الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذكرى الهرب من البلاد

كمال سبتي

2004 / 9 / 8
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


ثلاثاءُ الكتابة
في مثل هذا اليوم من عام 1989 كنت قد هربت من البلاد، بحقيبة سمائيةٍ صغيرة دسستُ فيها بعض الملابس ومجموعاتي الشعرية الأربع.
شاعر أعزل يهرب من قبضة دكتاتور،ليلجأ إلى "لا أحد".
معادلة صعبة.
وقد تكمن في تلك المعادلة كلّ مأساة لمنفى، وكلّ تاريخٍ لألم.
لكن الهرب تحقق..
فكنت أهرب في البلاد الواسعة وحدي إلاّ من حداثتنا العراقية.
تلك الحداثة التي وُلِدتْ يتيمة ووحيدة ، في الأقسام الداخلية وفنادق الميدان ببغداد، وفي المكتبات ،وفي الجامعات والمعاهد ،وفي مقهى البرلمان وحسن عجمي وفي اتحاد الأدباء وبارات أبي نؤاس. حار بها النظام وشتمها عبر كتابه ووصولييه مراتٍ عديدة ، وحار بها الإرهابيون من موظفيه في الثقافة ، فألَّبوا علينا ،نحن فقراءَها، سلطة الدكتاتور وعلموها أن تتهمنا بكذب تبريرنا القائل بأنَّ التجربة لم تنضجْ بعدُ للكتابة عن الحرب وعلموها أن تقول لنا : بأن شعراء "الحداثة!" في الإتحاد السوفيتي قد كتبوا عن الحرب فلماذا لاتكتبون أنتم ؟
حداثة في الحرب ، بين أربعة جدران ، تلك كانت حداثتنا العراقية.
لا الصحافة صحافتنا ولا غيرها من وسائل الإعلام.
ولا كتابنا يعبر الحدود.
جنود في الخدمة الإلزامية نؤدي التحية للضباط ، ونكتب شعراً حديثاً من أجل تغيير العالم !
مواطنون مرعوبون من كتبة التقارير ، أكان الكتبة عراقيين أم عرباً زواراً ومقيمين.
أيُّ عربيٍّ قادمٍ كان يستطيع أن يخيفنا في دولة القائد.
فهِمَ عربٌ مقيمون وعربٌ مربديون قومية الدولة هذه ، فأخافونا أكثر من مرة ، بتهديد الوشاية بنا إلى السادة الحكام.
لكنَّ الهرب تحقق..
فكنت أهرب في البلاد الواسعة ، وحدي إلاّ من حداثتنا العراقية التي ستغيّر العالم !
وهمٌ بالحرية من الدكتاتور ووهم بحمل الوهم الشعريّ : الحداثة.
وفي الهرب كبرت معي الحداثة الشابة فأنمتها في محطات القطارات وأخفيتها عن جواسيس الدكتاتور في أوروبا، وأدخلتها مكاتب الأمم المتحدة ومخيماتها المخصصة للاجئين فقيرة إلاّ من روحها الأولى وعبرت بها بلاداً إثر أخرى فسهرتْ وجاعت وعشقت ، وأدخلتها الجامعة تدرس باللغة غير العربية وتناقش مثقفي العالم في المقاهي وفي المؤتمرات ، حتى حكمتُ عليها بالعزلة ، حتى كأنني أُمِرتُ بهذا العقاب الميتافيزيقيّ من قبل الآلهة.
قلتُ لتتعلمي الحكمة أكثر. ولا تسألي كما كنت تسألين في "حروف المصحح".
وفي عزلتها كان يجرحها أخوة إرهابيون مرضى امتهنوا المنفى بقرارٍ حزبيٍّ فظنوا المنفى بيتاً للرفيق الحزبيّ الهارب ،لا مكان فيه لغيره . إرهابيّون مرضى يُنزّلون الآخر درجة في الشرف دون درجتهم برؤىً شيطانية ليس أقلها مساواة الموقف الرافض للحرب العراقية الإيرانية وهي في أوجها مع التجار من أدباء الحرب "قادسية صدام" .إرهابيونَ مرضى يهدفون من إرهابهم هذا إلى نيل درجة في الشرف عزت عليهم في الكتابة والحياة.
