الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سؤال النهضة في مصر وإجابة الموجة الثالثة

مهدي بندق

2010 / 10 / 12
مواضيع وابحاث سياسية



كثيرا ً ما يطرح سؤال النهضة في مصر، متى حدثت؟ وماذا قدمت ؟ ولماذا توقفت؟ بيد أن الصيغة الأهم والتي يجرى ضخها في عروق المرحلة الحالية هو عن كيفية استعادة تلك النهضة..ومن عجب أن ينطرح هذا السؤال بشكله "الماضوي" على طاولات المثقفين وفي مؤتمراتهم بحسبانه حجر الزاوية لبناء المستقبل!
والحق أن سؤال النهضة هذا مضافاً إليه صيغة ُ " الاستعادة " بقدر ما يبدو على السطح إعلانا ً عن النوايا الحسنة أو ُعقارا ً لإزالة تجاعيد الأفكار، بقدر ما يشير إلى واقع ملتبس وفكر أشد التباسا ً.
ذلك أن الواقع المصري تتناوشه اليوم رؤيتان سياسيتان ، الأولى ينشرها الحزب الحاكم كمجسات أنثروبولوجية ، تستنج أن البلاد أمست تتعافى مما ألم بها من بلاء وأرزاء في العهود السابقة ، إذ تتقدم الآن بمعايير عصرية لا يجوز إنكارها، فلقد تم استنقاذ الاقتصاد الوطني من ركود أدى إليه احتكارُ الدولة - في ستينات القرن الماضي- لمعظم وسائل الإنتاج، وما كان لذلك الاستنقاذ أن يتحقق إلا بمعركة صعبة بدأها فريق من الحزب الوطني منحازا ً فيها لقوى التحديث بالضد على بيروقراطية الدولة ، وهي بيروقراطية دشنت بجمودها واقع التخلف ومهدت للهزيمة العسكرية المروعة. ولكن بفضل "الفكر الجديد" داخل الحزب تم إلحاق الاقتصاد المصري في بالسوق العالمي فتدفقت الاستثمارات العالمية والعربية والمحلية، وشيدت عشرات المدن الجديدة وبنيت مئات المصانع، وتحسنت الخدمات فأنيرت القرى ودخلتها القنوات الفضائية ، واحتاز ملايين المصريين الحواسب والهواتف المحمولة ، كما انتعشت السياحة بما لا يقاس . وكان حصاد هذه السياسات : ارتفاع الناتج المحلى الإجمالي إلى 558 مليار جنيه عام 2006 وكان لا يعدو 21 مليار جنيه عام1981 كما بلغ متوسط نصيب الفرد في نفس العام من هذا الناتج الإجمالي 7750جنيه مقابل 534 جنيه عام 1981 (1) ومن الناحية السياسية فقد تجنبت مصر الانزلاق إلى حروب ونزاعات عسكرية خارجية طوال هذه العقود الثلاثة، فـُحقنت دماءُ أبنائها ونجت ديارُها من احتمالات الدمار. وبفضل اطراد السلام تزايدت حرية التعبير وتكاثرت الصحف الحزبية والمستقلة وازدادت جرأة على نقد الحكومة بل ورئاسة الدولة دون خوف من مصادرة أو تعطيل . وبتقلص النظام الشمولي Totalitarianism إلى حد كبير أتيح للأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني أن تشارك في إدارة البلاد كل حسب قدرته، كذلك تم ترسيخ الدولة المدنية بالنص على مبدأ المواطنة (2) وإقصاء أي نشاط سياسي يقوم على أساس ديني(3) من شأنه أن يلقي بالوطن في أتون حرب أهلية مهلكة.
