاهد على يقظة الفكر العراقي

مازن لطيف علي

2010 / 10 / 2
سيرة ذاتية


تعرض تراث الذاكرة العراقية الثقافي، لغسل متواصل في تاريخ الأسماء الكبيرة. فقد عملت السلطة الاستبدادية، التي طرحت نفسها كممثل «قومجي» يملك حق التصرف في كل من وما لا يشاكلها، على إعلاء شأن من لا يستحق، والحط من شأن من يستحق. اسم كالجواهري، عاش ومات وهو يُعلي شأن اللغة العربية، ويمنحها دفق الإبداع، لتصبح، من ثمّ، على كل لسان، هذا الاسم جرّد من الانتماء الى العروبة. واسم كساطع الحصري الذي لا يتكلم العربية إلا بصعوبة، وتلكؤ، يصبح حامي حمى العروبة الطائفية. ثم يجيء الخطاب السلفي والإسلاموي وليس الإسلامي، لينبذ كل مسلم، لاينتمي إلى رؤيته، مؤسسًا آيديولوجيته انطلاقا من التصنيف المطلق الذي تمحور حول ما عُرف بالفرقة الناجية! فما بالك بما هو غير إسلامي، عموماً، وما هو يهودي خصوصاً؟ كل ما هو يهودي أصبح مرادفا للمحرّم، وقد ساعد على ذلك ظهور الحركة اليهودية السياسية التي عُرفت بالصهيونية، ليصير التمييز بين اليهودي الذي يعتنق دينا، والصهيوني الذي يوجه الدين إلى غايات دنيوية، أمرًا غير ممكن، بل يُصبح من يتداوله ضمن مرمى أبشع التهم التي تميت الإنسان قبل وصول أجله! على هذا النحو اتـُهمت اليهودية كدين، رغم أنها جزء من الأديان السماوية المعترف بها التي بعث الله لها رسلا.
والسؤال هنا: هل كان ليهودنا العراقيين، بصفتهم يهودًا، ناقة أو جمل في الحركة الصهيونية، وقيام دولة إسرائيل؟
لقد ترتب على هذا كله أنْ نبذت الشخصيات اليهودية العراقية، وأهمل تراثهم رغم كونه يشكل ثراءً للثقافة العراقية، ورافدًا ينبع من صُلب تلك الثقافة؛ وكان مير بصري أحد هؤلاء الأعلام الذين استكثر الخطاب القومي-الطائفي الذي شاع وعمَّ، وما زال، يمارس أجندته في الترهيب، استكثر أنْ ينخرط هؤلاء في سجل الأعلام العراقييّن، وأنْ تذكر لهم مساهماتهم المؤثرة في الحياة العراقية؛ الثقافية، والأدبية، والاقتصادية خصوصاً.

العقل الأرشيفي
واستذكارا لشخصية الأديب والمؤرخ مير بصري، أقامت مؤسسة المدى للثقافة والفنون جلسة؛ في مقرها في شارع المتنبي، في حضور حشد كبير من الباحثين والمثقفين والأدباء. أدار الجلسة الكاتب والإعلامي مازن لطيف الذي ذكر أن العراق خسر عددًا كبيرًا من المثقفين والكتاب والفنانين والسياسيين والأدباء ورجال الأعمال وذوي الكفايات المتنوعة التي كانت تـُسَيِّر، بخبرة ومهارة، زمام اقتصاد الدولة العراقية الوليدة، ومن ضمن هؤلاء النخبة، كان الأديب مير بصري؛ تلك الشخصية الغائبة- الحاضرة بيننا. ترك لنا مير بصري الكثير من القصص والمقالات، والأهم من ذلك أنه أرخ وأرشف حياة زهاء ألف شخصية عراقية؛ ما بين فنان وسياسي وأديب ومؤرخ ودبلوماسي ورجل دين وفقيه وصحفي؛ لم يترك شخصية عراقية إلاّ ودونها في كتبه الكثيرة التي ما زالت تحظى باهتمام من قبل العديد من القراء العراقيين. ويختم الكاتب مازن لطيف كلمته في هذا الاستذكار، باستعادة مقولة مير بصري: «أنا يهودي الدين، عراقي الوطن، عربي الثقافة».

