الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عودة الأنوار - قصة قصيرة

محمد بقوح

2010 / 10 / 19
الادب والفن


(.. مدينة الدشيرة تغيرت كثيرا ، و لم تعد كما كانت في سنوات خلت .. صامتة .. هادئة و خضراء ..). هذا ما فكر فيه ، و هو في طريقه إلى "المارشي" .. ثم تدارك .. (هذا أمر طبيعي .. التطور و التغير سنة الحياة) . . لكن رغم هذا التغير السريع ، الذي عرفته مدينته ، فهي لم تفقد جماليتها المنبعثة من رائحة الدكاكين الصغيرة ، الموجودة على جانبي الطريق الرئيسي .. و السنوات الطويلة و الصعبة ، في كثير من الأحيان ، لم تنل من شوارعها .. و جدرانها .. و كذلك من بعض أشخاصها ..، إلا بصورة أقل مما كان يتصور ، قبل أن يجمع لوازمه في حقيبته الجلدية ، في بلاد الأنوار كما يسميها : بلاد الغربة و العجب ، و يعود متلهفا حتى النخاع ، إلى وطنه و بلدته ..، لكن كما سافر منها ، من مدينته ، في ذلك اليوم المشئوم ، عاد إليها خاوي الوفاض .. هذه المدينة التي كانت في ذلك الزمن الغابر، عبارة عن قرية غارقة في بدويتها ، تتخللها حقول فلاحية ، تخترقها السواقي الجارية و الباردة ..، حيث تعلم الدروس الأولى للسباحة ، مع ثلة من رفاقه المشاغبين أنذاك..، قبل أن يكتشف أمواج البحر الواسعة .. بعملية الأوتوستوب ..

لحسن حظه يملك اليوم دراجة هوائية ، لا يوجد في حيه أصلب منها .. رحم الله أبوه الحاج الحسن التاجر ، الذي زار الديار المقدسة مشيا على الأقدام ، و عندما رجع من بلاد الحج ..، لم يرجع خاوي الوفاض ، كما رجع الآن ابنه البكر السيد عمر ، و بعد "مضي سنتين بالتمام و الكمال – يحكي ل"حجام" الحومة – (استطاع المرحوم أبي أن يجمع ثروة كبيرة ، وأن يبدأ حياة تجارية نشيطة نال منها أرباحا لا تحصى .. لكن أين هو العقل ؟؟، لو فكر جيدا في ذلك الزمن .. لاشترى الدشيرة بترابها و حقولها ، و بنواعرها وأشجارها و طيورها ، و أبقارها و جمالها .. هذه كلها ، التي لم يعد لها وجود اليوم ، في حياة هذه المدينة المليئة بالضجيج و الثرثرة ..).

نزل من دراجته ، بحذر شديد ، ثم أسندها بلطف إلى قضيب فولاذي مشدود إلى الأرض في الجانبين .. الحركة في السوق ككل يوم تكاد لا تتوقف ..، ازدحام الأجساد عند مدخل الباب الوحيد لهذا السوق ( يطلقون عليها السويقة بالتأنيث ، ربما نظرا لصغر مساحتها ، رغم أنها تستقبل من الزوار ما لايمكن تخيله أو تصوره ) ، و هي السويقة الوحيدة في المنطقة كلها . بل باتت أنشطتها التجارية مؤخرا تمتد حتى إلى خارج أسوار السويقة ، التي لم تعد أرضيتها الموسخة ، تكفي لجماهير السكان الذين يحجون إليها كل يوم .. أما خارجها فعالم آخر يطول الحديث عنه .. لهذا فالكثير من العربات تتسابق على أحسن المواقع لعرض سلعها ، و كذلك تفعل بعض الكائنات الآدمية الأخرى .. فتصطف .. أو تذهب و تجيء .. ، كما تصطف العربات المختلفة الأشكال و الأنواع هنا و هناك .. تبحث عن القوت و لقمة المساء بأية وسيلة قبل فوات الأوان ، و هجمة الظلام الذي لا يرحم . . الجميع هنا يلف و يجول في هذه السويقة المشهورة بشعبيتها ، قبل إشراقة الشمس في صباح الغد ، الذي تستريح معه السويقة و الساحة الجميلة المجاورة لها من ثقل و ازدحام الأجساد و ضجيج الأصوات و صراخ الباعة ، قبل العودة السريعة لوجه المساء و الظلام ، لتبدأ حكاية الخفافيش و بحثهم الدائم عن القوت و السمر ..