أما الرؤية الثانية فتتبناها قوى المعارضة من أحزاب شرعية، وتنظيمات سياسية محظورة كالإخوان المسلمين، وحركاتٍ راديكالية مبتكرة مثل كفاية ، 6 إبريل ، الجمعية الوطنية للتغيير...الخ إذ يجادل جميعها- بدرجات مختلفة – في أن مصر فقدت دورها القائد في منطقة الشرق الأوسط ، فقد حلت السعودية محلها في السبعينات ، وحلت إسرائيل محل الاثنتين في الثمانينات والتسعينات ، أما إيران وتركيا ، اللتان درجتا على إخفاء أوراقهما القديمة [ الإمبراطورية والخلافة] في تلافيف الذاكرة ، فهاهما تسعيان اليوم لمنافسة إسرائيل في تدبيج الأجندة السياسية للمنطقة تعاونا ً أو تنافساً مع القيصر الأمريكي. والأسوأ أن دور مصر في إفريقيا قد بهت حتى أن حكام دول منابع النيل أقبلوا يتذامرون لتخفيض حصة مصر "المحروسة" من المياه بما يهدد حياة شعبها بأسره. وذلك كله عائد - بنظر المعارضة – إلى فشل الحزب الحاكم على المستوى الاستراتيجي، جراء احتكاره للسلطة مرتكزا ً على قانون الطوارئ وعلى المؤسسة الأمنية، مؤلفةِ ملحمة تزوير الانتخابات. زد عليه " توزير" من ُوصفوا برجال الأعمال ( = الرأسماليين الجدد) وهؤلاء قد تمكنوا بآليات أكروباتية مستحدثة من السيطرة على مقدرات المجتمع والدولة، فبات إفقار الشعب واقعاً مفروضاً بسياساتهم الأنانية ضيقة الأفق، تلك السياسات التي لا تكترث بتصاعد حركات الاحتجاج والمظاهرات والاعتصامات، مما يشي بقرب انفجار الفوضى المنذرة بأوخم الشرور.

***
هاتان إذن رؤيتان لا سبيل إلى التقريب بينهما، فلقد تبلورتا بالفعل في اتجاهين سياسيين متعاكسين، يزعم كل منهما أنه وحده المنقذ والمخلـّص دون سواه.
وعليه فإن سؤال استعادة النهضة في مصر- وهو سؤال خاطئ كما سنرى – ينبغي أن يعلق في عنقيْ الاتجاهين معاً، لأن كليهما يقبله كصيغة لا بديل لها.
وآية ذلك أن أنصار المرشح المحتمل للحزب الوطني يرفعون شعار " مبتدأ جديد لمصر" فإلى أين يذهب ما قال حزبُهم أنه حققه ؟!
وكذلك يفعل أصحاب الاتجاه الثاني حين يطالبون بدستور جديد !
فأين إشادة الناصريين بالزمن الجميل والذي يعد الدستور الحالي من نتائجه العضوية ؟!
وكذلك ُيسأل الإخوان المتقنعون مرحليا ً بقناع الديمقراطية أنـّى لهم بدستور جديد بينما شعارهم التأسيسي يقول" القرآن دستورنا" وهو شعار قديم لا يغرب عن بال المراقب أنه ينسف أساس الديمقراطية جملة ً وتفصيلا.. حيث القرآن الكريم ليس دستورا ً بالمعنى الاصطلاحي المعاصر الذي هو مجموعة القواعد التي تبين شكل الدولة ونظام الحكم وكيفية الرئاسة وانتخاب ممثلي الشعب وأساليب إدارة الأجهزة التنفيذية وتحديد الحقوق والواجبات للمواطنين ...الخ
وأما اللبراليون فيغطرشون على ما بات يعرفه كل من يشتغل بعلم الاجتماع السياسي Political Sociology من أن الدستور ليس حسبُ مجموعة نصوص تتضمن الحقوق والواجبات وصلاحيات السلطة ومهامها ومسئوليات المؤسسات ...الخ بل هو محصلة التطور التاريخي للأمة ، إذ يعد مرآة للواقع تنعكس عليها تمظهرات التوازنات الطبقية وتفاعلات الـُبنى الثقافية ..
وتعبر حالة الدكتور البرادعي عن هذه الغطرشة المعيبة الكاشفة عن مأزق اللبراليين المصريين إذ يتجاهلون هذه الحقائق ؛ فالرجل " اللبرالي " العتيد جاء من أوربا متحمسا ً لفكرة التغيير الشامل ، رافعا ً شعار الدولة العلمانية كأساس لهذا التغيير ، باعتبار الدولة العلمانية هي وحدها أداة تطبيق الديمقراطية الكاملة دون أدنى تسويف . بيد أنه ما لبث غير قليل حتى أدرك استحالة تنفيذ هذه الفكرة في الوقت الراهن لدواع تتعلق بموازين القوى المؤثرة في المجتمع المصري ، فإذا به يستدير 180 درجة ليطالب بحزب للإخوان ، وكانت حجته أن هؤلاء هم القادرون قبل غيرهم على خلخلة أضراس النظام الحالي الذي يعوق الديمقراطية . فهل نسي الدكتور البرادعي أم تناسي أن من يستقوي بهم في معركته من أجل الديمقراطية إنما هم أعدى أعداء الديمقراطية ؟! أغلب الظن أن الأمر التبس على الرجل [مثلما التبس على غيره من عتاة اللبراليين ] وهو ما يفسر كونه حين ُووجه بتناقضاته هذه انسحب أو كاد من الملعب المشتعل.

**
شواهد الحال إذن تكشف عن معاظلات كاملة في توجهات المصريين السياسية ، الكل ينادي بالإصلاح ، وفي نفس الوقت يتحركون بيقين داخليّ نحو خانة الصفر كما لو أن مصر قد انتهت كدولة! وإنه حقا ً ليقين زائف ؛ إذ يشير في بنيته العميقة إلى تموضع الغياب ، بينما الغياب مستحيل بالمعنى الذي شرحه جاك دريدا ، حيث كل تصور للغياب لا مشاحة يستحضره معترفا ً به حضوراً بالإمكان Potential Presence وبذلك يتم نفيه ، فلا يبقى من هويته الغائبة في ساحة المعركة سوى شبح اليأس ، ذلك الشبح الذي ليس في مقدوره – مهما يتشدق بالكلمات الصاخبة - أن يحمل رايات الخلاص.
فإذا كان هذا الالتباس في رؤية الواقع قد غم على الكل ، فلا غرو أن يكون الفكر الذي صدرت عنه تلك الرؤى ملتبسا ً من باب أولى.
كيف ؟
ذلك ما سوف نفصله في الفقرة التالية .

ما المقصود بكلمة النهضة ؟
يطلق المؤرخون على الفترة ما بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر في أوربا اسم " عصر النهضة " Renaissance وهو لفظ معناه اللغوي إعادة الولادة (4) أما المعنى الاصطلاحي فيتعلق ببعث الحضارة التي أفلت كما يأفل القمر في المحاق . والذين يستخدمون هذا المصطلح يرون أن موتاً إكلينيكياً قد حل بأوربا منذ سقطت روما عام 471 في أيدي البرابرة الجرمان، لتنقضي عشرة قرون مظلمة قبل أن يهل على العالم مولود حضاري جديد، ألقى بذرته في رحم أوربا الوصولُ إلى أمريكا عام 1492 واكتشافُ طريق رأس الرجاء الصالح عام 1498 ثم البرهنة ُ عمليا ً على كروية الأرض عام 1522 وما صاحب تلك الاكتشافات من انتعاش التجارة وازدهار الفنون وتغيير مناهج التعليم ... الخ فما لبث الجنين حتى أطل برأسه يطلب الدنيا ويلح في الطلب ، وسرعان ما تلقفته " قابلة ٌ" هي حركة ُ الإصلاح الديني، التي أبطلت – بقوة الفكر والسلاح معا ً– هيمنة َ الكنيسة على حياة وأفكار الناس، لتنفتح لهم بذلك الإصلاح ِ الحاسم ِ فضاءاتُ التفكير المستقل والتعبير الحر. وأما من تعهد ذلك الوليد بالتربية والتثقيف فكانت نزعة ُ الحداثة Modernity التي اقترنت بالثورة الصناعية بداية ً من الاكتشاف الثوريّ: طاقة ُ البخار التي حركت - بجانب القطارات والبواخر والعربات – الإمكانات ِ الذهنية َ الكامنة لدى البشر ، وما أن تحررت هذه الإمكانات حتى تألقت في هيئة اختراعات باهرة غير مسبوقة ونشاط تجاري عارم وتوجهات اقتصادية مائزة ، فكان طبيعيا ً أن تنسحب ثقافة اليأس والبلادة والخرافات مفسحة الطريق أمام تسيد العقل وتمجيد الفرد والإيمان بأن التقدم المطرد هو غاية التاريخ.
إذن مصطلح النهضة هذا - باعتباره مفهوما ً سجلت أوربا براءة اختراعه – ليس مما يمكن إعادة إنتاجه في تربتنا ، ولكن إزاء الضجيج المفتعل من جانبنا حوله ، لا مفر من اتخاذه أداة ً علمية َ لفحص دعوى المطالبة بـ " استعادة النهضة في مصر" فكيف نفعل ذلك؟
أولا ً : ينبغي الإقرار بأن مفهوم النهضة يشير إلي المغادرة، أي استعداد الناس لهجر الوضع ما قبل الرأسمالي Pre- Capitalismالذي يتسم بخضوع الاقتصاد لمتطلبات " أولي الأمر" واعتبار الأفراد مجرد رعايا لا شأن لهم بإدارة البلاد أو تقريرِ مصيرهم بأنفسهم. وبالمقابل تمهد النهضة لولوج عالم الحداثة الذي تحدد فيه مقتضياتُ التطور الماديُّ آفاقَ السياسات المطلوبة، بما فيها اختيار الشعب لحكامه ومحاسبتـُهم وتبديلهم...الخ إضافة إلى امتلاء شعور الفرد بذاته بحسبانه سيد مصيره ، لا يعكر عليه في ذلك أية ادعاءات ميتافيزيقية أو ثيولوجية.
على ضوء هذا المفهوم، لا مندوحة من السؤال عما إذا كانت ثمة نهضة ٌ فعلية قد حدثت في مصر؟ أم مازلنا ننتظر وما بدلنا تبديلا ؟!
ثانيا ً: يجب الوقوف عند ذلك التعبير الذي يحمل بداخله تناقضا ً ذاتيا ً، فالنهضة Renaissance هي- كما أوضحنا- في حد ذاتها استعادة ، فهل ترانا نبتكر اصطلاحا ً جديدا ً هو استعادة الاستعادة Rerenaissance ؟! أم نقول بالأصح إن النهضة التي كادت تطل علينا في القرن التاسع عشر( بتأسيس محمد على للدولة المدنية العصرية ) قد أجهضت مرتين، الأولى بعد هزيمة 1827 إذ تخلى محمد علي مجبرا ً عن مشروعه في اللحاق بعالم الرأسمالية الحديثة، والثانية بعد هزيمة يونيو 1967حيث جرى أيضا ً التخلي عن حلم الاستقلال الاقتصادي، وما تبع ذلك من القبول بتوجيهات صندوق النقد الدولي ونادي باريس التي استهدفت إعادة هيكلة الاقتصاد المصري ليتسق ورؤية الدول الكبرى لتقسيم العمل الدولي ، أو بصيغة أخرى لتكريس تبعية مصر للرأسمالية العالمية.
