الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من الذاكرة ، صيد عراقي أم صيد الغربان ، الحلقة التاسعة عشرة

فائز الحيدر

2010 / 10 / 10
سيرة ذاتية


من الذاكـرة
صيد عراقي أم صيد الغربان
الحلقة التاسعة عشرة

فائز الحيدر

عـدن ، عاصمة اليمن الديمقراطيـة الشـعبية ، إستقبلت وساندت كل حركات التحرر العربية في نضالها ، تقاسمت الملح والطعـام مع الشيوعيين العراقيين في محنتهم في نهاية السبعينات وما بعدها من القرن الماضي ، يتذكـرها بالحـب والوفاء كل من عاش وعمل فيها من العراقيين والعرب لما تركتـه في نفوسهم من ذكريات جميلة .
تقع مدينة عدن على فوهة بركان خامد منذ ملايين السنين ، وبفعل عمليات التعرية وأمواج البحـر على فوهة البركان أصبحت عدن شبه جزيرة ، وساعد هذا التكوين على أنشاء مينائها المشهور منذ بداية الألف الأول قبل الميلاد ، حيث ورد إسمها في كتب التوراة والإنجيل وكذلك في سفر( حزقيال ) ، ويعتقد بعض المؤرخين أن قابيل قتل أخيه هابيل ودفنه في مكان ما في المدينة.

إختلفت الآراء حول تسمية مدينة عدن ، فالمعاجم اللغوية أعطتها معانٍ عديدة منها : عدن بمعنى الإقامة ، وعدنت الإبل أي لزمت مكانها ، وعّدن الأرض أي سمدها وهيئها للزرع ، وعدن المكان أي إستخرج منها المعدن . وهناك بعض القواميس تقول إنها تعني ساحل البحر . أما المؤرخ ( الطبري ) فيذكر إن إسمها نسبة ( لعدن بن عدنان ) ، بينما يقول بعض المؤرخين إن الأسم يعود إلى ( عدنان بن تقشان بن إبراهيم ) .

في عدن الكثير من الأحياء الشعبية منها ، المعلا ، التواهي ، المنصورة ، الشيخ عثمان ، الشعب ، خور مكسر ، البريقة ، وغيرها ، ومن أحيائها المشهورة ( حي كريتر ) التجاري القديم ، هذا الحي الذي شهـد نضالات الشعب اليمني الجنوبي المسلحة ضـد الأستعمار البريطاني لسنوات طويلة وكبدته خسائر فادحة وأرغمته على الرحيل . يتميز هذا الحي بمبانيه الأثرية وشوارعه الضيقة وأسواقه المزدحمة ، يقع فيه المتحف الحربي ، وصهاريج الطويلة التاريخية والتي يرجع تاريخها إلى خمسة آلاف سنة ومنارة عدن والتي بنيت في عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز ، وقلعة صيرة التأريخية ، وجبل شمسان الشامخ ، ومسجد العيدروس وغيرها من المعالم التأريخية المهمة . ومن هذا الحي وعن بعد يمكن مشاهدة القصر الأخضر وهو أحد قصور السلاطين ما قبل الأستقلال .

البيت الأخضــر

في حي كريتر الشعبي والمناطق المجاورة له سكن الكثير من العراقيين ، فمنهم من سكن فنادقه أو عماراته السكنية في أزقته القديمة ، ومنهم من سكن البيت الأخضر القريب .
والبيت الأخضر كما نسميه نحن العراقيين أو القصر الأخضر كما يسميه الأخوة اليمنيين من سكان عدن ، وهو أحد قصور السلاطين ما قبل الأستقلال ، يقع هذا البيت بالطرف الغربي من هذا الحي وبالقرب من وزارة الداخلية اليمنية ، وعلى رابية مرتفعة ، يحس من سكن فيه بالأرهاق التام حتى وصوله بابه الأمامي ، سمي بالبيت الأخضر لكون كافة جدرانه الخارجية قد طليت باللون الأخضر الزيتوني رغم وسع مساحته وطوابقه العديدة ، فهو يضم العشرات من الصالات وغرف النوم المختلفة الأحجام وبعض ما تركه السلطان من أثار خلال حياته ، ونظرا" لأزمة السكن المستعصية في عدن ولتوافد العشرات من الشيوعيين العراقيين وعوائلهم للعمل في جمهورية اليمن الديمقراطية وللتغلب على تلك الأزمة فقد تم فتح هذا البيت من قبل الحكومة اليمنية لإسكان أكبر عدد من العوائل العراقية وبعض العزاب من الشباب حيث ربطت الجميع علاقات رفاقية جيدة ، وكانت بينهم وبقية رفاقهم في الأحياء الأخرى زيارات عائلية متبادلة بين فترة وأخرى .

في هذا البيت ألتقيت بالكثير من الأصدقاء ومنهم الرفيق عبد العباس سالم ( أبو عاهدين ) الذي يسكن الدار ، شاب من أهالي قضاء الجبايش / محافظة الناصرية ، رفيق نشط لطيف المعشر متنوع الكفاءات ، خبير بالأهوار وصيد الأسماك ، مدرس ناجح ، صحفي وإعلامي جيد ، لذلك عمل في المكتب الصحفي للحزب في الناصرية ممثلا" لقضاء الجبايش .
بعد إنهيار الجبهة مع البعث عام 1978 وعند إشتداد الحملة من قبل النظام الدكتاتوري لتصفية الحزب الشيوعي ، وبإعتباره من العناصر النشطة والمعروفة في المنطقة أصبحت حياته مهددة بالخطر ، لذلك ترك قضاء الجبايش وتوجه جنوبا" نحو الكويت مشيا" على الأقدام عبر صحراء الزبير ومن هناك وبمساعدة رفاقه في منظمة الحزب توجه إلى جمهورية اليمن الديمقراطية ، عمل أبو عاهدين بمجال التدريس في إحدى ثانويات عدن وربطته علاقات جيدة مع كافة رفاقه وزملائه وطلبته لما يملكه من أخلاق حميدة وبساطة وثقافة واسعة .

كان أبو عاهدين وكعادته ينهض مبكرا" كل يوم ليأخذ حمامه الصباحي قبل أن يزاحمه أحد من سكنة البيت وهو يغني بصوت عال أغنية أم كلثوم ( يا مسهرني ) التي يحبها وهو يستعد لمغادرة البيت للذهاب الى عمله ...

ما خطرتش على بالك يوم تسأل عني ...... وعنيا مكافيها النوم ... النوم يا مسهرني

بينما يناديه أحد الساكنين بالبيت ..

ـ إشلون بالله أبو عاهدين ما ننام اليوم .. ما تكللنا ليش كاعد من الصبح ، بعد ساعتين على الدوام ؟

يجاوب أبو عاهدين بأغنية رباعيات الخيام لأم كلثوم وهو يضحك بأعلى صوته ....

فما أطال النوم عمرا" .... ولا قصر في الأعمار طول السهر .....

في تلك الدقائق وقف أمام نافذة الحمام الصغيرة التي تشرف على ساحل البحر القريب ، وهو ينظر من خلالها الى البحر المواجه له حيث الصيادين في زوارقهم الصغيرة الملونة وهم يغنون أغانيهم الشعبية التي توضح عشق الصياد المغرم والمتيم بمعشوقته الجميلة فيبث همه وعواطفه الحارة إلى نجمة الصبح الساكنة في قبة السماء لتبلغ محبوبته كيف ينكوي ويتألم لعذاب فراقها ....

يا نجمة الصبـح طلـي وأرجـعي وروحـي
وسـلمي لـي على من عنـدهم روحـي
بحـق من أنـزل القـرآن في اللـوحِ
عندي دوا الناس ما عندي دوا لروحي

بعد سماع تلك الأغاني ، عاد أبو عاهدين إلى أيام الصبا وذكرياتها وهزه الشوق إلى الأهل والأهوار في جبايش الناصرية ، عاد إلى طيور الهور وصيد الأسماك والطابك وخبز التنور ، ورملة زامل سعيد فتاح والريل وحمد وياس خضر وأغنية المكير وهو يدندن مع نفسه .....

ولك يا ريل لا تجعر أخاف تفزز السمرة
وأرد للناصرية أردود مخنوك الف عبرة
ويراويني النخل موكاف حبنة وطيبة العشرة
ويكلي أصبر
شهر ويعود
والمفطوم شيصبرة....؟

وعلى مسافة قريبة من هذا البيت وعلى سطح أحدها ، كان هناك شاب يحمل بندقية الصيد وهو يحاول أن يصطاد الغربان السود التي حولت حياته طيلة النهار إلى جحيم بنعيقها المزعج وإتخذت من سطح داره ملجا" لها ولفضلاتها . والمعروف إن هذه الغربان قد أدخلت من قبل القوات البريطانية خلال إحتلالها اليمن وبأعداد كبيرة للقضاء على الثعابين المنتشرة في معسكراتها ومدن اليمن والتي كانت تسبب مشاكل عديدة للجنود البريطانيين ، ولكن بدلا" من أن تقضي هذه الغربان على الثعابين ، تكاثرت بسرعة وإنتشرت بكثافة وأصبحت تسيطر على سماء عدن والمدن اليمنية الأخرى مع إختفاء بقية أنواع الطيور خوفا" منها .

وفي أحدى محاولات هذا الشاب إخترقت أحدى الرصاصات الطائشة زجاج نافذة الحمام الصغيرة التي لا تتجاوز مساحته قدمين مربعة لتصيب أبو عاهدين في صدره ، لم يحس أبو عاهدين بالأصابة في بادئ الأمر ولكنه بعد ثوان أحس بالألم الشديد وهو ينظر الى نفسه بالمرآة ليرى الدماء تسيل من صدره على ملابسه الداخلية عندها أدرك أصابته وصرخ طالبا" النجدة من رفاقه في البيت.

نقل أبو عاهدين بسرعة الى المستشفى وسط التسائل من قبل المحققين ، هل يعقل إن الرصاصة دخلت من تلك النافذه الصغيرة لتصيبه ؟ ومن أطلق النار ؟ هل يتربصه أحد ؟ ولماذا أبو عاهدين بالذات وليس غيره ؟ الأمر مستحيل خاصة وإن الدار يقع بالقرب من وزارة الداخلية حيث تتوفر الحماية الكافية !!!! وهل هي محاولة إغتيال متعمدة على نمط ما حدث سابقا" عند إغتيال الشهيد الدكتور توفيق رشدي في حي المنصورة بعدن ؟ ، وإلا كيف يصاب شخص وهو داخل الحمام ومن نافذة صغيرة لا تتجاوز مساحتها قدمين مربعة وعن بعد !!! هل القناص ماهر لهذه الدرجة بإصابة الهدف أم إنها صدفة غريبة !!! أثار الحادث وتضارب المعلومات التي تم الحصول عليها من رفاقه في البيت شكوك المحققين ووصل الأمر حتى الشك بأحد الساكنين في البيت فالأمر مستحيل من وجهة نظرهم .

وفي المستشفى واصل المحقق العدلي إجراء التحقيق لمعرفة الجاني بعد أن سمع أقوال المجنى عليه أبو عاهدين ، فيما إذا كان له أعداء يمكن أن يبلغ عنهم ، وخلال هذا التحقيق المطول وصل شاب لا يتجاوز العشرين من عمره إلى الغرفة التي يرقد بها أبو عاهدين وطلب الأذن بالدخول ثم توجه نحو أبو عاهدين معتذرا" ليقول للمحقق إنه الجاني بقوله ....

ـ كنت على سطح منزلنا أتدرب على صيد الغربان التي حولت حياتي إلى جحيم بنعيقها ، لقد جربت كل الأدوية لمكافحتها ولم تنجح محاولاتي وقبلت أخيرا" بفضلاتها ، ولكني لم أستطع تحمل نعيقها المزعج وخاصة عند الصباح الباكر ، وكنت كالعادة على يقين بأنه ليس هناك أحد على السطوح المجاورة لكي أعرضه للخطر ، ولا أدري كيف إخترقت أحدى رصاصات بندقية الصيد التي إستعملتها ذلك الشباك الصغير في البيت الأخضر البعيد وتصيب أحد ساكنيه ، سمعت في المنطقة من يقول لي إنك أصبت عراقيا" في البيت الأخضر ، لم أتعمد إصابته ، لا أعرفه ، لا أعرف إنه يسكن في هذا القصر ، أقدم إعتذاري له وأي شئ يطلبه ومستعد لأي عقوبة يفرضها عليّ القانون .. نظر أبو عاهدين إلى عيون هذا الشاب وأحس بصدقه وألمه وبراءته وهو يقدم إعتذاره وأسفه أمام المحقق لذلك طلب من المحقق إسقاط الدعوى المقامة ضده ، على أن يأخذ القانون مجراه .

لم يتمكن ألأطباء في المستشفى الجمهوري في عدن من إخراج الرصاصة التي أصابت أبو عاهدين في كبده لمكانها الحساس والخطر فظلت ساكنة في كبده ! ويومها علق صديقه الرفيق الراحل جواد عبد الكريم ( أبو نبأ ) وهو من مدينة الناصرية أيضا" على هذه الحادثة قائلاً :

ـ ( الله وأكبر.. رصاصة واحدة طايشه فلتت بعدن.. ما لكت غير جبد واحد من أهل الناصرية.. حتى تطب بيه ) .

في نهاية عام 1980 غادر أبو عاهدين جمهورية اليمن متوجها" إلى سورية في طريقه إلى كردستان ليشارك في قوات الأنصار التابعة للحزب الشيوعي العراقي أسوة ببقية رفاقه في الحزب ، ونسب للعمل في قاطع سوران للأنصار ، ومن هناك وبعد ستة أعوام من العمل الصحفي والأنصاري البطولي عاد أبو عاهدين إلى أرض الوطن ، إلى أهوار الناصرية محملا" بهموم الوطن وليعمل في تنظيمات الحزب الداخلية حيث عمل لسنوات في إعادة الصلاة المقطوعة وإحياء التنظيم الحزبي من جديد .

في تلك الأهوار التي ترعرع وعاش بها وعشقها وأكل من طيورها وأسماكها أستشهد ، إثر خيانة من أحد عملاء السلطة من القوى الأسلامية في المنطقة ، إذ تم كهربة ماء الهور فإستشهد داخل الزورق المعدني الصغير الذي يستعمله في تنقلاته داخل الهور ، ليكون بطلا" من الأبطال الذين يخلدهم التأريخ .


يتبع في الحلقة القادمة
كندا / تشرين الأول / 2010








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تونس: ما مبرّرات تكوين ائتلاف لمناهضة التعذيب؟


.. ليبيا: ما سبب إجلاء 119 طالب لجوء إلى إيطاليا؟ • فرانس 24




.. بريطانيا: ما حقيقة احتمال ترحيل مهاجرين جزائريين إلى رواندا؟


.. تونس: ما سبب توقيف شريفة الرياحي رئيسة جمعية -تونس أرض اللجو




.. هل استخدمت الشرطة الرصاص المطاطي لفض اعتصامات الطلاب الداعمة