الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قلق البوصلة ... الى مَنْ ؟ والى أين ؟

جمال علي الحلاق

2010 / 10 / 10
سيرة ذاتية




في داخل كلّ فردٍ بوصلةٌ تقوده الى خصوصيته ، تأخذه بعلمه أو بغير علمه ، تُحدّد له زوايا الإبحار والسفر . والفرد - أيّ فرد -يشعر بالطمأنينة فقط حينما تكون بوصلته الداخلية قريبةً جداً في اتّجاهها من بوصلات المحيطين به ، أُسرةً ورفقةً ومجتمعاً ، غير أنّ الأمر لا يتبع رغباتنا دائما .

فجأة ، نجد أنفسنا وحيدين على جزر مأهولة بكلّ أشكال البشر وألوانهم ، إنّها مقلوب تجربة ( حي بن يقظان ، وروبنسون كروزو ) ، نحن ذاكرة من رخام ، في حاضر يسيل ، نحاول أن نبني حياتنا الجديدة بطابوق سائل ، ومع هذا يبقى فينا شيء من التوق الى ما لم نعرفه بعد ، نتقدّم خارج الإتّجاه في مجهول غائم ، لكنّنا نتقدّم برغبة وحب أيضا .

ننشغل بشوقنا الى المستقبل ، وتأخذنا التفاصيل الدقيقة لحياتنا اليوميّة ، نبدو منشغلين حدّ النخاع ، بل إنّنا منشغلون حقّاً ، في عمرٍ كأنّه مصعد يتأرجح بين السطح والقاع .

ثمّ فجأة ، جرس إنذار يكسر رتابة الإنشغال ، يقتحمنا بقوّة وعنف ، شعور يحتلّنا ، يطالبنا بالإلتفاف ، ليس الى الوراء فقط ، بل نتلفّت جنوباً وشمالاً ، نتلفّت كثيراً الى الأمام ، وهنا ، في ذروة الحنين الى الماضي ، وفي ذروة الشوق الى القادم ، في لبّة هذا الصراع اليومي ، الذي نتراكض تحت قذائفه مذهولين أحياناً ، نحاول الإختباء تحت رغبة ما ، وليس تحت يأس ، نرى بارقة للأمل فنهرول ، نتبع البريق ، وجرح صغير يفتح أبواباً للحزن ، يجعلنا ننكفئ على أنفسنا مثل قنافذ داهمها خوف طارئ .

في لبّة هذا الصراع ، وفجأة ، ودون أن ننتبه لنموّها ، تنتصب قامة جديدة ، قامة لها من الطول طولنا أو تزيد ، ولها من الحيرة ما لنا ، قامة كانت معنا ، لكنّنا كنّا منشغلين عن إنتصابها بركضنا اليومي ، قامة تعلن إنتصابها فجأة ، تقف أمام ركضنا كجدار ، تجبرنا على التوقّف ، وتأخذنا من ياقاتنا الى تأمّل بوصلاتنا الداخلية ثانيةً وثالثة ، تعيد إلينا هويّتنا ، فطرتنا الأولى ، التأمّل ، وبعمق : الى من ؟ والى أين ؟

سؤال كأنّه لغم ، لغمٌ مخبوءٌ في أجسادنا ، يشاطرنا رحيلنا المزمن ، لكنّه فجأةً ، يكفّ عن أن يكون لغماً مخبوءاً ، هكذا ، يقرّر أن ينفجر .

حدث ذلك معي ، في صباح باكر ، وعلى مائدة الإفطار ، بينما تجلس العائلة ذات الخمسة أفراد ، ( بلاد ) لا تزال خيوط عنكبوت النعاس على عينيها ، ( بشرى ) منشغلة بخلق المناخ الصباحي ، وكما لو أنّه يستقظ من غيبوبة طويلة وعميقة ، حاصرنا إبني ( علي ) ذو الستة عشر ربيعا بقوله : ليكن حديثنا الآن جاداً ، أريد أن نتحدّث بجدّ عن ( الإنتماء ) .

