الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كميل داغر في رحلة الحلم بالثورة الدائمة

مسعود ضاهر

2010 / 10 / 4
بوابة التمدن



حين أنهيت قراءة السيرة الثقافية لكميل داغر "ينبغي أن نحلم" [*]، عادت إلى ذاكرتي عبارة جميلة أطلقها الأديب الكبير مارون عبود في وصف فرح انطون:" اشتراكي محموم، حرارته دائما فوق الأربعين".





كان فرح أنطون على بيّنة من العقبات الموضوعية التي تعيق ولادة الحلم الاشتراكي وفي طليعتها القصور النظري، والارتباك الملحوظ في ممارسة القوى الطليعية الداعية إلى بناء النظام الاشتراكي. مع ذلك، آثر حمل رسالة الاشتراكية والعلمانية بشجاعة فائقة، ودافع عنها بصلابة في وجه المشككين بها، والمعادين لها بشراسة من مواقع دينية، وطبقية، وقبلية، وغيرها. والاشتراكية، كما عرفها العالم العربي، بقيت مجرد حلم جميل تفتقر إلى من يجسدها كحقيقة راسخة على أرض العرب.

تضمنت سيرة كميل داغر الثقافية في هذا الكتاب الكثير من المقالات التي كتبت في أزمنة متباعدة، ونشرت في صحف ومجلات لبنانية وعربية. ومسيرة حلمه لا تقف عند حقبة زمنية محددة، أو عند حدث تاريخي معين، أو برثاء أخ أو صديق أو مناضل.

فحفلت مقالاته بمواقف نظرية جريئة تسلط الضوء على أحداث لبنان المؤلمة، وتناقضات الوضع اللبناني المعقدة ومواقف القوى اليمينية واليسارية منها.

لقد سلط الضوء على شخصيات ورموز سياسية وثقافية لبنانية وعربية وعالمية قدمت نموذجا إنسانيا رائعا تعطي للإنسان المناضل منزلة خاصة لدى الأجيال المتعاقبة.

وتبني حلم المتمردين على الوضع القائم على المستوى الكوني، إلى جانب الرافضين لكل أشكال الظلم والقهر واستغلال الإنسان للإنسان. وتثقف بروح الثورة الدائمة التي نشرت قيم الحرية، والعدالة، والمساواة، والتضامن الأخوي بين بني البشر.ودعا إلى بناء التاريخ الإنساني انطلاقا من تعزيز العلوم العصرية، والتكنولوجيا المتطورة، ونظام من القيم الأخلاقية التي تصنع "مملكة الإنسان" المناضل بالفكر والممارسة.

لقد صمد كميل داغر في مواقفه بعد أن تراجعت الأحزاب التي كانت تطلق على نفسها صفة الطليعية. وتنكر بعض " قدامى المناضلين" لتلك الحقبة، ومنهم من بقي على المسرح السياسي يروج لمقولة " نهاية التاريخ " التي تعني بالمفهوم الأميركي "نهاية الاشتراكية وانتصار الرأسمالية". في حين أن نهاية التاريخ الطبقي تعني بداية التاريخ الإنساني الذي تنتفي فيه كل أشكال القهر والظلم والاستغلال والاستعباد.

فتمسك بالحلم، ودعا الأجيال الشابة إلى الاستمرار في النضال لبناء عالم أفضل وعولمة أكثر إنسانية. واتسمت مقالاته الأخيرة بمسحة أكثر واقعية طالما لامه أخوه منذر على ابتعاده عنها. ولعل اختياره لصورة الغلاف كان بمثابة تكريم لروح منذر الذي نبهه مرارا إلى أن نضاله كان أشبه بنضال دون كيشوت ضد طواحين الهواء." هذا أنت دون كيشوت"، قال أخوه منذر. لكن كميل لم يشعر بالاستفزاز، بل أحس بالكثير من العشق حيال الفارس الكهل المتأبط رمحه، الممتطي فرسه الناحلة، والمتأهب دائما للقتال، دفعا للظلم، ولأجل صورة في خياله للشهامة ، ولكن أيضا للجمال والعدالة والمحبة، وإن يكن عبر مصارعي الطواحين".