قلت لتتعلمي الحكمة أكثر. ولا تسألي كما كنت تسألين في "حروف المصحح":
(قالَ لَها : اغْمِضي عَيْنَيْكِ ، نَحْنُ أَبْعَدُ مِنّا ، ماذا تَرَيْنَ؟ قالَتْ : ما تَتَمَنّاهُ، قالَ : لَنْ أَصْفَحَ عَنْكِ، قالَتْ:اذَنْ لَنْ أَرى ما تُريدُ لي أَنْ أَراهُ . اغْمِضي عَيْنَيْكِ ، وَانْظِري إِلَيَّ ، لَنْ أَحْجُبَ عَنْكِ صورَةَ ضِحْكَةِ العَجوزِ ، فَماذا تَرَيْنَ ؟ قالَتْ :ما لاتَتَمَنّاهُ،أَبْواباً شاسِعَةً ، فَماذا تَعْني أَيّها الحَكيمُ ؟ قالَ : وماذا رَاَيْتِ غَيْرَ الأَبْوابِ قالَتْ : عَرايا يَجْمَعونَ حَطَباً ، يَََْْضْحَكونَ في بُكائِهِمْ ، وَيَنْحَنونَ لِجِذْعِ شَجَرَةٍ لا لَوْنَ لَها ، ثُمَّ يَدورونَ دَوْرَتَيْنِ حَوْلَ هَيْكَلٍ خَشَبِيٍّ ، فَماذا يَعْني هذا أيُّها الحَكيمُ ؟)
في مثل هذا اليوم هربت بحداثتنا العراقية ودخلت بها بيت الشاعر سعدي يوسف في بلغراد،لتتحقق النبوءة كما يقول الكتاب المقدس ، قلت له لقد هربت وليحكموا عليّ بالإعدام. فيكتب الصديق الشاعر وسام هاشم في ما بعد بأنَّ قرار حكم الإعدام قد عُلِّقَ على جدران عدد من المؤسسات العسكرية.
أعطيت سعدي مجموعاتي الشعرية الأربع مزهواً بخلوها من سطر واحد ، حتى، عن الحرب أو عن رجالاتها القتلة. ولربما لم أعش زهواً مثله في حياتي كلها.
قلت يا للحداثة العراقية !
في العزلة كتبت مزهواً :
(إِشتغلَ العراقيونَ في الشعر شغلاً جباراً ، أواخر العقد السبعيني، وطوال عقد الثمانينات سُمّيَ حينها بالكتابة الجديدة ، أو الحداثة الشعرية العراقية.للتفريق بينه وبين التجربة الأودينيسية اللغوية الباردة في الشعر.شغل جبار لا أعدله ، أو لا أقرنه، أو لا أشبّهه، من حيث الأهمية الفنية والتاريخية ، إلا بحركة الرواية في أميريكا اللاتينية في العقود الماضية الأخيرة.
كان شغلهم في الشعر حركة جديدة تعيد الريادة إِليهم بعد موت بدر شاكر السياب ،وكأنَّ لسان حالهم كان يقول : إنه شعرنا ونحن أعرَفُ به من غيرنا ..)
في مثل هذا اليوم كنت أهرب في البلاد الواسعة، وحدي إلاّ من حداثتنا العراقية.
كان في عينيّ نظرٌ إلى مجهول آثرته على يقين بلاد بدكتاتور.
والمصائر تغيَّرت ، والبلاد بعد كل تلك السنين أضحت بلا دكتاتور، فزرتها قبل خمسة شهور، وهربت منها ثانية في صباح نيسانيٍّ تضوع منه رائحة البارود المتفجّر من أسلحة الحلفاء وأنصار المهديّ.
أما زال في عينيّ نظر إلى مجهول ؟
أأؤثِرُه على يقين بلادٍ بلا دكتاتور ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عقوبات بالسجن في الجزائر لمن يتدخل في صلاحيات وعمل السلطتين


.. ماذا تناول الإعلام الإسرائيلي بخصوص الحرب على غزة؟




.. مراسل الجزيرة: أكثر من 50 شهيدا خلال الـ24 ساعة الماضية في ا


.. اشتباكات عنيفة تدور بين المقاومة وقوات الاحتلال الإسرائيلي ف




.. اشتباكات مسلحة بين مقاومين فلسطينيين وقوات الاحتلال في مخيم