كان كمن يرمي عن كتفيه قلقاً هائلاً ، أراد أن يتخلّص من حيرةٍ بدأت تصعد كالتسونامي الى أفكاره وسلوكياته ، ولأنّه ليس انطوائياً ، وليس انهزاميّاً أيضا ، وكمن يرمي النرد رمى سؤاله على المائدة ، سؤال كأنّه بئر ونحن نجلس عند فوهته ، كان يريد الخروج من البئر ، وكنّا القافلة التي تعبر الحياة معه ، بل كما لو أنّ العائلة ركبٌ على جَمَلٍ واحد من جِمال الوقت يعبر بنا غباء المسافات الطويلة ( لا تزال تشابيهي بدويّة ! ) .

سؤال كأنّه البوصلة ، وكانت يد ( علي ) كأنّها عقرب الإتّجاه .

أشار الى أخته الكبرى ( نورس ) أن تكون هي المبادرة الأولى في طرح فهمها للإنتماء ، فأجابت بعد تأمّل شفاف : " أنا لا أنتمي للثقافة التي لا أجد نفسي فيها " ، وهذا يعني أنّها لا تريد أن تكون كائناً سلبياً داخل المجتمع ، على العكس تماماً تريد أن تساهم في عملية إنتاج الثقافة التي تنتمي إليها ، أو تشعر بالإنتماء إليها . أعجبته الإجابة فهو لا يريد أن يكون فائضاً ، وفي نفس الوقت يكره التلقين .

هنا التفتَ إليّ بهدوء سبق أن عاشه مع نفسه ، فالجلسة لم تكن ارتجالاً ، بل خطط لها ، كان بإمكانه أن يسألني على انفراد ، لأنّنا غالباً ما ندخل حوارات عميقة كهذه ، بل إنّني أحبّ التحدّث إليه ومعه كثيرا ، لكنّه خطّط لكلّ شيء ، وانتظر اجتماع العائلة كلّها معا ، أراد إجابة محدّدة وأمام الجميع ، لذا قال لي : أعرف أنّك لا تنتمي للعراق ، ولا تنتمي لأستراليا ، ولكن يجب أن يكون هناك شيء ما تنتمي إليه ، فلمن تنتمي ؟

لقد كان جادّاً تماما في الطرح ، وبدا السؤال كما لو أنّه محاولة في تحديد المصير ، وأنّ السفينة لا بدّ لها من جهة ، ولا بدّ لها من غاية ، فنحن لا نهيم في الحياة ، هكذا ، تائهين ، دون إشارة أو علامة تقود الى طريق ، لذا أحببتُ أن تكون إجابتي بمستوى قلقه هذا ، وأحببتُ أن أذهب مع قلقه الى أقصاه .

قلت بهدوء : لا يمكن للفرد أن يعيش بغير انتماء ، لكن ، لمن ينتمي فهذا سؤال خطر ، لأنّه سؤال شخصي جداً .

