الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مصر... فوق المسجد والكنيسة

سعد هجرس

2010 / 10 / 9
مواضيع وابحاث سياسية


وقفت مصر على أطراف أصابعها، وكتمت أنفاسها ، بدلاً من المرة مرات خلال الشهر المنصرم، تحسباً لاندلاع حريق طائفى هائل من جراء ملاسنات منفلتة، وتفتقر إلى الحد الأدنى من الإحساس بالمسئولية الوطنية، تورطت فيها رموز كبيرة ومؤثرة تنتمى إلى "الفسطاطين".. الاسلامى والمسيحى.
هذا القلق الشديد الذى ساور الأغلبية الساحقة من المصريين ـ مسلمين وأقباط ـ كان ـ ومازال ـ له ما يبرره بكل تأكيد، لأن التراشق بالتصريحات النارية وتبادل الاتهامات الغليظة الطائشة استهدف أكثر المناطق حساسية، ألا وهى منطقة "العقيدة" الدينية، التى علمتنا التجارب التاريخية أن اندلاع أتفه شرارة على أرضها الملغومة سرعان ما يتحول إلى حريق مروع يأتى على الأخضر واليابس، خاصة فى أوقات الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وفقدان اليقين وغياب مشروع وطنى تلتف حوله الأمة.
ولاشك أن هذا القلق واسع النطاق، الذى تجلى فى مظاهر متعددة، يعد فى حد ذاته مؤشراً إيجابياً، من حيث أنه يعكس درجة من الوعى بخطورة الاحتقانات الطائفية، والخشية من استفحالها وخروجها عن السيطرة، فى ظل تنامى نفوذ القوى والجماعات المتطرفة – على الجانبين – فى الداخل، وكذلك فى ظل تربص قوى خارجية وتلمظها للصيد فى الماء العكر وتحين الفرصة لزعزعة الاستقرار والسلم الأهلى فى مصر من أجل خدمة أهداف ومصالح واستراتيجيات لم تعد خافية على أحد.
ولاشك أيضاً فى أن التحرك السريع لعدد من الجهات، من أجل إخماد الفتنة فى مهدها وقطع الطريق أمام محاولات البعض – فى الداخل والخارج – النفخ فى نيرانها، يمثل مؤشراً إيجابيا ثانياً لا ينبغى التهوين من شأنه.
رغم ذلك فإن هذين المؤشرين الايحابيين – ومع التسليم بأن وجودهما ليس كعدمه – يتضاءل تأثيرهما أمام جبال من السلبيات الخطيرة.
أول هذه السلبيات هو رد الفعل المدوى للتصريحات إياها التى صنعت الأزمة الأخيرة. فلو أن نفس هذه التصريحات صدرت فى مناخ أقل تلوثاً بسموم الطائفية لما أحدثت كل هذه الضجة أو ربما مرت مرور الكرام دون أن يعبأ بها أحد ودون أن يلتفت إليها الناس الذين يفترض أن ينشغلوا بأمور حقيقية وأكثر اهمية. بينما واقع الحال فى مصر الآن يعلى من شأن الطائفية وغيرها من الانتماءات الأولية والتقليدية ويعطيها الأولوية على الرابطة الوطنية وكل ما يتصل بها من لزوميات الحداثة.
هذا المناخ الطائفى المسموم يعنى – ضمنياً – تراجع مشروع الدولة المدنية الحديثة الذى دفع أجدادنا وآباؤنا ثمنا باهظاً لإرساء دعائمه منذ أوائل القرن التاسع عشر.
