الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جروح ايه اللي انت جاي تقول عليها

لطيفة الشعلان

2004 / 9 / 10
الادب والفن


بسبب العناوين المظللة كان حالي مع الاحباط بعد فراغي من شهادة لبدر الديب كان قد كتبها لمجلة الاربعائيون بعنوان (جروح الروح) كحال فتى فرغ من قراءة كتاب عنوانه (مائة سؤال في الجنس) في حين كانت المائة في العقم وأطفال الانابيب والتهاب البروستاتا وانسداد قناة فالوب. فبعد أن وعدني عنوان بدر الديب بحديث حميم عن النفس وجروحها، ونحن الذين على وعد دائم بأمجاد ومفاخر النفوس العربية في عصاميتها وبطولاتها الفردية، وبعد أن بدأ كتابته باشارات تمهيدية الى ما أسماه (العري الروحي) و(التعري بالكتابة) و (اشكالات الكتابة عن النفس) و (الحديث المحرج والمكتوب في حرج) اذا بي اكتشف ان بدر الديب يتحدث في اتجاهين لا علاقة لهما بروحه، الاول: في أوضاع ثقافية وهموم عامة، ان تمسحت مجازا بروح فبأرواح المصريين كلهم، لا فرد منهم. والثاني في مقاطع من حياته الدراسية والعملية في مصر وخارجها، وما أحاط بها من ظروف، وما خضبها من تيارات واتجاهات، مكتوبة بأكثر ما يمكن من لجم الذات، والشدة في انتقاء العبارات التي لا تحتمل أكثر من معنى، والحرص في الابتعاد عن الروح الموعودين بها، وبجروحها.
لكأن بدر الديب في شهادته تلك، ليس هو بدر الديب نفسه، مبدع رائعة (أوراق زمردة أيوب) التي سرقتني كلي لاول مرة، على مدى ثلاث ساعات متصلة من شتاء 1996، بينما كنت في آخر مدرج جامعي في درس احصاء تربوي ممل، لأعيد مصمصتها بعد ذلك بتأن، مرتين متقاربتين، في العام ذاته، بالاقبال ذاته.
الرواية التي يمكن أن أصفها في كلمتين، بأنها حديث الروح في تجربتها مع جروح الخطيئة والاعتراف والتوبة والموت بالتقسيط والكتابة في كراس لا بد ان تحرقه الخادمة في الدير من دون أن يقرأه أحد.. حديث روح تستعير الكولاج من فن التصوير لتقيم لها صورة من زوايا ولقطات متعددة، يتمازج فيها الدين بعلم النفس بالاسطورة بالشعر بالتاريخ.
وحين اقارن هذه الساعة، بين بدر الحاضر أمامي في الشهادة وبدر الذي عرفته من قبل في الرواية، يطل السؤال المشاغب بأنفه الفضولي وطربوشه المائل: هل كان بدر سينطلق في حديث روح آخاذ ، لو لم يكن يكتب تلك الرواية على لسان امرأة حررته من رقيبه الداخلي وضميره الاجتماعي، فهي زمردة أيوب المرأة القبطية الخاطئة، وهو بدر الديب الرجل، وبالتالي لن يلقي أحد بظلال على أحد، ولن يفتش كائن من كان، عن بدر وروحه في زمردة وروحها.
أما في الشهادة، فبدر يتحدث بضمير الانا الحقيقية، لا الهو ولا الهي، وعند هذه النقطة، تصادفني أغرب جروح يمكن أن يدعي انسان انها جروح لروحه، وكانت على شاكلة:
ضياع وثائق الطبقة الوسطى المصرية فهو يجهل مثلا ان كانت عائلته قدمت من الحجاز أم من تركيا، وضع المكتبات العامة والمتخصصة التعس، الثقافة المصرية الخارجة من الحركة الوطنية والمحصورة بالمحظورات، تراجع دور ومستوى مكتبة الجامعة، الجروح التي خلفها أساتذة الجامعة الذين يقعون في الخلط المنهجي كعبد الرحمن بدوي، المآل الذي انتهى اليه مركز للمعلومات والتوثيق ملحق بوزارة المعارف، ووضع الجامعات ومناهجها.
الحلو في الموضوع ان بدر الديب نفسه كان يشعر في قرارته وقت الكتابة ان ما يدعيه لا علاقة له بجروح روحه، لذلك ترى قلمه في موضع ضياع وثائق الطبقة الوسطى يفلت ليقول: " وهذا جرح من جروح الروح لا يعي به الكثيرون ممن يحملونه". وفي موضع آخر يقول:
" قد يرى البعض ان قضية المكتبات من المبالغة اعتبارها من جروح الروح ولكنني أرى عكس ذلك تماما" .
ولانه يرى عكس ذلك تماما، فحين يعرض لحال مركز البحوث يتمسرح بقوله: " ويظل هذا دائما جرحا من جروح الروح لا يندمل ولا أعرف كيف أداويه ". وحين يصل الى وضع الجامعات يطلق الصوت المسرحي ذاته قائلا: " ماذا نفعل في هذه الجروح والى متى سنصبر عليها ".
أكاد أتخيل رهبة الكتابة عربيا عن النفس، ناهيك عن جروحها، بينما الكاتب محاط عن يمينه بالثالوث المحرم، وعن يساره بقارئ يتسقط الاغلاط ويقاضي على الهفوات، ان لم يتبرع فينصب محكمة ويعلق مشنقة، ولكن هذا لا يعفي بدر الديب لانه وعد بشيء، ويفترض في مبدع وعد بشيء، ان يأتي به على أحسن وجه.
وبالتالي، يتضح للقارئ أنني أحمل على عنوان بدر الديب الخادع لا غير، ولا انتقص البتة من القيمة الفنية او التوثيقية لشهادته، فهي رفيعة ولا بد لها أهميتها، خاصة اذا تذكر الواحد منا ان وسائلنا في تسجيل الحياة، وتوثيق الماضي، وعلى رأسها الفنون البصرية على اختلافها، ما زالت متخلفة مقارنة بما عند غيرنا، او غارقة في اهتمامات تجارية في أحسن الحالات، وهذا يرمي بالعبء الاكبر على عاتق الادب.
لكن ما يبقى وزره على عاتق بدر الديب، هو أن شهادته كان يفترض أن تأتي معنونة بـ (جروح ثقافية) او (جروح مصرية)، عوضا عن (جروح الروح) . اضافة الى أنه ما كان له أن يمهد في مقدمته لعمل لم يكن له من شرفه الا الادعاء، ولو كان قد فعل ذلك لكفاني الله تعب هذا المقال.
الغريب ان بدر الذي تنفس في المرأة وتنفست فيه في (أوراق زمردة أيوب) فر هاربا منها في شهادة (جروح الروح) ولم يترك لها فرصة ولا حتى لتمس كتفه، ومرة أخرى هذا هو الفارق بين الحديث بلسان الاخرين (الرواية) والحديث بلسان الذات (الشهادة) .. فحين كان الاستطراد يأتي بذكرها في شهادة (جروح الروح)، كان يورد اعتذارات لا تعذره، مثل قوله: " قصة حياتي مع المرأة لا يمكن أن أحكيها هنا". أو قوله : " وأرجو قبول اعتذاري عن الدخول في أكثر من ذلك عن علاقتي بهذا الكائن الاسطوري". أو حتى قوله: " لن أتحدث عن الحب .. ولكني أريد أن أتحدث عن الاصدقاء والزملاء".
هل كان بدر الديب يحتاج لمن يقول له ان المرأة والحب في الحديث عن الروح وجروحها، أكثر أهمية بما لا يقاس من وضع المكتبات والجامعات والسوبرماركتات.
آخر دعواي، ان أحد الجروح الحقيقية لروح بدر الديب، يكمن في رواية (أوراق زمردة أيوب) المفرطة في الحس والحساسية والجمال، لانها كشفت عن انطوائه على انوثة كاملة في الشعور والوعي والادراك، ولا يخفى حرج ذلك في معظم الثقافات الانسانية التي قامت على ما يمكن وصفه بالقمع المزدوج: من جهة لانوثة الرجل، ومن جهة أخرى لذكورة المرأة، مع ان الانوثة والذكورة خصيصتان طبيعيتان تتجاوران في كل انسان.
ظاهريا، كان بدر الديب في تلك الرواية، هو المبدع الذي يخسف الى الارض السابعة بالنظرية البليدة التي تقسم الابداع ما بين رجالي ونسائي، مثلما تقسم الجوارب والكرافتات والعطور، ولكنه في الباطن كان امرأة مرهفة حتى أطراف أصابعه، وان رأى فحل من ضيقي الافق ان في هذا التشبيه مني انتقاص لبدر الديب، فهو في اعتباري مدح لا أوزعه كل يوم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟


.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط