الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جدلية التداول التلفزيوني للمحاكمات الجنائية

أكرم عبدالرزاق المشهداني

2010 / 10 / 21
دراسات وابحاث قانونية


د. أكرم عبدالرزاق المشهداني
خبير في الشؤون القانونية
قرار مجلس القضاء المصري بحظر التصوير التلفزيوني لجلسات المحاكمات الجنائية اثار جدلاً كبيراً بين رجال القانون والإعلاميين، البعض يراها إخلالاً بحق المجتمع فى المعرفة بسير التحقيقات فى المحاكمات، فى حين يرى قانونيون أنه لا يجوز أن يتعامل القاضى والمحامى والشاهد داخل القاعة وكأنهم فى «تمثيلية» أو «مسرحية» تسجل وتذاع، فى حين طالب حقوقيون بضرورة رفض الفكرة من أساسها، لأن الأصل فى المحاكمات هو العلانية، ولايجوز حرمان المجتمع من حقه فى متابعة قضية معينة تكون مثار حديث فى الصحف والمجلات. فقد قرر مجلس القضاء الأعلى في مصر بالإجماع عدم السماح بنقل أو بث أو تسجيل أو إذاعة وقائع المحاكمات بواسطة أية وسيلة من وسائل الإعلام أو قيامها بتصوير هذه الوقائع أو هيئات المحاكم أو الدفاع أو الشهود أو المتهمين أثناء إجراءات تلك المحاكمات، وطالب المجلس بضرورة تجنب التناول الإعلامي بأية طريقة من طرق العلانية للدعاوى في كافة مراحل التحقيق والمحاكمة, على نحو يتضمن الإخلال بهيبة أو مقام أي من رجال القضاء أوالنيابة العامة, وإبداء مامن شأنه التأثير فيهم أو التأثير في الشهود أو الرأي العام لمصلحة طرف في المحاكمة أو التحقيق أو ضده. واكد المجلس أن قراراته بهذا الشأن تأتي تدعيما لاستقلال القضاء وكفالة مقومات موضوعيته وحيدته وصوناً لثقة الرأي العام في القضاء والقضاة وكفالة للسير الطبيعي للمحاكمات وعدم التأثير في مجرياتها بأية صورة. وأشار المجلس إلى أن هذا القرار يأتي إلتزاماً بما نهى عنه وعاقب على مخالفته قانون العقوبات من نشر أمور بإحدى طرق العلانية من شانها التأثير في القضاة أو النيابة العامة المكلفين بالتحقيق أو التأثير في الشهود أو التأثير في الرأي العام لمصلحة طرف في الدعوى أو التحقيق أو ضده، وضرورة مراعاة عدم الخوض في الدعاوى أو التعليق على مجرياتها أو الأحكام غير الباتة الصادرة فيها، وذلك من جانب الكافة بمن فيهم القضاة والمحامون وسائر السلطات والجهات وذلك كله إتقاءً لإحداث البلبلة وزعزعة ثقة الرأي العام في عدالة القضاء إذا انتهى الفصل في الدعوى إلى خلاف العقيدة التي تكوّنت لدى الرأي العام بتأثير التناول الإعلامي. وناشد مجلس القضاء الأعلى جميع السلطات والجهات ذات السلطة بالالتزام بالقرارات المذكورة بهذا الشأن امتثالا لمقتضيات الشرعية الدستورية والقانونية ولتقاليد دولية موروثة رسخت واستقرت في تاريخ القضاء المصري الشامخ على مر العصور.
أول من رحب بالقرار وزير الاعلام قائلا إنه يعيد لقاعات المحاكم قدسيتها ويحفظ للقضاء قامته ومقامه. وأكد حرص الإعلام المصرى على الالتزام بهذا القرار وتطبيقه. مضيفا أنه أعطى توجيهاته لاتحاد الإذاعة والتليفزيون بعدم تصوير أى محاكمات تجرى من الآن فصاعدا، وأكّدَ مصدر قضائي بالمجلس انه سيتم محاسبة اي قاض يخالف القرار في إشارة منه الي من وصفهم بـ " قضاة الفضائيات". وحذر المصدر اي قاض لديه "شهوة الاعلام"! من مخالفة القرار، مؤكدا في ذات الوقت علي ان القرار لا يتعارض مع حرية الصحافة كما يثير البعض وانما هو منع لتسجيل المحاكمات واذاعتها علي القنوات الفضائية او تناول القضايا المنظورة امام المحاكم بالتعليق عيها سواء قبل اصدار الاحكام فيها او بعد الحكم.
القضية الساخنة هذه اثارت جدلية حول الموازنة بين حق دستوري هو حق الحصول على المعلومات وحق الإطلاع، وحرية الصحافة والإعلام، ومبدأ علانية المحاكمات الجزائية، من جهة، وبين الإلتزام بضوابط العدالة ومنع تحوّل المحاكمات إلى مسلسلات أو مسرحيات فضائية، والتأثير على سير المحاكمات بما يخل بحقوق الأطراف. فالبعض يرى أن التصوير بكاميرات التليفزيون يؤثر على القاضى والمحامى والشاهد، الذين يهتمون بالظهور أمام الكاميرا بمظهر حسن، بدلا من أن يكون تركيز الجميع فى الدعوى المنظورة أمام القضاء لتحقيق العدالة، والبحث فى القضية. فالتصوير داخل المحكمة، في ظل العدد الهائل من الفضائيات المصرية والأجنبية اليوم، يؤثر على تصرفات الجميع، فيهتم البعض بمشهده أمام الكاميرة، وينشغل بضبط مظهره، أكثر من إهتمامه مثلا بالدفاع عن المتهم!!، وهناك من يحتج بأن منع التصوير ريخل بمبدأ علانية المحاكمة، لأن بإمكان أي صحفي أن يحضر جلسة المرافعة مثل أي مواطن آخر، ويستطيع أن يدون ما يجري فيها، ولكن لا يجوز أن تتعامل وسائل الإعلام مع قضايا المحاكم على أنها «تمثيليات» يتم تسجيلها لتذاع من أجل الإثارة الإعلامية أو السبق الصحفي!!.. كما أن التصوير وكثرة الكامرات والإنارة المبالغ فيها، كلها أمور قد تؤثر على القضية، فتتحول ساحة المحكمة إلى مسرح مفتوح!!، وربمل يخل التصوير بنظام العدالة وضبط الجلسات، ويكون له تأثير على القضاة الذين لا يأخذون راحتهم فى البحث والتدقيق فى الدعوى، والأمر الأخطر في الموضوع هو أن تتدخل وسائل الإعلام لتكوين القناعة العامة بحكم أو قضاء في القضية غير ما يصل إليه القاضي!!. إن القضايا الجنائية وأوضح أن القضايا الجنائية تحتاج إلى حالة من الهدوء حتى يستطيع القاضي أن يركز في تفاصيل القضية والجلسة سواء بداخل الجلسة أو خارجها وإن حصل عكس ذلك قد يشتت القاضي.
إن قضية تصوير المحاكمات تلفزيونيا أو إعلامياً مسألة ما زالت تثير جدالا بين مؤيد ومعارض، والبعض يحتج بأنه في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ودول أخرى يمنع دخول الكامرات والإعلام إلى قاعات المحاكمة لذلك تسعين القنوات ووسائل الإعلام هناك برسامين يرسمون صور المحكمة والمتهمين، وهناك دول وضعت ضوابط وآليات، كما شهدنا في محاكمات مسؤولي النظام العراقي السابق حيث توضع كامرة واحدة من جهة مركزية تقوم بالتصوير ولايتم البث إلا بعد مراجعة التسجيل ويكون للمحكمة سلطة القرار في المشاهد الجائز عرضها وما يحجب عن العرض.
إن الأصل المتفق عليه دوليا أن تكون المحاكمات علنية، لكن العلانية لاتعني (علانية المداولات)، بل تعني أن يفسح المجال لكل من يود حضور جلسة المحاكمة وفق المتسع من المقاعد، ويحق لرئيس المحكمة ان يحول الجلسة الى سرية، فالعلانية عليها قيود حين تمس القضية بالأمن العام للدولة (الأمن القومي)، أو إحتوائها معلومات عسكرية خطيرة، أو حين تمس الدعوى قضايا عائلية شخصية. فهنا يقف حق العلانية وتخضع المحالكمة للسرية. على أن جلسة النطق بالحكم يجب أن تكون علنية وهذا مانصت عليه قوانين كثيرة منها المصري والقطري.
لا ننكر أن وجود الكاميرات والضجيج الإعلامى والصخب الذى يصاحب بعض المحاكمات قد يؤثر على المناخ الذى يتخذ فيه القرار. وأن من حق القاضى أن يحيط الإعلام بنتائج المحاكمة، ولكن فى نفس الوقت لا يجوز أن يتحول القضاة إلى «نجوم شاشة». إن حق الجمهور في المعلومات، حق دستوري، ولكن الحق ليس مطلقا بل محكوم بضوابط وآليات تحمي الأسرار الهامة، كما أن العمل القضائي يستلزم الحفاظ على هيبة المحكمة والقضاة، وعدم التأثير على سير المحاكمات، ويجب أن نميّز بين منع (جلبة) الكاميرات من ساحة المحكمة، وبين حق الإعلاميين في حضور جلسات المحاكمة بدون ضجيج ماكناتهم، وأن قرار منع تصوير المحاكمات مطبق في العديد من البلدان كما قلنا مثل أمريكا، حيث لا تجوز قوانين الكثير من الولايات لوسائل الإعلام تصوير وقائع المحاكمات، حفاظاً على مشاعر أسر المتهمين أو الضحايا، التى تتناقلها وسائل الإعلام ويمكن من خلالها التأثير على الرأى العام. إن العملية هي عملية موازنة وترجيح وليست حكما مطلقا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شبح المجاعة يخيم على 282 مليون شخص وغزة في الصدارة.. تقرير ل


.. مندوب الصين بالأمم المتحدة: نحث إسرائيل على فتح جميع المعابر




.. مقررة الأمم المتحدة تحذر من تهديد السياسات الإسرائيلية لوجود


.. تعرف إلى أبرز مصادر تمويل الأونروا ومجالات إنفاقها في 2023




.. طلاب يتظاهرون أمام جامعة السوربون بباريس ضد الحرب على غزة