نعم نجحت حرب أكتوبر وما تبعها من مفاوضات ناجحة في استعادة الأرض المحتلة جنبا إلى جنب إزالة الغبار عن معاطف العسكرية المصرية النبيلة ، بيد أن حقائق موازين القوى فرضت نفسها على السياسة الوطنية في الخارج والداخل ، حيث صار منطقيا ً ألا تعارض مصر الأهداف الإستراتيجية الأمريكية (5) كما صار طبيعيا ً أن تظهر طبقة اجتماعية جديدة ( = الكومبرادور) تمثل مصالح المستثمرين الأجانب وتنال من فائض العمل المأجور قشدته وزبدته ، إضافة لعمولاتها الصريحة أو المستترة من الناتج القوميّ ، بعد حصة النهب الأجنبي طبعا ً .
كل نقيض لابد يستدعي نقيضه . ذلك ما يعلمنا إياه المنهج الهيجلي ، وتطبيقا ً له فلقد جرى انبعاث الفكر السلفي وتزايدت هيمنة الأصولية الدينية على معظم شرائح المجتمع ، بل وعلى بعض مفاصل الدولة. وقد حدث هذا كرد فعل راديكالي قوميّ على مظاهر " الغربنة " Westernization التي أطلقتها سياسات الانفتاح الاقتصادي بكل ما حملته من سلبيات اجتماعية وأيديولوجية وأخلاقية . وهكذا كان استشراء تلك الأصولية بفكرها السلفي الماضويّ بمثابة إسدال الستار على نهاية الحلقة الثانية من مسلسل " النهضة " المنشودة . ودعنا لا نجادل في هذا السياق التاريخي المتعرج أطروحة بيتر جران القائلة بنهضة كادت أن تحدث في القرن الثامن عشر ولكن أجهضتها الحملة الفرنسية (6).
فيا لنهضة مآلها الإجهاض كلما أطلت برأسها من الرحم التاريخي!
ثالثا ً: ليس من قبيل المماحكة اللفظية محاولة ُ التدقيق في استخدام وضبط المصطلح بتحديد ما إذا كان المطلوب هو النهضة أم استعادة النهضة، فكما رأينا آنفا ً أن الاتجاهين الرئيسين في الواقع المصري يرفعان الشعار نفسه بأريحية مدهشة، ولكن دون التفات لوظيفة الشعار ومضمونه وشروطه التاريخية المحايثة!
الفحص المحايد في سياق النقد الذاتي لا شك سيبرهن على أن مجتمعاتنا العربية، ومصر في مقدمتها لم تعرف حتى الآن سوى "محاولات " للنهضة ما أن تبدأ حتى تتعرض للسقوط بفعل عاملين :
أولهما عسكري خارجي، غايته الإستراتيجية إغلاق الأسواق أمام كل محاولة مصرية تستهدف رسملة البلاد التي لو قدر لها النجاح لنافست الغرب في أسواقه وجلبت الفوضى إلى هياكله الإنتاجية .
وأما الثاني فمحض داخليّ متصل بميمات ِ الثقافة العربية الموروثة الضاربة بجذورها في تربة الدوجمائية ، والتي كان ولابد أن يتمخض عنها تخلف تاريخي كثيف، وقد بدأ هذا التخلف بتراجع الفكر الاعتزالي العقلاني بالتوازي مع انحسار الفتوحات العربية في القرن التاسع الميلادي، حيث أرغمت البورجوازيات التجارية العربية على وضع أقدامها في الأحذية الصينية، قمعا ً لإمكانية تحولها إلى قوة ثورية في مواجهة إقطاع الدولة العسكرتارية، فكان لزاماً أن ُيطرد من " قصور" المعرفة الفكرُ المعتزليُّ العقلانيُّ المتحررُ ليرقد مدحورا ً في الجحور، وليحل محله في مقدمة المشهد الثقافي فكرٌ أشعري مهادن وتابع للسلطة، جنبا ً إلى جنب فقه ٌ حنبلي جامد يخدمها بترسيخه ضيق َ أفق الرعايا ، وتثبيتِ مفعوليتهم وسلبيتهم ، وكأن الاثنين – الفكر والفقه – قد راحا يوظفان نفسيهما في بلاط سوسيولوجيا النسيان الجمعي لكل ما هو إيجابي في ثقافة الأمة ! فما أقل من يذكر منا كتابات ابن رشد والجاحظ والقاضي عبد الجبار والخياط ومحمد عبده، بينما لا يزال الأشاعرة والحنابلة مقيمين بيننا حتى الآن.. وهو ما يفسر سرعة استجابة العامة من المسلمين في مصر لـ "رواد الفضائيات الكلامية " الذين يتغنون بجمال التعصب وروعة بغض الآخر المختلف ، محرضين بهذا وذاك شرائح كثيفة من عامة الأقباط يتمترسون بمؤسسة ٍ ( هي بديل عن الدولة ؟!) تحكم فكرها " النصية ُ" الدينية ُ التي تنبذ [ بطبيعة المذهب الأرثوذكسي ] أي تأويل لحرفية النص ولو كان تأويلا ً يأخذ في الاعتبار المصالح الحقيقية لهم . ولقد تجسد هذا التمترس في دعم عامة الأقباط قرار نيافة البابا الرافض لحكم المحكمة الإدارية العليا في مسألة إباحة الزواج للمطلقين ، دون التفات إلى أن هذا الرفض هو بمثابة تكريس لمعاناتهم في حياتهم الاجتماعية !