أشعر أنّني إنسان ، وهذا يعني أنّني أنتمي للإنسان ، والإنسان موجود في كلّ مكان على الأرض ، وهذا يعني أنّني أنتمي للإنسان الموجود في كلّ مكان ، وحتى لا يكون كلامي هلاميّاً وبلا تحديد فأنا أنتمي للإنسان المنفتح ، الذي لا يسجن نفسه في حلقة ضيّقة ، ولا يجعل وجوده حجر عثرة أمام تقدّم الآخرين ، والتقدّم هنا بدلالة الرفاهية الإجتماعية مع نمو الوعي البشري إزاء طلاسم الكون والوجود ، أنا أنتمي للإنسان الذي يريد - ويحاول حقّاً – تغيير وتجديد الحياة البشرية ، لا أشعر بالإنتماء للدمار والخراب حيثما كان ، ولا أنتمي للقتلة ، أنا ضدّ القتل تحت أيّ شعار كان ، ضدّ عقوبة الإعدام أيضا ، لا أنتمي للعراق كخراب ، لكنّني أشعر بصلة نسبي للحضارات القديمة الأولى ولومضات الضوء هنا وهناك على مدار تاريخه ، أحمل ذلك معي في الطريق ، إنّه معي حيثما كنت ، لأنّه زمني الخاص ، لكنّني أنتمي لزها حديد وهي تعيد صياغة المعمار الإنساني مثلما أنتمي لأديسون الذي أنار ليل البشرية الطويل ، وأنتمي لستيفن هاوكنغ وهو يسبر أغوار الكون ، مثلما أنتمي لرغبة جيسيكا داوتسن في اكتشاف العالم عبر مغامرة تحيي الآلهة الأغريقية وهي رميم ، أنتمي لكلّ هؤلاء ، مثلما أنتمي لآخرين لا أعرفهم يحاولون ليل نهار أن يجعلوا الإنسان أكثر قيمة وأكثر شفافية ، لأنهم جميعاً يمثّلون أيضا زمني الخاص جداً ، أنتمي لكلّ شيء جميل في العالم مثلما أنتمي لكلّ شيء جميل في العراق ، لكلّ شيء ناجح فيه ، لقد إنتمينا لمنتخب كرة القدم وهو يرفع الكأس ، بكاؤنا فرحاً كان انتماءً ، لكنّني ، عندما أسمع أخبار إنفجارات هنا وهناك أطفيء التلفزيون ، لا أريد أن يذهب عمري هباءً في سماع أخبار القتلة والتافهين ، وأشعر بالحزن لكائنات جميلة تنزف حياتها بين حصارات وقتل ، وأكتب في كلّ ما يمكن أن يكون ضوءاً ، أريد أن تكون لحياتي قيمةً وعمقاً ، وأنا حريص على أن تكون حياتي قريبة جداً من الإنسان الحقيقي حيثما كان على الأرض ، أريد أن تمتلئ أُذُني بأخبار وأحاديث المبدعين وصاعني الحياة .

أما الموتى ، والذين يدورون في حلقات أضيق من خرم الإبرة ، سواء أكان هذا الخرم سياسة أم دينا أم عرفاً إجتماعياً فأنا حتماً لا أنتمي لهم ، ولا أريد لأخبارهم أن تستهلك زمني .

قال علي : هذا جميل .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحيه وحب
مصدق يوسف ( 2010 / 10 / 10 - 13:29 )
احب كتاباتك ..واحب العائله التي تنتمي اليها ايها الحلاق الرائع ..رغم ما يبدو ان الذي كتبت في هذا المقال هو عموميات حيث جرى التاكيد على مباديء متفق عليها ولو نسبيا ولكن اظن انها اي المباديء بحاجه الى تاكيد دائم حتى لا تتسرب الى نفوسنا في غفلة من هذا الزمن (الشاده حتى لو كان فيها اعادة لما قيل ولكن يبقى لها اهمية ان تبقينا ماشين على صراط الدنيا الحاد حد الشفره ..فرحت جدا بعلي صاحب الاسئله المهمه لابد ان يكون على هذا القدر من الحكمه وهو ينتمي لكم ..دمتم

اخر الافلام

.. إعلام: شبان مغاربة محتجزون لدى ميليشيا مسلحة في تايلاند تستغ


.. مفاوضات التهدئة.. أجواء إيجابية ومخاوف من انعطافة إسرائيل أو




.. يديعوت أحرنوت: إجماع من قادة الأجهزة على فقد إسرائيل ميزتين


.. صحيفة يديعوت أحرنوت: الجيش الإسرائيلي يستدعي مروحيات إلى موق




.. حرب غزة.. ماذا يحدث عند معبر كرم أبو سالم؟