الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفساد في العراق (الحلقة السادسة، وهي الأخيرة)(1)

محمد علي زيني

2010 / 10 / 17
الادارة و الاقتصاد


«أنا أريد فساداً أقل، أو فرصة
أكبر لكي أساهم بذلك الفساد»
«أشلي بريليانت»

تستر على الفساد
قبل أن ننتهي من هذه السلسلة عن الفساد في العراق لابد لنا من التعليق على أمر مثير للدهشة والاستغراب حقاً، أصدره رئيس مجلس الوزراء، وهو العفو العام الذي شمل الآلاف من الموظفين المتهمين بالفساد. فخلال مؤتمر صحفي عقده القاضي رحيم العكيلي، رئيس هيئة النزاهة، في 27 أيار (مايو) 2009، بمناسبة تقديم الهيئة تقريرها لعام 2008 إلى مجلس النواب، قال العكيلي أن العفو العام الذي أصدره رئيس الوزراء شمل نحو ثلاثة آلاف موظف متهم بالفساد، وأن هذا العفو لا زال ساري المفعول ويشمل الكثير من الدعاوي.
نحن نعلم أن هيئة النزاهة (المفوضية العامة للنزاهة سابقا) صدر أمر إنشائها عن سلطة الائتلاف المؤقتة، وجاء ضمن أمر الإنشاء المرقم 55 والمؤرخ في 27/1/2004 ما يلي:
(1) الهيئة جهاز حكومي منفصل ومستقل.
(2) يتم تعيين رئيس الهيئة حسب الخطوات الثلاث التالية: (أ) يرشح مجلس القضاة ثلاثة أشخاص، (ب) يقوم رئيس العراق التنفيذي (يعني رئيس الوزراء) بتعيين واحد من الثلاثة حسب اختياره، (ج) يتطلب لنفاذ التعيين مصادقة أغلبية الهيئة الوطنية التشريعية (يعني مجلس النواب).
(3) الهيئة هي السلطة الوحيدة المخولة بالتصرف في قضايا الفساد.
(4) للهيئة سلطة التحقيق بقضايا الفساد التي تحدث، وكذلك التي حدثت بالماضي منذ 17/7/1968.
(5) للهيئة سلطة إحالة أية قضية فساد إلى حاكم التحقيق مع بقاء الهيئة بعد الإحالة طرفاً فيها.
(6) للهيئة كامل السلطة، وفي أي وقت، أن تتولى لوحدها قضية فساد محالة إلى حاكم التحقيق، حيث يتوجب في هذه الحالة على الأخير تسليم ملف القضية بكامله فوراً إلى الهيئة مع التعاون معها وإعلامها بكل شيء عن القضية والتوقف عن التحقيق فيها.
يتبين مما جاء أعلاه أن هيئة النزاهة جهاز مستقل، وإن مسألة تعيين رئيس الهيئة تتكون من سلسلة ذات ثلاث حلقات أحدها رئيس الوزراء، أي أن ثلثي سلطة تعيين رئيس الهيئة تكمن في السلطة القضائية والسلطة التشريعية ولا يصبح أمر رئيس الوزراء بالتعيين نافذاً ما لم يصادق على الأمر مجلس النواب. أخيراً، وهذا هو بيت القصيد، فإن هيئة النزاهة هي الجهاز الوحيد بالعراق المخول بالتصرف في قضايا الفساد. أضف الى ذلك أن هيئة النزاهة تخضع لرقابة مجلس النواب فقط، وذلك بموجب مادة الدستور العراقي رقم 100.
ومن هنا يحق السؤال: من أين جاءت السلطة لرئيس مجلس الوزراء نوري المالكي ليصدر عفواً شمل لغاية الوقت الحاضر ثلاثة آلاف موظف متهم بالفساد، و"الحبل على الجرّار" كما يقول المثل العراقي الشائع؟ لقد دقق كاتب هذه السطور في صلاحيات رئيس مجلس الوزراء الدستورية ولم يجد ضمن أي منها صلاحية العفو عن موظفي الدولة المتهمين بالفساد. إن كل الذي يملكه رئيس مجلس الوزراء بهذا الخصوص هو تقديم توصية الى رئيس الجمهورية بأصدار العفو الخاص، ولكن هذا العفو لا يشمل المحكومين بارتكاب الجرائم الدولية والأرهاب والفساد المالي والأداري والحق الخاص، وذلك بموجب المادة الدستورية (71أ) المنصوص عليها ضمن صلاحيات رئيس الجمهورية، وهي كما يلي:
"إصدار العفو الخاص بتوصية من رئيس مجلس الوزراء باستثناء المحكومين بارتكاب الجرائم الدولية والأرهاب والفساد المالي والأداري والحق الخاص".
ذلك من جهة، ومن جهة أخرى قام مجلس النواب بإصدار قانون يقضي بعدم إمكان إحالة الموظف المتهم بالفساد إلى القضاء إلاّ بعد موافقة الوزير! ونتج عن ذلك القانون أن ماطل وزراء بإعطاء الموافقة لحين هروب الموظف المطلوب إلى خارج العراق. ونتج عن ذلك القانون أيضاً، كما ذكر القاضي رحيم العكيلي في مؤتمره الصحفي المشار إليه أعلاه، إيقاف الإجراءات القانونية بحق 70 موظفاً في وزارات مختلفة بسبب عدم الحصول على موافقات الوزراء المعنيين وفق الصلاحيات الممنوحة لهم، وكان ذلك لسنة 2008 فقط ولا زال"الحبل على الجرّار" أيضاً؟
نريد أن نعرف، كما يريد الشعب أن يعرف بالتأكيد، أي مسوغ قانوني أو أخلاقي سمح لهؤلاء السادة – كبار موظفي الدولة – أن يُصدروا هكذا أوامر وقوانين؟ كيف تمكن مجلس النواب من تشريع قانون يلغي صلاحيات قضائية ممنوحة لهيئة النزاهة ثم ينقلها إلى السلطة التنفيذية (أي إلى الوزير)؟ وأين إذن هي دستورية القوانين؟ وبموجب أي سلطة تمكن رئيس مجلس الوزراء من إصدار أمر بالعفو عن الآلاف من قضايا الفساد، في حين أن هيئة النزاهة هي الجهة الوحيدة في الدولة التي تملك سلطة التصرف بقضايا الفساد؟ ثم إن سلطة العفو عن المحكومين التي يملكها رئيس الدولة أو رئيس السلطة التنفيذية تقيد ممارساتها نوازع الوجدان والضمير والمصالح النهائية للدولة والشعب، فأين هي المصالح النهائية للدولة والشعب فيما جرى ويجري بشأن تعقب ومقاضاة حالات الفساد التي نزلت بالعراق إلى الحضيض بين دول العالم وأدت إلى خسائر عشرات مليارات الدولارات من أموال الشعب العراقي وهو بأمس الحاجة لها؟ وحتى في حالة إصدار عفو عن محكومين يقع ضمن صلاحيات رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء، يُستثنى من العفو عادة في مثل هذه الحالات، الجرائم المخلة بالشرف ومنها جرائم الفساد، فهل نحن أمام حالة تواطؤ جماعي تمارسه الحكومة، بتسهيل من المحاصصة وبسببها، لحماية الفاسدين؟
أخيرا،ً شاهدنا السيد رئيس الوزراء في إحدى مقابلاته التلفزيونية يدعي بأنه أصدر ذلك العفو باعتباره أحد الإجراءات التي تطلبتها المصالحة الوطنية. فأين هي المصالحة الوطنية، وبين من ومن جرت تلك المصالحة المزعومة، وما هي آثارها، وأين نتائجها، ولماذا تتطلب المصالحة العفو عن الفاسدين والمفسدين وهم ضمن جهاز الدولة ومن موظفيها الكبار على أية حال، وهل الذي جرى هو حقاً مصالحة وطنية؟

خاتمة(2)
حدث في سنة 2005، خلال عمل كاتب هذه السطور في لندن، أن وزير داخلية بريطانيا السابق دايفيد بلانكيت استقال من منصبه على أثر افتضاح أمره بكونه ساعد خادمة عشيقته في حصولها على إجازة عمل وبقائها في ذلك البلد. وقد استقال ذلك الوزير قائلاً في معرض استقالته انه بعمله ذاك قد خان الأمانة التي سلّمها له الشعب. كما لاحظ كاتب هذه السطور عندما كان عمله في أمريكا أن مجلس الشيوخ الأمريكي يرفض تعيين الشخص المرشح لمنصب مهم، إذا كان في سجله ما يشير إلى وجود تضارب في المصالح أو احتمال الإخلال بالأمانة حين تأدية الواجب. وشاهد الكاتب أيضاً الزوبعة الكبرى التي ثارت ببريطانيا خلال الثلاث سنوات الماضية إثر قيام بعض النواب في مجلس العموم البريطاني بتقاضي بعض المخصصات التي يمكن وصفها من حيث الاستحقاق بكونها "بين بين" ولا يمكن تبريرها بسهولة، وكيف أن أولئك النواب أعادوا إلى الخزينة ما تقاضوه من ذلك النوع من المخصصات (وهي ضئيلة جداً "أو نقطة في بحر" قياساً بحجم الفساد المالي الذي جرى ويجري في العراق، علماً أن الرواتب الشهرية والمخصصات التي يتقاضاها النواب البريطانيون لا تتجاوز ربع ما يتقاضاه النواب العراقيون، ناهيك عن ارتفاع كلفة العيش ببريطانيا ودفع ضرائب لا تقارن مع مثيلاتها بالعراق)، ثم كيف أنهم اضطُرّوا للاستقالة من مناصبهم الحكومية وتخلت عنهم أحزابهم، ثم أصبح أكيداًعدم إمكان فوزهم في حالة ترشيحهم للانتخابات النيابية مرة أخرى، وهذا ما حصل.
لقد أثار عمل الوزير البريطاني والإجراءات التي اتُّخذت بحق أولئك النواب الشجون في نفس كاتب هذه السطور، فتذكر الحالة في بلده بعد قيام سلطة التحالف بتنصيب مجلس الحكم المؤقت، الذي قام بدوره بتعيين وزراء عراقيين للمرة الأولى بعد سقوط النظام. لقد تسلم هؤلاء أهم أمانة يمكن أن يتسلمها مسؤول، وهي إدارة شؤون البلاد. وبدلاً من معالجة الخراب وتضميد الجراح، توجه العديد من هؤلاء لتقاسم الغنائم، فأصبحت الوظائف الحكومية تُعطى للأعوان، والبضائع التي كانت تحتكر الدولة استيرادها – وهي مدعومة الأسعار – توزع على من يملك أمراً من حزب أو توصية من عضو في مجلس الحكم، والمقاولات لإعادة البناء أو توفير الخدمات أو تجهيز المواد ترسو على الأقارب والأصدقاء والمتنفذين الجدد وعلى من يدفع الرشى، كما أضحى المال العام فريسة سهلة تنهش منها الضباع. ثم استمرت الحال (النكبة) على هذا المنوال – ولربما بصيغة أشد وأوقح – خلال ثلاث وزارات تلت مجلس الحكم.
إنّ المسألة التي نتعرض لها في هذه السطور لا تقع في دائرة الأخلاق فحسب، وإنما تقع أيضاً في صميم الاقتصاد. ذلك أن نظام صدام حسين خرّب اقتصاد البلاد وعاث في الأرض فساداً. وكان المفروض بمن يأتي بعد سقوط النظام أن يكون المثال، ليس فقط في رقي الأخلاق، ولكن أيضاً في التفاني في تقويم الأداء الحكومي المعوّج والشروع بإعادة البناء بعد خراب دام طويلاً، وتوفير الخدمات الأساسية التي غابت عن تناول الناس، والقضاء على الفساد الذي تفشى في مفاصل الحكومة وأوصالها. على أن الذي حدث، لشديد الأسف، هو العكس في كثير من الأحيان. إذ قام العديد من المسؤولين – اللامسؤولين - بارتكاب الأخطاء نفسها التي ارتكبها النظام السابق، بل زادوها بكثير. وبذلك ساهموا في صب الزيت على النار بدلاً من إطفائها ورش الملح على الجراح بدلاً من تضميدها.
بعد كل الذي حصل من أخفاقات وخيبة أمل ومآسي، أصبح الشعب العراقي يتحرق الى وضع يتسلم فيه السلطات الثلاث أناس أمناء وأكفاء، همهم إعادة البناء بعد خراب شامل أصاب حياة الشعب العراقي بكل وجوهها. وقد واتته الفرصة لذلك في انتخابات المجلس النيابي التي جرت في آذار من هذه السنة. ولكن الذي حصل يبدو لحد الآن أدهى وأمر. فرغم مرور سبعة شهور على إجراء الأنتخابات لم يتمكن المجلس المنتخب حتى من تنفيذ الخطوات الدستورية المطلوبة والتي تتضمن تعيين رئيس مجلس النواب ورئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء رغم أن الدستور قد نصّ على أيام معدودة ومحددة لكل خطوة. أن سبب الفشل في تنفيذ الخطوات الدستورية المطلوبة، والذي أصبح واضحاً للقاصي والداني، هو التكالب على المناصب بين الكتل السياسية وخلافاتها وجدلها الذي لا ينتهي. لقد كان على الكتل الكبرى الفائزة، حال المصادقة على نتائج الأنتخابات، أن تفكر بأن مرحلة العراق الحاضرة لن تستقيم مع تمدد هذه الفئة أو تلك على كراسي الحكم، وإنما تستقيم حين تقوم فئة بتسلم قيادة السلطة التنفيذية في حين تقوم الأخرى بقيادة المعارضة في مجلس النواب. بمعنى آخر، أن الوقت هو ليس وقت التنعّم في السلطة وإنما هو وقت بناء بلد تتوافق خلاله الفئات السياسية على خلق ثقافة لتداول السلطة سلمياً وبناء صرح ديمقراطي حقيقي في الحكم. ولكن هذا يتطلب رجالاً أنكروا مصالحهم الشخصية ونذروا أنفسهم لخدمة الصالح العام، فهل يمكن أن يقال هذا في السياسيين العراقيين حالياً؟
أخيراً، وعَوداً على الفساد الرهيب في العراق، ينبغي التوكيد أن الشعب العراقي يطمع بهيئة نزاهة مستقلة بصدق، وتعمل بدون كلل وبكل إخلاص، لتقصّي الحقائق وكشف الفساد والفاسدين، وأن تحيل إلى القضاء جميع الذين مارسوا الفساد منذ سقوط النظام ولغاية الوقت الحاضر، حتى ولو هرب هؤلاء إلى أقاصي الأرض. إن الشعب العراقي كان يتطلع، بعد سقوط نظام صدام، إلى سلطات نزيهة تقطع دابر الفساد الذي مارسه ذلك النظام، لا أن تحذو حذوه ثم تفوقه فساداً. ختاماً، فإن المسؤول العراقي الذي جاء بعد سقوط النظام ليفسد يعتبر مذنباً مرتين، مرة بسبب الفساد ومرة أخرى بسبب خيانته للشعب بارتدائه – زوراً وبهتاناً – لبوس الوطنية والصلاح(3).

(1) هذا المقال مقتبس مع بعض التحوير من كتاب الدكتور محمد علي زيني "الأقتصاد العراقي: الماضي والحاضر وخيارات المستقبل"، الطبعة الثالثة 2010. يمكن تنزيل الكتاب كاملاً من الموقع:
www.muhammadalizainy.com
(2) هذه الخاتمة هي جزء محور من مقالة سابقة نُشرت للكاتب في جريدة الحياة بتأريخ 23/6/2005 بعنوان "متى نحترم الأمانة؟".
(3) نود التنويه هنا أن الحلقات الست عن موضوع الفساد بالعراق - في حالة حاجة القراء الكرام لأي منها - منشورة على الأنترنت في الموقع الفرعي للدكتور محمد علي زيني في الحوار المتمدن بالعنوان التالي:
http://www.ahewar.org/m.asp?i=3340








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - على دولة القانون والعراقية والائتلاف التنحي ع
محمود الفرج ( 2010 / 10 / 17 - 23:07 )
شكرا للاستاذ محمد علي زيني
سلسلة من المقالات التي تمس الفرد العراقي في الصميم اذا تجاوزنا الجانب الاخلاقي للسياسيين العراقيين وتركنا دماء الشهداء وسرقات البنوك والجرائم والتي تحولت كلها ضد مجهول وغلق المحضر لاباْس ولكن افات الفساد ومجرميه من له مصلحة في غض الطرف عنهم والتستر عليهم هل جاءت فقرات الدستور عن فراغ ام ان الفساد جريمة من الجرائم التي تقتل الشعوب ان السيد المالكي في قراره العفو عن المفسدين تدخل فاضح في من اجل تحجيم النزاهه في العراق والاخوة في حزب الدعوة على علم بما يحدث فاغلب المفسدين من قائمة (555) عام 2005 ليختلفوا على المال ويتفرقوا في عام 2010 والسيدة القائمة العراقية ايضا لها الحصة مما فضل الفساد عليها ليتم الاتفاق استر على سرقاتي واستر على سرقاتك وليستمر الفساد باعلان السيد المالكي بالعفو بحجة المصالحه ومع من المصالحه
فان كان هناك وطني فاليرفع صوته ضد الفساد حتى ضد رئيس حزبه
وان كان هناك سراق فاليتستروا على سراقهم ورئيس حزبهم
وشكرا للسيد الكاتب 

اخر الافلام

.. بلومبرغ: تركيا تعلق التبادل التجاري مع إسرائيل


.. أبو راقية حقق الذهبية.. وحش مصر اللي حدد مصير المنتخب ?? قده




.. مين هو البطل الذهبي عبد الرحمن اللي شرفنا كلنا بالميدالية ال


.. العالم الليلة | -فض الاعتصامات- رفض للعنف واستمتاع بالتفريق.




.. محمد رفعت: الاقتصاد المعرفي بيطلعنا من دايرة العمل التقليدي