الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرجل الخطأ- الحلقة الأولى

حوا بطواش
كاتبة

(Hawa Batwash)

2010 / 10 / 16
الادب والفن



السّماءُ الخَريفية مثقلة بالحزن, والمطر يتساقط خفيفا, ينقر على النوافذ الزجاجية الكبيرة بنقرات ايقاعية, حزينة.

وقفت أمام الرفوف أتأمّل عناوين الكتب التي تمتلئ بها. مر وقت طويل منذ كنت في هذه المكتبة آخر مرة. اشتقت اليها. كم كنت أحب هذه المكتبة! وهذه الزاوية بالذات من المكتبة, حيث الرف الذي يضم روايات "فيليبا كار". انه ما زال كما كان. والكتب ما زالت في مكانها مرتبة كما كانت دوما. كل شيء هنا ما زال كما كان منذ بعيد, ولم يتغيّر شيء. انا الوحيدة التي تغيّرت منذ زيارتي الأخيرة الى هنا, منذ خمس سنوات, فكّرت بيني وبين نفسي.

تأمّلت عناوين الكتب وأخذت أحدّق فيها, واحدا تلو الآخر. معظم العناوين كانت مألوفة لدي, فقد بدأت بقراءة هذه الروايات, وبعضها قرأتها أكثر من مرة, منذ كنت في الثانية عشر. ثم وقع نظري على العنوان الكبير "أذكريني في أيلول". آه, كم كنت أحب هذه الرواية! وكم من مرة أعدت قراءتها دون ان أشعر بالملل! وفي كل مرة كنت أكتشف فيها شيئا جديدا ومثيرا لم أكن أنتبه اليه في قراءاتي السابقة. مددت يدي اليه وأخذته من الرف.

وفجأة... رأيت وجها أمامي...! وجها ألفته جدا منذ سنوات. كان يتأمّل الكتب من الجانب الآخر من الرّف. وحين رآني, علت امارات العجب والمفاجأة الشديدة على ملامح وجهه, تلك الملامح التي تطفح بالرقة والحيوية في ذات الوقت. انها ما زالت كما كانت دوما, ولم تفقد شيئا من ذلك. نفس العينين البنيتين اللامعتين ببريق الذكاء, نفس الشعر الأملس المسترسل على الجبين بخصلات جميلة, نفس الشفتين الورديتين الدقيقتين, ونفس الوجه البيضاوي الأسمر الذي يشعّ جمالا وسحرا, ذلك الوجه الذي كان يراودني في أحلامي طوال سنوات حياتي الجميلة, سنوات دراستي الجامعية. ولكن شيئا ما يبدو مختلفا فيه رغم كل ذلك. شيء ما قد تغيّر. أهي النظاراة التي يضعها الآن على عينيه؟ لم أعرف الإجابة بالتأكيد.

أرخيت نظري عنه... وأشحت بوجهي. لم أعرف ماذا أفعل؟! او ماذا أقول؟! ولم أكن متأكّدة أنه سيفعل شيئا او سيقول شيئا.

كنت على وشك الذهاب حين سمعت صوته يسأل: "كيف حالك, صوفيا؟"

توقّفت... ورفعت عينيَّ اليه من جديد.

ابتسمت مرتبكة, ولم أجب على سؤاله. بل قلت: "أهلا, عامر. كيف حالك انت؟"

فأجاب بتهذيب: "بخير."

رأيته يدقّق النظر اليّ طويلا, ثم سألني وابتسامة لطيفة ترتسم على شفتيه: "أما زلت تقرئين روايات "فيليبا كار"؟"

أجبته: "لم أقرأها كثيرا في الآونة الأخيرة."

فقال وهو يهزّ رأسه بحركة خفيفة: "فهمت." وانا لم أعرف ان كان حقا فاهما.

بعد لحظة... استطرد قائلا: "لم أرَك منذ زمن طويل. سمعت أنك تسكنين الآن في تل ابيب؟!"

أجبته بنبرة هادئة قدر الإمكان: "كنت أسكن هناك."

فتعجّب من جوابي, وسأل مترددا: "يعني... لم تعودي تسكنين هناك الآن؟"

هززت رأسي علامة النفي, وقلت: "لا, لم أعُد أسكن هناك."

فسألني بنبرة استغراب: "متى عدت؟"

"قبل نحو شهر." أجبت. ثم سألته بغية تغيير الموضوع: "وماذا عنك؟ ما أخبارك؟"

فردّ: "ما زلت أكمل دراستي العليا. انا الآن أحضّر للدكتوراة وأدرّس في الجامعة."

"حقا؟! هذا شيء رائع." قلت, وتسرّب الى نفسي شعور بعدم الإرتياح, وشيء من الإرتباك, اذ دوَت في ذهني كلمات أمي عنه قبل خمس سنوات: "انه مجرد طالب وضيع في الجامعة!"

ترى, هل كانت ستقول عنه الآن نفس الشيء؟ تعجّبت بيني وبين نفسي.

سمعته يسأل: "وماذا عنك؟ ما أخبارك؟"

تأمّلته لحظة بنظرة تائهة... ساهمة, ثم تنهّدت بصمت. لم تكن بي رغبة في الخوض في ذلك.
فقلت وانا أنظر الى ساعتي: "يجب ان أذهب الآن." وأضفت بتأديب: "سعدت برؤيتك. عن اذنك."

ولكنني وجدته يستوقفني. "صوفيا!" قال وصوته يتردد. ثم سأل: "هل لي ان أدعوك على فنجان قهوة؟"

لا أدري كيف ولماذا طلب ذلك مني, ولا كيف وافقت على طلبه! ولكنني وجدت نفسي بعد دقائق جالسة معه في الكافيتيريا الذي كنا نرتاده انا وهو منذ سنوات.

جلسنا في صمت وبيننا فنجانا القهوة... والذكريات.

كم أحببنا! وكم نسجنا الأحلام والطموحات من خيوط حبنا. ثم بيّنت لنا الأيام كم كانت هذه الخيوط هشة... ركيكة... سرعان ما تقطّعت امام عناد أهلي واصرارهم على قتل حبنا. حبنا الذي بدأ مع بداية دراستي الجامعية, حيث تعرّفنا على بعض.

لم يكن عامر يكبرني بأكثر من سنتين. رأيته شابا مكتمل الأوصاف برقته ورجوليته ولطفه وتفهّمه. كان يعرف كيف يخاطب الأنثى التي بداخلي, وكيف يخطف لبّي دون عناء او جهد او اصطناع. كان يعرف كيف يشدّني اليه ويحتلّ قلبي ويحتويني ملء نفسي.

ثم فجأة... اصطدمت باعتراض أهلي, فهو ما زال طالبا جامعيا... دون شيء. وانا بنت عائلة لها أصل وفصل وعلى أبواب التخرّج, والرجال أصحاب المقام على أبواب بيتنا يتهافتون. كان فراس واحدا من هؤلاء, وربما أكثرهم ثراءً. كان يكبرني بعشر سنوات. لم أرَ أمامي فسحة أنفذ خلالها من زواج محتّم. كما لم أعُد أجد طريقة أُبقي بها على حبي لعامر حيا.

استسلمت لقدري وذهبت في الطريق الذي فُرض عليّ.

كان فراس يختلف تماما عن عامر. لم يكن يتمتّع برقة عامر او تفهّمه, ولم يستطع يوما ان يخاطب مشاعري. لم يكن يمتلك كل تلك المواصفات التي طالما أحببت عامر لأجلها. لم يمتلك الا المال, وذلك البيت الكبير الذي أسكنني فيه, وتلك السيارات الفاخرة التي يتباهى بها امامي وامام الناس.

تزوجته وانتقلت معه للسكن قرب مكان عمله في تل ابيب, حيث عمل مديرا لإحدى الشركات الكبرى. كنت أبقى في بيتنا الكبير وحيدة طوال الوقت. لم أكن قد حصلت على شهادتي الجامعية, اذ لم أستطع اتمام امتحاناتي الأخيرة بسبب المشاكل التي تعرّضت لها وانا على ابواب التخرج. ولم يكن هناك داعٍ لخروجي الى العمل, اذ كان لدينا كل شيء. هكذا قال لي فراس.

لم يطل بنا الأمر حتى نشبت الخلافات بيننا. أحسست أنني أعيش في حبس فاخر يخنقني نفسا تلو الآخر. طلبت اتمام دراستي, فاعترض. طلبت العمل لمجرد الخروج من ذلك الحبس, فاعترض. لم أعرف ماذا أفعل. ولكنني سرعان ما عرفت أنني تزوجت من الرجل الخطأ.

يتبع...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الحب تجديد الحيات
هاشم كوجر ( 2010 / 10 / 16 - 16:38 )
انا اسف اقول لك ياصديقتي مهما الطال البعد بين المحبين سوف يلتقي القلوب مرتا اخرى اذا كان الحب صادق فلابد الدفاع عن الحب لان جمال الحيات هو الحب عليكي ان تحترمي زواجك ولاكن لاتنسي الحب الحب امل البائسين وامل المحرومين والحب حيات ثاني للانسان ولاكن المال يأتي ويزول اما الحب فيبقى ويدوم مهما طال البعد بينهما انصحك اذا كنت الان مع زوجك فلاتخربي بيتك لانك خربتيها مرتا لتركك عامر ولاتخربيها ثانيتا فعيشي لحبك الحب كل شئ واقدس الاشياء في الكون لقد فطرتي قلبنا بهذه الكلمات الرائعة وبهذه القصة الحزينة الذي يشبه قصص الافلام الهندية فهتمي لكتاباتك ولعائلتك اتمنى لك الموفقية


2 - كتبتِ فأجدتِ
ريتا عودة ( 2010 / 10 / 16 - 17:19 )
كم كنت أنيقة في هذا المقطع:

جلسنا في صمت وبيننا فنجانا القهوة... والذكريات.
كم أحببنا! وكم نسجنا الأحلام والطموحات من خيوط حبنا. ثم بيّنت لنا الأيام كم
كانت هذه الخيوط هشة... ركيكة...

وكم كان تعبيرك عن مشاعر الأنثى في هذا المقطع مذهلا:
كان يعرف كيف يخاطب الأنثى التي بداخلي..

أتمنى عليكِ الانتباه لاستعمال الفاصلة المستعملة في اللغة العربية:(،)كي يكتمل جمال نص.

لأول مرة أقرأك. أشعر أني قد لمست هذا النبض تحت اسم آخر. لكن، لأن النص العامل الأساسي الذي يجذبني لاكتشاف خباياه، أعلن لك أني اتابع رواية الرجل الخطأ بلهفة، لأن أسلوبك جذاب ولغتك متينة. قد تكون الأحداث متوقعة، لكنّ اللأديب الماهر هو ذلك الذي يكسر توقعات القارئ. كوني بحبر وخير.


3 - كسر التوقعات
حوا بطواش ( 2010 / 10 / 16 - 21:01 )
عزيزتي ريتا ملاحظتك اسعدتني وزودتني بالثقة وكوني اكيدة ان الأحداث لن تكون متوقعة, اشكرك على ملاحظتك فيما يخص الفاصلة ورغم اني كنت اعرفها ولكني لم اكن اعطيها اهمية كبيرة. واحب ان انوّه هنا ان هذه القصة مؤلّفة وليست انعكاسا لحياتي الخاصة باي شكل


4 - معايير القصة القصيرة
هيثم جبار عباس ( 2010 / 10 / 17 - 08:52 )
في تحاد الادباء والكتاب العراقيين في البصرة
القيت محاضرة عن القصة القصيرة ومعاييرها
كان في ودي ان ارسل لك هذه المحاضرة مختصرة فقد حضرها كل من محمود عبد الوهاب ومحمد خضير رواد القصة القصيرة في العراق
حاولي مراسلتي على هذا الاميل كي امدك ببعض المعلومات الادبية عن القصة القصيرة
[email protected]
مع الشكر
هيثم جبار عباس
من البصرة الفيحاء


5 - الأديب بريء من حبكة القصة
ريتا عودة ( 2010 / 10 / 17 - 12:57 )

عزيزتي حوا، فاتني أن أنوه وأنا أقرأ تعليق الأخ هاشم أنه من المهم جدا عدم ادانة الأديب على ما ينزفه من نصوص.
من جرّب عملية الخلق الابداعية يعرف أن الأديب يغرف من كل مكان لينسج الأحداث، وليس بالضرورة أن تكون الأحداث انعاكسا لسيرته الذاتية وإلا لنوّه عن
ذلك، وإلا فكيف يمكننا أن نفسر ظاهرة دمج الفانتازيا مع الواقع في الحبكة؟
في انتظار مفاجآتك كأديبة تجيد فن لعبة الاستغماية مع قارئها.
كما وأعدك بقراءة جميع نصوصك حين أفرغ من كتابة روايتي فقد جذبني أسلوبك في الكتابة.
كوني بخير وحبر..