وضع السيد عمر- هذا هو الاسم الذي عرف به في حيه منذ عودته غير المتوقعة - القفل الأول حول العجلة الأمامية ، بحيث أحكم ربطها بالقضيب الحديدي ، في حين وضع القفل الثاني حول العجلة الخلفية ، التي يعتبرها صاحبنا أهم جزء في الدراجة " لأنه هو الذي يتحمل ثقل الجسد كله " .

إذا بدأ يحدثك عن عالم الدراجات و السباقات التي فاز فيها ، قبل أن يسافر ، أو خلال السنوات الأولى التي قضاها هناك ، في ديار الروم - كما يسميها - و كذلك الأخرى التي فشل في كسبها أيام عنفوان الشباب - كما يقول - فاعلم أنه لن يسكت إلا بعد سماعه للآذان الموالي .. و كثيرا ما كان يجمع حوله الراغب في تحليق الشعر ، و القاطن بالقرب من "الحجام" الحسين ، خاصة منهم المسنين الذين يكونون ، في وقت من الأوقات ، قد ملوا من لعبة "الضاما" ، و عندما يسمعون لصوت السيد عمر يتدفق ، كشلال ضائع يخترق أجواء فضاء "الدكان" ، ينهض أحدهم فيقول للمتحلّقين حول رقعة "الضاما": (توقفوا عن اللعب ، لقد حان وقت الاستماع لمذياع الدشيرة ..) . فيبدأ الصبي الذي يساعد الحجام في جمع "بيادق الضاما" ، ليضعها داخل علبة من خشب الأركان ، فيخرج الجميع منشرحا من الغرفة الضيقة ، المخصصة أصلا للعب و تدخين "الشقوفا" .. ، و شرب كؤوس الشاي "المشحّر" ..، لتبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة في يوم عادي و قديم .. الجميع يعرف نهايته كيف ستكون .. حديث و حكي ، ثم حكايات .. و ضحك فتعليق ، و أحيان نقاش فجدل حول موضوع أقل من تافه .. ثم ضحك فضحك .. فسخرية ثم إغراق في الضحك ..، و أحيان يسمع التصفيق .. فيعود صاحبنا في نهاية المساء ،على متن دراجته الفريدة ، ذات الإطار المعدني الصلب ، هذه الدراجة التي لا يعرف إلا بها في دروب حيه .. و "قفة" أغراض "المارشي" خلفه ، في ما يشبه صندوق خشبي عميق ، ربما لن تجد نسخة منه في جميع الأسواق ، و لدى كل الحرفيين مهما صلت و جلت .. صندوق مصمم خصيصا لدراجة بّا عمر ، و حمل أغراضه .. هو دون غيره ..

و حين يصل صاحبنا إلى رأس "الدريبة" ، ينزل من دراجته ، التي لا لون لها سوى لونه هو ، على بعد العشرات من الأمتار من حيث يقيم . يمشي واثقا من نفسه كالجمل ، ليقول مؤكدا للجميع أنه ما يزال قويا .. و سيعيش أكثر من هذا الشباب الطائش ، و الذي لم يذق طعم الحياة الحقيقية .. لسوء حظه .. غش .. ، و مسخ .. و تزوير.. و هلمّ جرا .. يجد نفسه مارا وسط حشد من أطفال الحي ، الذين يلعبون بكرة صغيرة ، و عندما يشعرون به قادما ، يكفون عن اللعب ، و يتقدمهم الأشطر منهم ، فيحاول استفزاز حفيظة بّا عمر .. الذي هو في الأصل لا يحتك بالأطفال ، و لم يسبق له أن فكر في أن يتزوج ، رغم أنه تجاوز الستين في عمره .. وحين يفتح معه أحدهم موضوع الزواج ، يرد عليه بسرعة و بداهة : ( أعوذ بالله .. المرأة قيد لحريتي ، و لعلنة لمن طلبها .. أنا جد مرتاح هكذا حر طليق كالفراشة .. ) . يتدخل أحد الأطفال مستفزا بّاعمر ، قائلا :
- آه .. مسيو عمر .. كيف حالك .. أعطني دراجتك أجربها ، وأعطيك هذه الكرة ..
و قبل أن يجيب صاحبنا الصبي المشاكس ، يتابع صبي آخر ما قال رفيقه بنوع من السخرية الواضحة ..
- واهلي .. اطلب من مسيو عمر أن يعطيك عينه الثانية ، و لا تحدثه عن دراجته ، هي بمثابة زوجته ، لقد ورثها عن أبيه .. إنها قرة عينه ..
و قبل أن ينهي الصبي كلامه ، يدع صاحبنا دراجته تسقط على قارعة الطريق المزفت ، دون شعور منه ، و يجري كالحصان و بشكل طفولي ، مطاردا الأطفال الذين أغضبوه باستفزازهم لمشاعره .. و كثيرا ما تكرر مشهد سقوطه على الرصيف كلما هم بالجري وراء صبيان الحي ، للقبض و لو على الواحد منهم لمعاقبته .. لكن يكون جريه دائما بدون جدوى .. ليعود إلى مكان وقوع الدراجة مزمجرا و غاضبا ، لكن رأسه مرفوعة إلى فوق . فيحمل برفق دراجته و هو يشتمهم و يسب "طاسلتهم" محملا مسئولية ما وقع لآبائهم قائلا :"ينجبون كالأرانب دون السهر على تربيتهم".
يمضي بّا عمر إلى سبيله ، و يده اليمنى ممسكة بمقود الدراجة الغريب في شكله ، و الذي يسبب له الكثير من المتاعب مع الناس ، و خاصة الصبيان .."لأنه مقود مثير للسخرية و الضحك في نفس الوقت " ، كما قال أحد جلساءه ذات يوم (.. مقود شبيه بقرني كبش مسن ..).

هذه الدراجة في الحقيقة تمثل الإرث الوحيد - و يسميه بّا عمر الكنز الثمين - الذي انتقل إليه من أبيه ، الحاج الحسين، الذي أفلست تجارته في آخر أيامه . أما ابنه الوحيد عمر ، فقد كان حينئذ كالنحلة ..، يستمتع بزهرات زينة الحياة ، و كان مولعا أكثر بالنساء الشقراوات ، و الأنواع الغالية من النبيذ الأحمر .. و لعبة اللوطو، التي أنهت مع ما تبقى من أجنحته الطويلة و قوة فحولته الشبابية .. حتى في موت أبيه ، لم يمهله الزمن لمصافحته و توديعه .. و لا حتى حضور جنازته . أزيد من أربعين سنة قضاها متسكعا و مستمتعا بسحر الحياة ، و جمال الطبيعة و بهاء و عبقرية العالم الغربي الراقي .. عالم الدهشة و الأنوار.. حسب تعبيره ، إلا أنه بقي أمام هذا العالم ، منذ وصوله في أول يوم إلى باريس ، و حتى اليوم الذي لفظته حروف أهرامها الزجاجية .. عاريا حتى من اسمه و هويته ..، بقي مشدودا و مستغربا و مندهشا .. أمام ما رأت عيناه ، و ما سمعت أذناه ، و ما ذاق لسانه ، و ما لمست يداه من أجساد و أشياء أخرى .. و هلمّ جرا.
و عندما عاد .. عاد منكسرا و منهارا. و كأنه طعنته يد الزمن من خلف ظهره .. بّا عمر يبدو اليوم أشيب الرأس ، لكن لايزال يتمتع بصلابة الجسم و قوة اللسان .. سنوات فرنسا الآن باتت من أطلال الذكرى ، غير أنها سنوات لم تحافظ له و لو على ماء وجهه المنكمش ، و لا احترام أطفال حيه و مدينته .. كمن كان ميتا في الماضي ، و عادت إليه الحياة فجأة .. ، لكنها حياة بذوق مر .. أو كمن كان حيا داخل قبر حلم ، استيقظ منه بلا توقع ، لكن يقظتة تلك كانت متأخرة جدا ، إنها أشبه بحياة ديدان التراب .. لكن في الكثير من أحاديث الناس الآخرين ، يبدو بّا عمر كالبطل ، و أنه لم يحدث أن صرح لأحدهم أنه ندم عن المدة الطويلة ، التي قضاها هناك وراء عالم البحار الأنيق ، كما يسميه ، متنقلا بين أنوار بلدان الأنوار و الملائكة ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو يوثق اعتداء مغني الراب الأميركي ديدي على صديقته في فند


.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز جسديًا على صديقته في




.. حفيد طه حسين في حوار خاص يكشف أسرار جديدة في حياة عميد الأد


.. فنان إيطالي يقف دقيقة صمت خلال حفله دعما لفلسطين




.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز -ديدي- جسدياً على صدي