الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحلقة الحادية عشرة من سيرة المحموم

عبد الفتاح المطلبي

2010 / 10 / 3
الادب والفن


لطالما قلت ان الحمى المصاحبة لي كظلي مراوغة وذات بال طويل ولدي الآن فرصة لاقرضها بمقراض افكاري الاعمى كما يقرض القماش ، لقد ذهبت كما قالت في مشوار، وفضولي يتحرك كحشرة يجعلني اتساءل اين ذهبت؟.. هل تلعب مع غيري اللعبة نفسها، استبعدت ذلك لانها لا تذهب عني بعيداً ولانها ليست كأي حمى تماماً مثل قلبي فهو ليس كأي قلب ، هو منفطر ومتشضي وتسمع له خشخشة اذا هرولت، لذلك ابعدتها عن تفكيري متعمداً نسيانها قليلاً.. ورحت اتجول في الحواري الضيقة التي تفضي بعضها الى بعض كشرايين وأوردة في رئة خروف مذبوح تواً والدماء تغادر هذه الشرايين من واحد الى آخر تصب بعضها ببعض بطريقة فوضوية مقرفة هكذا بدا حي الدهانة بدهاليزه الضيقة.. وحواريه المتعفنة ومجاري مياهه الثقيلة المكشوفة السوداء والنتنة الخارجة من تحت عتبة كل باب تبقبق بجدارة قواد اخرس يستطيع جمع أي رأسين بالحرام من مجرد استخدام مقاطع صوتية تشبه بقبقة تلك المجاري ولم تكن تلك المجاري العفنة لتهتم بمشاعر انسان معلول مثلي ومنفطر القلب يشعر بضيق في صدره.. اذا شم رائحة نتنة او رأى منظراً مقرفاً ، بل هي التي كانت كالقواد الابكم كانت متعجبة من موقفي وافكاري تلك لانها في غالب الظن قالت انا في مكاني وانت الذي لست في مكانك تقتحم علينا امكنتنا وتجتاح نتانتنا وتشتكي من ذلك، ما فرقك عن الحمى التي تشكو من مريضها.. تقتحمه، تهدر قواه ثم تشتكي من عدم تسهيل استسلامه لها.. واذا كنت تدعي بان رائحتي وهي تخرج تحت عتبة هذا الباب ذي الطراز اليهودي عفنة ومقززة فلم لا تسد انفك وتقفل فمك..، أكاد ارى عمى عيونك ايضاً الا تنظر الى هذه الغادة البيضاء كالثلج والتي ترتدي جلباً اعجمياًَ موشى بالابريسم الاصفهاني ، قالت ايضاً عجباً تنظر الي.. وتترك هذا الجمال .. يا لدناءة ذوقك وفساد رأيك.. لكنني استطيع التغاضي عن ذلك.. فقط انظر اليها.. أصابتي دهشة، بل لطمتني لطمة بيضاء رائقة ناصعة هذه المياه القذرة والآسنة والتي تبقبق بلغة لا تشبه بقبقتها الاولى، اصبحت فجأة لائقة.. ولا يحترم الشيء الا من منطقه.. فابديت احتراماً من نوع ما لهذه القذارة الحكيمة.. لانها كانت على حق تماماً فقد وضعت يدي على قلبي لكي لا تنسحق شظاياه انها مذهلة، داهمتني دهشة خرساء عندما رفعت بصري من مياه القذر الى تلك الغادة.. الملفوفة كالزبدة بذلك الثوب الاحمر المطرز بالابريسم الاصفهاني وحال انتباهها لذهولي اختفت سريعاً وتركتني بدمي كالديك المذبوح بيد ذباح لا يقيم وزناً لتقاليد ولا لعذاب روح الديك.. كان ابي يقول عندما يرسلني لذبح دجاجة قد نفضت كل بيضها في أفواهنا ولم يبق لديها بيض، كان يشحذ السكين على ارضية الغرفة الاسمنتية.. ويناولنيها ويوصيني ان أوصي ذباحنا أبا ليلى البغدادي ان لا يعذبها وان يسقيها ماء قبل الذبح ، نعم وان يقطع الوريد والشريان ويفرغ دمها تماماً قبل ان يفصل رأسها عن جسدها ويتأكد قبل ذلك انها فقدت وعيها.. ولم تعد تشعر بالألم.. والحق يقال كان ذباحنا يعرف كل ذلك ولا يحتاج لتوصية لكن ابي كان رحيماً.. رحمه الله.. كان يعرف اين يذبح دجاجته..
تعوذت بالله من كل ما ذكرت تواً من ذبح ودماء وقطع رؤوس لان ذلك يسوء سكان اوربا وامريكا الشمالية المنتصرين للكلاب المظلومة من خلال قضاة مرموقين ويسيء لدستور يحفظ حق الحيوان بالحياة كما هو ومسؤولية المواطن الاخلاقية عن كلبه وهرته وسجن النساء الشرقيات اللواتي يؤدبن اطفالهن علناً في الشارع وفصل الاولاد عن الامهات عصبيات المزاج خوفاً عليهم من نوبات الهستيريا.. ويوافق مضطراً وآسفاً على قتل شعوب مسكونة بالغنى الفاحش المخبوء تحت فقر مدقع وتخليصهم من حيرتهم في ماذا يفعلون بذلك.. رحمة بهم وانهاءً رحيماً لمعاناتكم وتفاهة حياتهم..
لقد ذهبت بعيدأ وانقطع الخيط.. لكنني استطيع الاهتداء اليه وسط هذا الهرج والمرج القائم بداخلي يملأني صخباً وضجيجاً ، كنت اقول تركتني تلك الغادة كالديك المذبوح وكان الذباح الذي هو كالزبدة غير مبال بتعاليم ابي الذي في السماء لكنني لمحت شبح تلك الغادة اثناء انزلاق جسدها المرن الى داخل البيت كسمكة فضية انفلتت من اليد الى الماء مرة اخرى. كان لي صديق قد زار اصفهان كثيراً.. يقول دائماً لا نساء الاّ نساء اصفهان ولا مدينة الا اصفهان ذلك قادني الى عمق التباين بين الدهانة والغادة البيضاء التي كانت يجب ان تكون هناك حسب رأي صديق ، لكنني لا استطيع اخفاء اعجابي بحكمة مجاري الدهانة المكشوفة التي تبقبق من تحت عتبات بيوتها الآيلة للسقوط وقد نبهتني لمواضع التباين والاولويات تعلمون ان ذلك ليس بالشيء الهين داخ دماغي لا ادري امن الرائحة النتنة ام من الجمال المذهل في اطار النتانة..
أشعر انني لازلت أواصل لعبة الجهل في موضوع التباين والاولويات وعلي ان اواصل طريقي نحو الشورجة فلا امل ان تظهر تلك الغادة مرة اخرى.. وانزلقت قدماي فوق اتربة الزقاق المشوبة بالحصى من كل لون وحجم.. كنت ماشياً ورأسي يدور مقلبا افكاري كما يقلب مفلس صفحات جريدة على كشك بائع الجرائد دون ان يدفع ، ينظر اليه بائع الجرائد شزراً، يقرأ الوغد جرائدي مجاناً، وكجدار اسمنتي هائل وقفت امامي الحمى تسد علي الطريق فأوقفت هذا المفلس السافل في رأسي عن مواصلة تقليب الجريدة على كشك بائع الجرائد.. تملكتني رغبة ملحة بالهرب الى الخلف، لكنها سدت الطريق بجدار آخر صرت في داخل علبتها الاسمنتية ولا ادري لم فكرت في تلك اللحظة بان التاريخ الذي شغلنا انفسنا به ولازلنا هو مجرد حقائق زيفت وسرقت طوال الوقت ووضعت مكانها اشباه غير اصلية.. تباينت في اختلافها مع الاصل مثلما يضعون الآن التاريخ الذي سرقه قبل ذلك الانكليز ووضعوا في متاحفنا اشباهاً طبق الاصل وسرقت الآن، ويزاول البعض وضع بدائل محلية لها.. لا تشبهها كثيراً وربما ستسرق ايضا.. فكرت هل ان نيرون قد احرق روما حقاً ام ان الحمى فعلت ذلك ثم الصقت به التهمة ـ لصالح أحدهم .. وهل ان هولاكو قتل الناس واحرق الكتب ام ان ذلك حصل بإيدي خفية كانت تتحين الفرصة لاحراق الفكر كما احرقوا شارع المتنبي و وُصِمَ الامازيغ بالبربرية .. لانهم دافعوا ببسالة عن موطنهم ضد اليونانيين .. وهل كان هاملت واثقاً بان التمثيلية هي خير وسيلة، لاكتشاف الحقيقة.. وبينما كانت تلك الاسئلة ترتطم كالكرات في الجدران الاسمنتية كانت الحمى تلف خيوطاً من العجز على كياني فشعرت انني اتهاوى.. وتتهاوى معي بيوت الدهانة القديمة.. ويختلط بياض بشرة الغادة ذات الثوب الاصفهاني مع سواد ونتانة مجاريها في رأسي الذي لم يعد لي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قصيدة الشاعر عمر غصاب راشد بعنوان - يا قومي غزة لن تركع - بص


.. هل الأدب الشعبي اليمني مهدد بسبب الحرب؟




.. الشباب الإيراني يطالب بمعالجة القضايا الاقتصادية والثقافية و


.. كاظم الساهر يفتتح حفله الغنائي بالقاهرة الجديدة بأغنية عيد ا




.. حفل خطوبة هايا كتكت بنت الفنانة أمل رزق علي أدم العربي في ف