6 - تحية الى السيدة حوا سكاس
حسين العلاق ( 2010 / 10 / 17 - 15:06 )
في انتضار المتابعة


وهاهو الخريف
باوراقه الساقطة
بالوانه
وطل من الماء خلف النوافذ
وذاكرة العنكبوت الذى شيد بيته في الزاويه


7 - شكرا لاهتمامكم
حوا بطواش ( 2010 / 10 / 17 - 15:52 )
عزيزتي ريتا
يسرني اهتمامك بنصوصي وانا بانتظار ملاحظاتك عليها وسلّمي على كل اهل الناصرة، المدينة التي احبها جدا ولها مكانة خاصة في قلبي ولي ذكريات جميلة فيها
وأشكرك اخي هيثم على اهتمامك وحتما سأكون على اتصال معك
دمتم بخير جميعا


8 - أسلوب رائع متجدد
حبيب هنا ( 2010 / 10 / 17 - 19:25 )
السيدة حوا سكاس تحية وبعد،،،
لقد تابعت كل ما كتبتيه،ولكن أسلوبك السردي هذه المرة مختلف،فيه شيئ من-البومة في غرفة بعيدة-للكاتب الشهيد غسان كنفاني،خاصة عندما تصفين عامر:نفس العينين..نفس الشفتين..الخ..غير أن متعة التجديد تنبئ بأن لديك ما تقولينه وأن الفضاءات التي تفتحينها يمكن أن تمتلء بالمتعة والادهاش واضافة الجديد.تحياتي للجليل بكل قراها.ونحن على موعد في الحلقة الفادمة..
حبيب هنا


9 - اسمحي لي بمشاركتك قصتك ادبيا
بوجمع خرج ( 2010 / 10 / 19 - 00:55 )
شكرا لك على إشراكنا النظرة الأنثوية لمشاعر كنا نقرأها فقط من الزاوية الذكورية
وفقط لأن عدد الكلمات محصور فإني أوجه للجميع دعوة للالتحاق بهذا الموقع
http://www.ahewar.org/m.asp?i=2624

وذلك لمتابعة مداخلتي هذه خاصة واني قررت ان ادخل على طول خط هذه القصة وطبعا مع باقة من ورود أدبية لحوا سكاس
ربما يتاخر النشر قليلا لكن بالتاكيد سيظهر


10 - عزيزتي السيدة حوا سكاس المحترمة
ليندا كبرييل ( 2010 / 10 / 19 - 06:03 )
بداية جميلة لقصة أنتظر حلقاتها بشوق . اسمحي لي أن أقول أن الكاتب لا يُسأل عن غايته ومقاصده من العمل الفني , حضرتك تطرحين ما بذهنك للقارئ فتغتني القطعة الأدبية بالرؤى المختلفة للقراء , كما أن استخدامك ضمير المتكلم لا يعني أن الواقعة قد حدثت لك . الموضوع الحساس الذي تطرقت إليه نعيش أحداثه في مجتمعنا العربي آمل أن تتوفقي في رؤيتك له . ننتظرك وشكراً لك

اخر الافلام

.. استشهاد الطفل عزام الشاعر بسبب سوء التغذية جراء سياسة التجوي


.. الفنان السعودي -حقروص- في صباح العربية




.. محمد عبيدات.. تعيين مغني الراب -ميستر آب- متحدثا لمطار الجزا


.. كيف تحول من لاعب كرة قدم إلى فنان؟.. الفنان سلطان خليفة يوضح




.. الفنان السعودي -حقروص- يتحدث عن كواليس أحدث أغانيه في صباح ا