التنقيب في الأبجديّات
أول المتحدثين كان الباحث التراثي سالم الآلوسي الذي ربطته علاقة صداقة بالراحل بصري، يقول الالوسي: صديق قديم وأديب كبير ومؤرخ فذ وشاعر كبير واقتصادي أكبر؛ ذلك هو مير بصري الذي جسد طاقة لا تشبهها أي طاقة من الطاقات في مختلف مجالات المعرفة. ترك آثاراً جمّة في مختلف المجالات العلمية والثقافية والفنية، والحديث عنه طويل وطويل ويطول، واختصارًا للموضوع سأركز على جوانب من علاقتي بهذا الرجل الكبير الذي سمعنا عنه الكثير ووجدناه أكبر من كل ما سمعنا، حين اطلعنا على إنجازاته الضخمة.
تعود معرفتي بالمرحوم مير بصري إلى أواسط الأربعينيات، يوم كان يتردد على العلاّمة مصطفى جواد عندما كان موظفاً في دائرة الآثار العامة بدرجة ملاحظ فني، كان يزوره على الدوام، وهناك رأينا وسمعنا بمير بصري، وكان صحفيًا وأديبًا، ثم توالت الأيام وأخذ يتردد على مكتبة المتحف العراقي، وهناك يلتقي في هذه المكتبة جمهرة من العلماء والمثقفين، يتداولون شتى الموضوعات في التاريخ والأدب. وتوثقت العلاقة بيني وبينه في أواخر الخمسينيات عن طريق لقائنا مع العلاّمة مصطفى جواد وجعفر الخليلي ويوسف يعقوب وفرات عباس وجرجس عواد.يضيف الآلوسي: مير بصري حضر يومًا الى دائرة الآثار في العام 1955 وطلب مني بحثاً، كنت قد نشرته سابقا، عن أقدم نص آرامي في العراق؛ يعود الى القرن الثاني قبل الميلاد. ولم يكتف مير بصري بذلك بل طلب صورة أخرى لأقدم أبجدية عثرت عليها دائرة الآثار في الحَضَر، وكان هذا الكشف العظيم خلال عمليات التنقيب، إذ وجدت البعثة، أقدم أبجدية منقوشة على أحد الجدران. وقد شرع مير بصري في مقارنتها بالحرف العبري والحرف الآرامي. وخلال عملنا في دائرة الآثار استضفناه في ندوة مع زميله القاص أنور شاؤول، وكانا يختاران الموضوعات الأدبية البعيدة عن التعصب الطائفي أو المذهبي، أو تلك التي تستهدف الوحدة الوطنية. وهذا الخط تعلمناه من مصطفى جواد ومن مير بصري وغيرهما. وحين اتهمت جماعة من اليهود، في العام 1970 بالخيانة العظمى، وجرى اعدام أفرادها في ساحة الباب الشرقي، وكنا، مير بصري، وأنا، واقفين قرب نافذة الوزارة المطلة على الساحة، وجرى الحديث عن هذه العملية التي ستثير غضب الأجهزة الإعلامية الغربية على العراق.

خطاب إلى الندوة
بعدها قرأ مدير الجلسة رسالة شكر وتقدير بعثها الدكتور سامي موريه جاء فيها: شكراً لاهتمامكم بأحد أبناء العراق الأوفياء المرحوم مير بصري تقديرًا لجهوده وخدماته الجليلة للثقافة والتاريخ في العراق المجيد. هكذا يجب أن يقاس الرجال بمواهبهم وخدماتهم لوطنهم ولشعبهم. أحييكم على نشاطكم الأدبي والثقافي، وأحيي المشاركين في تخليد ذكرى الأستاذ والاقتصادي والشاعر والمؤرخ لرجال العراق الأفذاذ؛ صديقي الراحل مير بصري، وأحيي جميع الحاضرين في هذه الندوة المباركة، ليتني كنت معكم، وليتني أعود إلى العراق يومًا فأحدثه بما فعل الفراق.

رحلة إلى العراق
وتحدث الدكتور طارق الحمداني، أستاذ التاريخ في جامعة بغداد، عن حياة وأدب مير بصري، قائلا: لست ممن عاصروا مير بصري لكني كنت مهتما بكل الشخصيات العراقية التي لها دور مهم في تاريخ البلاد، ولعل من الأشياء الأخيرة التي قمت بها، في ما يتعلق بمير بصري، هي أنني قمت بتحقيق ما كتبه عن الرحالة الهولندي آين هول في رحلته الى العراق، وهذه الرحلة تعد واحدة من الرحلات المهمة التي تتعلق بتاريخ العراق في العام 1967، وقد ترجم هذه الرحلة مير بصري لجريدة البلد التي كان صاحب امتيازها، آنذاك، عبد القادر البراك، وقد أرسل مير بصري رسالة الى سالم الالوسي تضمنت أمنيته بنشر الرحلة لفائدتها لتاريخ العراق، وبطبيعة الحال نفذ الآلوسي ذلك. لكن شاءت الظروف أن أقوم بجمع كل أعداد رحلة آين هول قبل سنوات، ولما علمت، وقتها، برغبة مير بصري، توليت إنجاز ذلك العمل. وتتجسد أهمية تلك الرحلة أن كاتبها آين هول لم يكن مجرد رحّالة؛ يكتب ما يراه وما يسمعه، بل كان يعمد إلى التعقيب على كل شيء، كما استند، في معظم كتاباته في تلك الرحلة، الى آثار ذات صلة بالأحداث وقريبة منها، مثل مدارس بغداد ومخازنها وأسواقها وحماماتها وغيرها...
وكان حبيب شيغا وهو مؤلف كتاب تاريخ العراق باللغة الفرنسية، واحدًا من الذين كلفهم مير بصري أن يجمعوا له معلومات عن بعض القضايا أيضاً.

رنين الأسماء
آخر المتحدثين كان الناقد والباحث شكيب كاظم الذي أوجز شهادته في مير بصري بهذه الكلمات: عاش المسلمون والمسيحيون واليهود في العراق، كما تعيش بقية الأمم ذوات الديانات المختلفة، ولا أدل على ذلك مِنْ أنَّ أول وزير لمالية العراق، في أول وزارة شكلت في العراق الحديث، كان يهوديًا، ومن يعود الى فهارس الدوريات والمجلات والجرائد، التي كانت تصدر في العراق منذ تأسيس الدولة العراقية في23/آب (أغسطس) 1921، يوم توج الملك فيصل ملكاً على العراق، وحتى نهاية النصف الأول من القرن العشرين، يجد أسماء للعديد من الكتاب والمبدعين من اليهود العراقيين أمثال مير بصري وأنور شاؤول الذي خصه الناقد المعروف الدكتور عبد الإله أحمد، رحمه الله، بفصل خاص من كتابه (نشأة القصة وتطورها في العراق 1908-1939) فضلا عن أسماء مثل: أدمون صبري، وشالوم درويش، وإلياس قطان، وإلياهو ترجي صيون، واليشاع شعشوع، وأنور زلخة، وإياسي ميمون، وشاؤول حداد، ومنشي زعرور، ونسيم عزرا، ونعيم طويق، وهارون يهودا وإياس ميمون.
عاش مير بصري أكثر عمره في العراق، والمجلات والدوريات زاخرة بكتاباته، وأصدر في العام 1955 مجموعة قصصية عنوانها «رجال وظلال» واحتوت على العديد من القصص القريبة من سنة صدورها، فضلا عن قصص منشورة في الثلاثينيات. كما نشر مقالات في مجلة «الأقلام» وجريدة «التآخي»، وأتذكر أن آخر كتاب صدر له في العراق شتاء العام 1971، وكان عن أعلام اليقظة الفكرية في العراق، وقرأت، حينها، عروضًا عدة عن الكتاب، لكن كما توقف أنور شاؤول ومن قبله هذا الرعيل الذي ذكرته، بسبب الهجرة من العراق، بعد إقامة الكيان الصهيوني في الخامس والعشرين من أيار (مايو) 1948، إثر تداعيات الحرب العالمية الثانية، كانت آخر مقالة نشرت له فيها، في كانون الاول (ديسمبر) عام 1966، كذلك ما عدنا نقرأ لمير بصري في الصحافة العراقية شيئا بعد الربع الأول من عقد السبعينيات، ويبدو أنه غادر العراق، وسمعت أنه لم يذهب الى اسرائيل بل الى بريطانيا ليموت فيها في العام 2006، ليكون ختامًا لقدرات يهودية عراقية؛ من الذين آثروا البقاء فيه ولم يستسيغوا مغادرته، رغم التخويف والتمييز، سواء على مستوى الأفراد أو السلطة، وما زلت أذكر الطبيب النفسي البارع جاك عبود شابي ومستشفاه قرب منتزه الأوبرا وعيادته في منطقة حافظ القاضي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - بورك فيك استاذ مازن على هذا التوثيق لاعلامنا
د صادق الكحلاوي ( 2010 / 10 / 2 - 14:06 )
هذا جهد تشكر عليه استاذ مازن في توثيق اعلامنا العراقيين المغيبين من اشقائنا اليهود العراقيين الذين عرفوا بالمستوى الثافي الراقي وبحب صادق لوطنهم العراق وهذه ليست المرة الاولى لك في هذا السعي المشكور فقد سبق ووثقت للطبيب العماري الطيب الذكر داود كبايه الذي كان محبا للفقراء بل واصبح محبوبا لكادحي العمارة في الاربعينات وبداية الخمسينات قبل ان تضطهده
اوساط القوميه العوبيه الفاشية وتجبره على الهجرة الى لندن كما استطاعت بعد ذالك من تهجير وهجرة الملايين من العراقيين من الديانات والمذاهب والعرقيات
المكونه ومنذ الاف السنين لفسيفساء بلاد الرافدين العراق الجميل الطيب
اجدد شكري وانا الرجل المسن حيث اتذكر اصدقاء والدي في الاربعينات من اليهود نسيم وحييم ويوسف ماير واخرين وعلاقات الاخوه الحميمه التي كانت تربط بوشائجها اهل العراق يهودا بالاخرين وشكرا

اخر الافلام

.. فرنسا: القيادي اليميني المتطرف إريك زمور يتعرض للرشق بالبيض


.. وفد أمني إسرائيلي يزور واشنطن قريبا لبحث العملية العسكرية ال




.. شبكة الجزيرة تندد بقرار إسرائيل إغلاق مكاتبها وتصفه بأنه - ف


.. وزير الدفاع الإسرائيلي: حركة حماس لا تنوي التوصل إلى اتفاق م




.. حماس تعلن مسؤوليتها عن هجوم قرب معبر -كرم أبو سالم- وتقول إن