يساري، ثوري، أممي، حالم بالثورة الدائمة. خاطب الأمين العام لحزب الله بعبارات تضج بالمصطلحات الطبقية. "في تطلعنا لإنتاج برنامج ثوري متقدم للتغيير الاجتماعي والوطني والقومي وممارسة ما يطرحه من مهام على طريق إنجاز مهام الثورة العربية، نتطلع إلى أن تعيدوا النظر بعمق في كامل تجربتكم، على المستوى الطبقي الاجتماعي. بحيث تدركون حقا أنه لا يمكن المضي إلى الأخير في إنجاز مهام التحرر الوطني من دون أن تشاركوا أيضا في خوض معركة الجماهير الكادحة الواسعة ، من شتى الملل والطوائف حتى نهايتها المنطقية" .

ما زال يأمل في أن تفتح قيادة الحزب الشيوعي اللبناني أبواب الحزب في مؤتمره السادس أمام "حرية الاتجاه والتكتل، وممارسة الديموقراطية الحزبية الحقيقية لكي تنتصر إرادة الحياة ". وطالب الحزب الذي ينوء تحت تناقضاته الداخلية بحمل راية الدعوة الملحة إلى الوحدة العربية، وإعادة مهمة التوحيد القومي العربي إلى جدول أعمال القوى اليسارية على امتداد الوطن العربي، وبلورة مشروع جديد يحظى بإجماع اللبنانيين ويكون جوهره " لبنان الوطن العربي الديموقراطي العلماني ".

يساري متطرف يصف حقيقة ما يحدث في الصين من بناء تجربة السوق الاشتراكية بأنه" سيرورة عودة واعية إلى الرأسمالية تحت توجيه صارم من حزب يحتفظ بالتسمية الشيوعية ". فنقاوة الحلم الاشتراكي بقيت فاعلة في كتابات كميل داغر. فتارة يستعيد صورة مناضلين قضوا على الطريق الطويلة من أمثال لينين، وتروتسكي، وغيفارا، وارنست ماندل، ومهدي عامل وغيرهم، وطورا يهلل لنضال جماعة لاهوت التحرير في أميركا الجنوبية، والانتصارات التي حققها قادة تلك القارة في العقدين الأخيرين. وحين يتذكر عبارة أخيه منذر :"يبدو أن الحلم الذي كافح لأجله غيفارا يتحقق الآن في القارة الأميركية الجنوبية"، تنتعش أحلامه مجددا، ويزداد ثقة بانتصار الأممية الاشتراكية على أسس جديدة.

لكن ماذا عن لبنان والعالم العربي؟ وما هو مصدر الخلل الذي جعل هذه المنطقة في تراجع مستمر طوال قرون؟ ولماذا تراجعت الأحزاب والمنظمات الشيوعية، والقومية، والاشتراكية، واليسارية، والعلمانية، والليبرالية؟ ولماذا هذا الانبطاح الذليل لدرجة الانسحاق الذي تمارسه بعض " النخب الثقافية العربية"، أمام رأسمالية عربية ملحقة بأميركا وإسرائيل؟ ومن يمول عشرات المؤتمرات والندوات العربية عن المسار والمصير والتي تنتهي دوما بجعجعة دون طحين؟ ومن المسؤول عن إغلاق أو تعطيل المؤسسات الحزبية، والنقابية، والثقافية، والإعلامية، والمجلات الاشتراكية التي لعبت دورا تنويريا رائداً لعقود طويلة؟

هل العلة فقط في الأنظمة العربية أم في "أزمة البديل الثوري"، الذي أخلى ساحة النضال للقوى الطائفية، والقبلية، والطبقية بعد أن عجز عن بناء الحد الأدنى من المؤسسات الطليعية التي يحتاج إليها لبنان والعالم العربي؟ ولماذا انصرفت غالبية قيادات الأحزاب الطليعية السابقة إلى كتابة مذكراتها التي لا تقدم للأجيال المتعاقبة صورة إيجابية صادقة عن صلابة المناضلين الأمميين الحقيقيين؟

"ينبغي أن نحلم"، تلك هي نصيحة لينين في خاتمة كتابه " ما العمل ؟"، وقد استعادها كميل داغر في كتاب يحمل روحية "ما العمل؟"." فنحن اليوم، في المأزق العميق الذي تجد أمتنا نفسها فيه. نحن أيضا، يجب أن نحلم، ولكن مع قرن الحلم بالعمل.

بذلك، يصبح الحلم حقيقة. فالعالم يتغير أمام أعيننا. والإرهاب الأميركي هو الأصل الذي قامت عليه إيديولوجيا عصر العولمة. والمطلوب " بناء أممية المنتجين الفعليين للرد على عولمة رأس المال". وهي دعوة صادقة لتجديد الفكر السياسي العربي من أجل التغيير. فالعولمة البديلة أو المضادة لا بد أن تكون ثورية من نوع جديد. وعلى المنظمات الداعية إليها أن تناضل من أجل إعادة تجميع كل القوى المتضررة من العولمة الهمجية لسيطرة رأس المال. وهي دعوة لعولمة ثورية قادرة على بلورة برنامج جذري للتغيير، تطلقه وتناضل من أجل تنفيذه، "وتمنح التاريخ الوقت الكافي لإنجاز عمله "، وفق مقولة ارنست ماندل.

أخيرا، بدا نهج الواقعية أكثر حضورا في مقولات كميل داغر وممارساته اليومية خلال السنوات الماضية. لكن حماسه الثوري لم يتبدل. فهو يختزن حسا هائلا من الثورة والنقمة ضد كل أشكال القمع والاضطهاد والاستغلال في أي مكان بالعالم .

مناضل صلب ضد العنصرية، والتمييز الجنسي، وكل أشكال التمييز الأخرى التي تخل بمبدأ المساواة بين البشر. فقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا، ولديهم الخيار الحر في ممارسة النضال بكافة أشكاله، المسلّح منها أو الديموقراطي، لكي يبقوا أحرارا. وقد آثر كميل داغر أن يختم كتابه المسكون بالسياسية والثورة ، بمقطع من قصيدة مشهورة لماياكوفسكي:" ليس علينا أن نبني فقط ، متخيلين الجديد، بل أن ننسف ما بات قديما".

ختاما، مع الدعوة إلى هدم القديم وبناء عالم يضاهي ما أبدعه الخالق في الكون، يبقى دون كيشوت الزمن الراهن على صهوة جواده، رافعا رمحه في مواجهة عولمة همجية تطحن عظام الناس يوميا بكل أشكال القهر الطبقي المولد للثورة الدائمة.

فقد قرر الالتحاق الطوعي بالمناضلين الأحرار الذين يخرجون على الحكام شاهرين سلاحهم وأقلامهم. وأروع ما فيهم أنهم حالمون على الدوام بانتصار قيم العدالة والحرية والمساواة، لبناء عولمة أكثر إنسانية تحت راية الثورة الدائمة.

[* ]"ينبغي أن نحلم ، نصوص في سياسة هذا العالم" - كميل داغر دار التنوير، بيروت ، 2010، في 411 صفحة

صدر هذا المقال بجريدة المستقبل - الأحد 14 آذار 2010 - العدد 3594 - نوافذ - صفحة 15








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. معرض -إكسبو إيران-.. شاهد ما تصنعه طهران للتغلب على العقوبات


.. مشاهد للحظة شراء سائح تركي سكينا قبل تنفيذه عملية طعن بالقدس




.. مشاهد لقصف إسرائيلي استهدف أطراف بلدات العديسة ومركبا والطيب


.. مسيرة من بلدة دير الغصون إلى مخيم نور شمس بطولكرم تأييدا للم




.. بعد فضيحة -رحلة الأشباح-.. تغريم شركة أسترالية بـ 66 مليون د