وكل هذا ينداح ويختلط ويلتصق و" يشيط " في وعاء ضخم، لا يزال طباخوه يقلـّبون سؤال النهضة على جانبيه !

يوم تتغير الأسئلة

فهل ثمة أمل في أن يدرك الاتجاهان الرئيسان في مصر أن سؤال النهضة ( بله استعادتها!) قد ولى زمنه وتلاشت شروطه وتبخرت مياه الحياة فيه ؟ وهل ثمة احتمال أن ُيستبدل بهذا السؤال العقيم أطروحة الاندماج " الثقافي" في عالمنا المعاصر المسافر على ذرى الموجة الثالثة التي تندفع بزخـْمها للمستقبل عبر ثورة المعلومات والاتصالات والإنتاج المعرفي؟ (7)
ذلك هو السؤال المنتج حقا ً، ولحسن الحظ فإن الثورة الحالية هي ثورة من نوع جديد، مفارق بطبيعته الكوزموبوليتانية لنموذج " المركزية الأوربية " الذي يشترط النهضة أولا ً ثم الإصلاح الديني ثانياً فالتنوير ثالثاً قبل الدخول في عالم الحداثة ! إنما في بحار الثورة المعرفية الحالية فإن بإمكان أي مجتمع متخلف أن يركب أمواجها قفزا ً، وسواء نجحت قفزته بدرجة امتياز أو بدرجة مقبول فلا ريب أن أفكاره ( بما فيها أسئلته) سوف تتغير.

أيرلندا نموذجا ً (8)
يعد هذا النموذج – مثالا ً لا حصرا ً - أقوى شاهد على صحة القول بأن وجود الناس هو الذي يحدد أفكارهم وليست أفكارُهم هي التي تعين أنماط حياتهم. وآية ذلك أن أيرلندا مكثت عقوداً طويلة يستنفد طاقتَها القرارُ السياسيّ بضرورة توحيد الجزيرة ، فكان تأييد الجمهورية في الجنوب للجيش الجمهوري- الذراع العسكري للحزب الراديكالي الوطني "الشين فين" – كافيا ً لأن يعلن الأخير الكفاح المسلح بدء من عام 1955 وهو ما أدى لاندلاع الحرب الأهلية عام 1968 في القسم الشمالي بين الأغلبية البروتستانتية ثمة والموالية لبريطانيا، وبين الأقلية الكاثوليكية المنادية بالوحدة مع نظام الجمهورية في دبلن. ولقد استمرت تلك الحرب الفظيعة لثلاثين عاماً متصلة ، عانت فيها أيرلندة الويلات بحكم انغماسها Up to its neck في تلك المشكلة " القومية " حتى ُاعتبرت أفقر دولة في أوربا ، ولكن ما أن مارست القفز على الموجة الثالثة التي ذكرناها تواً ( تحديداً بالتوسع في صناعة البرمجيات) حتى تدفقت عليها الاستثماراتُ من كل فج عميق: أوربية وأمريكية ويابانية بغير تحفظ..