***
وإذا كان "رد الفعل" الذى رأيناه يحمل هذا المعنى السلبى، فأن الأكثر سلبية منه هو "الفعل" الذى سبقه، والذى ما كان ليحدث أصلاً – ناهيك عن أن يمر مرور الكرام – إذا كانت هناك محاسبة جدية، وإذا كان هناك إعمال للقانون يحفظ للأمة سلامتها ويحفظ للدولة هيبتها ويضمن للمؤسسات الدستورية صلاحياتها التى فرطت الدولة فيها فاختطفها المسجد والكنيسة وقاما بـ "خصخصتها".
وهذا معناه أن "الفعل" و"رد الفعل" لم "يفاجئاننا"، بل هما نتاج طبيعى لمناخ الانحطاط الذى ترافق مع التقاعس عن دفع فاتورة بناء الدولة المدنية الحديثة أو حتى الحفاظ على الخطوات التى قطعها آباؤنا وأجدادنا على طريق بنائها.
وعملية "التحلل"، أو "التفسخ"، هذه مستمرة وتحدث أمام أعيننا يوما بعد آخر وعاماً بعد آخر بوتائر متسارعة. والنتيجة المنطقية هى أن قوى التخلف والظلام تكسب أرضاً جديدة كل يوم، بما يتضمنه ذلك من تعريض الهوية الوطنية المصرية لخطر الطمس و التشويه، وتعريض الأمة لخطر التفتت والتمزق، على النحو الذى نرى "بروفة" مأساوية له على حدودنا الجنوبية فى السودان الشقيق الذى أصبح أشلاء ممزقة بفضل "عسكريتاريا" يرتدى قادتها بدلة الجنرالات ويضعون على رءوسهم عمامة الإسلام ويملأون الدنيا ضجيجا مفعماً بالغرور والتعالى رغم أن أعظم إنجازاتهم تقسيم الوطن وتفتيت وحدته!
وقد حذر الكثيرون من انتقال هذا السيناريو الأسود من جنوب الوادى إلى شماله بعد أن نشط فيروس التفكك واجتاح البلاد، لكن كل هذه التحذيرات ذهبت أدراج الرياح، وقوبلت بالتهوين والتسخيف.. حتى وقع الفأس فى الرأس.
***
وها نحن نقف فى مفترق الطرق، "سكة السلامة" معلومة وموصوفة، "وسكة الندامة" واضحة وضوح الشمس.
وسكة السلامة هى الدولة المدنية الحديثة بكل استحقاقاتها ومؤسساتها وآلياتها، وفى مقدمتها اعادة الاعتبار إلى القانون والحريات العامة والخاصة والعقلانية والعلم والتسامح والتعددية واحترام التنوع.
وهذا معناه ان اجتثاث جذور الأعشاب السامة للفتنة الطائفية يصبح حلماً بعيد المنال، أو بالأحرى سراباً خادعاً، دون إصلاح نظام التعليم الفاسد والفاشل والقضاء على الآمية الأبجدية وإصلاح نظام الاعلام وإصلاح الخطاب الدينى فى ظل التمكين لمبدأ المواطنة باعتباره المبدأ الأكبر فى دولة القانون التى تعطى ما لقيصر لقيصر وما لله لله وتحظر بحسم تسييس الدين وتديين السياسة وتمنع التمييز بين المصريين بسبب الدين أو الجنس أو اللون أو المكانة الاجتماعية.
وهذه كلها أمور لن تتحقق من تلقاء نفسها، ولن تهبط من السماء، أو تأتى "منحة" من حاكم طيب القلب. بل هى بالأحرى مهمة "نضالية" بكل ما فى الكلمة من معنى، تقع مسئوليتها على المجتمع بأسره، وبخاصة على الجزء الناطق من الأمة.
وبديهى أن هذه المهمة النضالية هى جزء من "عملية تاريخية"، لا تبدأ من الصفر، لأن آباءنا وأجدادنا قدموا تضحيات عظيمة وحفروا فى الصخر منذ مطلع القرن التاسع عشر من أجل وضع حجر الاساس للدولة المدنية الحديثة. والمطلوب من الاجيال الحديثة أن يبدأوا من حيث أنتهى اسلافهم العظام لا أن يبدأوا من الصفر وكأن شيئا لم يكن.
****
والأهم... هو أن من ساهم بطريق مباشر أو غير مباشر فى الانقضاض على مشروع الدولة المدنية الحديثة ومحاولة تقويض ما تم إنجازه على طريقها، لا يمكن أن يكون جزءاً من عملية رد الأعتبار إليها.
وهذا ينقلنا إلى الأزمة الأخيرة.. حيث يتم إعطاء مسئولية الخروج من هذا المأزق إلى الذين ورطونا فيه، وهو نفس ما يحدث بصورة أو أخرى فى عملية الاصلاح السياسي والاقتصادى، التى توكل إلى نفس الذين خربوا مالطة!
وبطبيعة الحال فأن مهمة التصدى للفتنة الطائفية لا يمكن لها أن تنتظر حتى بناء الدولة المدنية الحديثة، بل هى مهمة يجب أن تبدأ اليوم قبل الغد وتحتاج إلى مبادرات أهلية ومجتمعية على أكثر من مستوى. وربما يكون المستوى الصحفى والاعلامى أهم هذه المستويات حالياً، حيث المطلوب بالحاح ليس فقط إطفاء الحرائق وإنما أيضا العمل على الحيلولة دون نشوب حرائق جديدة.
ولا ينبغى أن يكون هذا مجرد "كلام" وشعارات، وإنما يجب على القيادات الصحفية والاعلامية أن تتحرك بسرعة، وأن تبلور مبادرات إيجابية وفعالة دون انتظار "توجيهات" عليا من أى جهة بيروقراطية. فإنقاذ الوطن من كوارث محدقة لا يحتاج إلى إذن من أحد، ناهيك عن أن يكون هذا "الأحد" مسئول عن صنع هذه الكارثة أو مستفيد من وجودها بشكل أو آخر. وغير خاف على كل صاحب فطنة أن هناك من بين كبار البيروقراطيين من يظن أن قدراً محسوباً من التوتر الطائفى ربما يكون "مفيداً" فى تحويل الأنظار عن قضايا حقيقية من غير "المستحب" تركيز الاهتمام عليها، مثل ضمانات نزاهة الانتخابات البرلمانية الوشيكة، أو كيفية التفاف الحكومة على زلزال الحكم القضائى ببطلان عقد "مدينتى" وما يستتبعه من إدانة لاهدار الحكومة للمال العام والحق العام، أو غول الأسعار الذى يفترس المصريين الذين تعانى أغلبيتهم الساحقة سلفاً من الفقر وشظف العيش.
ولا ينطوى هذا المنهج على قصر نظر فقط وإنما هو لعب خطير بالنار.. لا يجب السماح باستمراره والعبث بمستقبل هذا الوطن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - نعم انها الحقيقة
عادل السيد ( 2010 / 10 / 9 - 15:12 )
نعم استاذي انها الحقيقة الوطن فوق الجميع فوق كل المذاهب والاديان وكفانا خراب ودمار وتخلف وجهل وفقر ومرض وجوع واستبداد بسبب الدين والاديان
لما هذا الكم من الكره والبغض والقتل بأسم الاله والدين
لكن هنا السؤال الى متى سنظل هكذا هل نحن منتظرين ان تأتي امريكا وتقسم الوطن او تقول لنا ماذا نفعل ام نصلي للرب ونطلب منه التدخل او نصلي ركعتين استخاره وننتظرالرؤية
الحل الوحيد كما قلت استاذي هى الدولة المدنيه الحديثة وليست امريكا او غيرها او الرب او الاله لسبب بسيط وهو سبب هذه الكارثة هى تعدد الاديان


2 - الهويات القاتلة
محمد البدري ( 2010 / 10 / 9 - 17:11 )
اليست العروبة والاسلام من الدوائر التي الصق عبد الناصر نفسه فيهما. كان الرجل محدود المعرفة والثقافة ان لم يكن جاهلا في المقام الاول. فهذا ما نجنيه بعد حركته الانقلابية المباركة منذ حوالي 60 عاما.


3 - المشكله ليس في الله
مريم رمضان ( 2010 / 10 / 9 - 17:38 )
المشكله ليس في الله يا أخي المشكله في الناس والدين الذي من صنع البشر علاقتك مع الله علاقه فرديه بينك وبينه .المشكله الكبرى والمأساويه في العالم كله هي الديانه الإسلاميه المتخلفه الشر يخرج من خبايا آياتها للقتل والإستعباد للبشر جمعاء، المسلم وغير مسلم، المسلم مقيد وأسير لتعاليمها والغير مسلم يعاني من تخلفها وإستعبادها .فالإسلمييون يملكون الأرض كلها حسب شريعتهم المتعصبه ويريدون فرضها على كل الأمم حتى المتحضره منها لترجيع الخلافه والتخلف .إذا تخلص العالم من الخلافه والتخلف فيكون العالم في آمان.


4 - سادلو بدلوى
وليد حنا بيداويد ( 2010 / 10 / 9 - 22:10 )
تحيتى للكاتب، انا لم اشاء ان اشارك فى هكذا نقاشات وهكذا تعليقات ولكن الساكت على الحق شيطان اخرس كما يقول المثل، بلا شك ان الارض والوطن عزيزان جدا ولكن هذا ليس فى المفهوم الاسلامى ابدا، فالمفهوم الاسلامى هو الاسلام اولا وفوق كل شئ وكل شئ من اجله ومن ثم الوطن والوطن يجب ان يكون كل شئ فيه مسلما،
هل يا اخى الكاتب قد استشفيت من الوطن شئ ومن اسمه شئ؟ بلا شك لا شئ
منذ سنوات وانا اتذكر يوم كان السادات رئيسا لمصر واقباط مصر معذبون حيث انا كنت اتابع اخبارهم وكان الاقباط شعب غريب منزل من كوكب اخر يجب ان يعاملوا معاملة لا تليق بهم حسب النظام الاسلامى الذى يقول شئ ويتعامل بشئ اخر مختلف مثلما هو حاصل الان فى العراق فى ظل نظام دولة اسلامية مقيتة فى شعاراتها ودستورها وتطبيقاته اليومية
منذ اواخر السبعينيات ولحد الان اانا اتابع بانتظام اخبار الاقباط، فهم مضطهدون جدا من قبل الدولة والامن والمخابرات بتحريض من الجهات الاسلامية الوهابية الذى انتشر فى جسد الدولة المصرية انتشار السرطان فى جسد المريض
بلا شك انه يكون هناك ردود افعال من الطرف الاخر، فالطرف الاخر بشر لهم حدود التحمل وليسوا السيد المسيح،، تحي


5 - المسخ الوهابي
رعد الحافظ ( 2010 / 10 / 10 - 00:05 )
أعرف أنّ الأستاذ الكاتب الكبير / سعد هجرس لا يقرأ تعليقات القرّاء
ولو قرأها فلن يجيب عليها
لذلك إختصرتُ الطريق وفهمتُ قصده من العنوان وموافق عليه وأريد التعبير عن رأيي الذي أراه مهماً لمستقبل مصر وشعبها الطيّب
***
الوهابية عدو مصر الأوّل , يجب التصدّي العلني لها , وكفى مجاملة ونفاق للبترودولار البدوي الوهابي , فقد وصل منتصف الطريق في تدمير مصر وتسويدها وشعبها
كل كاتب ومفكر تصل كلمته للمسؤولين يجب أن يحثّهم على النهوض ضد المسخ الوهابي
وإذا كان هذا الكلام غريب عن أحد فلتراجعوا / الفضائية المصرية / برنامج مصر النهاردة حلقة الخميس الماضي عن قنوات/ بيع الوهم والدجل والكذب والتي رفضها علماء الأزهر المحترمين وقالوا عنها إنّها فضيحة بكل معنى الكلمة
نعم مصر على كف عفريت من جراء تهديد المسخ الوهابي
تحياتي للجميع


6 - مصر فوق....!!؟ صفيح ساخن
عدلي جندي ( 2010 / 10 / 10 - 11:25 )
الوهاااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااابية

اخر الافلام

.. خبراء عسكريون أميركيون: ضغوط واشنطن ضد هجوم إسرائيلي واسع بر


.. غزة رمز العزة.. وقفات ليلية تضامنا مع غزة في فاس بالمغرب




.. مسيرة إسرائيلية تستهدف سيارة مدنية شمال غرب مدينة رفح جنوب ق


.. مدير مكتب الجزيرة في فلسطين يرصد تطورات المعارك في قطاع غزة




.. بايدن يصف ترمب بـ -الخاسر-