فكان أن بدأ الناتج المحلي الإجمالي في التضاعف بصورة مذهلة . هنا حسبُ تغيرت عقيدة كاثوليك الشمال السياسية تجاه الوحدة "القسرية" فسعوا إلى المصالحة مع مواطنيهم البروتستانت ، حيث توطدت هذه المصالحة باتفاق بلفاست عام 1998 الذي نص على حق الشماليين في تقرير مصيرهم سواء بالاندماج مع الجمهورية أم بالاستقلال عنها. بعدها قام الجيش الجمهوري عام 2005 بالتخلص من سلاحه ، للمساعدة على إتمام التسوية النهائية والتي وضعت كامل السلطة في يد بلفاست ( وليس في يد لندن ) إيمانا ً من الجيش الجمهوري بأن يوم الوحدة بات قريبا ً ، وأنه سيأتي طوعاً لا غش فيه . وهكذا حل محل الإكراه والقسر إغراءُ معارضي الوحدة بـ " آيات " المستوى الاقتصادي الرفيع الذي حققته الجمهوريةُ ففي عام 2008 بلغ إجمالي الناتج المحلي في جمهورية أيرلندة 188 مليار دولار وارتفع متوسط دخل الفرد إلى 42000 دولار في السنة ، رابع أعلى مستوى في العالم (9) بينما تراجع تماما ً مطلب الوحدة بأسلوب التهديد والإرهاب الفكري تحت شعار "القومية " ذي الطابع العرقي المنتمي لقاموس ما قبل الحداثة.
درس لابد أن نستوعبه جميعاً حتى نقي أنفسنا خطر الانزلاق على زبد الأسئلة المعادة المكررة ، وعلى رأسها سؤال النهضة بتفريعاته وتسلسلاته المنطقية غير المثمرة ، مستبدلين به سؤالنا عن " الموجة الثالثة " حيث لا معنى لإستراتيجيات التنمية – كما يذهب توفللر – إذا لم ُيؤخذ في الحسبان الدور الجديد للمعرفة في خلق الثروة . ومن الواضح أن فعل خلق الثروة لا يتطرق حسب ُ للنشاط الاقتصادي بل هو في الوقت نفسه فعل ثوري يغير المفاهيم والرؤى والتصورات ، ويشحذ ملكات الخيال الإنساني لسبر كنه الكون وأسرار الطبيعة وحث البشر على تحطيم قيود الضرورة لينطلقوا معا ً إلى عالم الحرية .






هوامش ومرتكزات
ـــــــــ
1- الأرقام مصدرها الهيئة المصرية العامة للاستعلامات
2- المادة الأولى من الدستور المصري المعدل في 2007
3- المادة الخامسة من الدستور المصري المعدل
4- Encyclopedic World Dictionary P. 1327
5- عبر عن ذلك الرئيس السادات بقوله إن 99% من أوراق منطقة الشرق الأوسط موجودة في أيدي الولايات المتحدة الأمريكية
6- Islamic Roots of Capitalism- Egypt 1760- 1840 By Peter Gran- University of Texas Press – London
7- المقصود بالموجة الثالثة الثورة المعرفية الحالية التي انتزعت الراية من سابقتيها : الثورة الزراعية فالثورة الصناعية . لمزيد من التفاصيل راجع كتاب إلفن توفللر " تحول السلطة " ترجمة لبنى الريدي- جزءان – الهيئة المصرية العامة للكتاب- الألف الثاني 181 صدر عام 1995
8- للتوسع ، أنظر مهدي بندق : لماذا نجحت أيرلندا وأخفق لبنان ؟ جريدة القاهرة 28 يونيو 2008 ص 9
9- http://en.wikipedia.org/wiki/Ireland








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -