الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ملامح من مشاكل الاندماج في السويد (3)

خالد صبيح

2010 / 10 / 22
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة


يخطئ من يظن إن عملية دمج أفراد من مجاميع ثقافية وحضارية مختلفة في بوتقة مجتمع جديد هي عملية سلسة وسريعة، فالدمج عملية طويلة ومعقدة ومستمرة لا تنجز بلحظة محددة ولا بجيل معين.

وعملية دمج اللاجئين في المجتمع السويدي هي في الواقع عملية مركبة، فهي من ناحية تتوجه لدمج هؤلاء بالمجتمع عبر مجموعة من الآليات والإجراءات، وفي نفس الوقت، وبالتساوق مع هذا الفعل، هي عملية دمج للأجانب فيما بينهم لخلق وحدة اجتماعية متجانسة منهم. فالأجانب كما هو معروف ينحدرون من خلفيات عرقية وقومية وثقافية ودينية ومذهبية مختلفة؛ بعضها قد يتعارض مع البعض الآخر، ويعيش معه في حالة تفارق وصراع. وبما أن اغلب اللاجئين متحدرون، كما أسلفت، من مجتمعات فيها الأنظمة السياسية والقيم الاجتماعية لاتقوم على أسس ديمقراطية، وتشوبها اغلب أمراض عقل الاستبداد؛ من إقصاء وعدم قبول للآخر أو التسامح معه، وتقديم المختلف على المؤتلف، بمعنى رفض مايمكن أن يكون مشتركا، وتقديم مايثير الحساسية ويولد النفور والكراهية على مايمكن أن يجمع ويقارب. أقول ان هذا الواقع جعل عملية الدمج تواجه الكثير من الصعاب لاسيما إذا عطفنا ذلك على قلة خبرة السويد في التعامل مع ثقافات مجتمعات بعيدة عنها. فالسويد، بنأيها الجغرافي، وبغياب ارث استعماري في تاريخها، وبضعف إسهاماتها في مجالي الانثربولوجيا والاستشراق،( حسب علمي) بدت بعيدة عن إدراك الخلفيات العقلية والثقافية لمجتمعات الوافدين إليها من أراضي الشموس والامواه الدافئة.

وأخذت لهذا السبب مؤسساتها بالتعامل مع الوافدين من معايير عقليتها ومنظومتها الاجتماعية هي. لكن لاشك لدي في أن المؤسسات السويدية مدركة لأبعاد وإشكالات هذا التجاذب الثقافي الذي يسببه وجود الأجانب في مجتمعها، وهي تدرك أن عملية الدمج هي عملية مستقبلية تؤتي أُكُلها في المستقل لدى أجيال لاحقة. فكثيرا مايردد السويديون بان كسبهم الحقيقي من اللاجئ هو بأبنائه.

بيد أن الخطأ الكبير الذي ارتكبته المؤسسات السويدية في تعاملها مع واقعة دمج الأجانب، برأيي، هو بتركها هذه العملية الحيوية بيد الآلة البيروقراطية لانجازها. والعقل البيروقراطي كما هو معروف هو عقل تجزيئي ضيق الأفق مما يجعله غير مؤهل بشكل كاف على إدارة عملية بهذا القدر من الحساسية والديناميكية. ورغم إن العقل البيروقراطي ليس طليق اليد في المجتمعات الديمقراطية، وتختلف تركيبته عما هو عليه الحال في مجتمعات أخرى، إلا انه مع ذلك بقي محافظا على خصوصيته التكوينية (الأزلية) في الإدارة المتسمة بالذهنية التنميطية والقرارات الفوقية.

طريقة عمل الالة البيروقراطية هذه كرست عوامل الانفصال داخل المجتمع السويدي. فلأنها لاتنظر إلى أي حالة أو موقف أو مطلب وفق سياقه الحقيقي، وإنما من خلال مدى توافقه مع الشروط الإدارية الشكلية، خلقت بهذا الظروف لتحويل مايتمتع به ويتيحه المجتمع السويدي وقوانينه من ممكنات للتعبير عن القيم الثقافية أو الفردية إلى عناصر تحرض وتساعد على التقوقع والانغلاق.

كيف؟

في قوانين السويد يحق لأي مجموعة تجد لها مشتركات في الاهتمام أو التطلع أن تنشئ إطارها التنظيمي الملائم لها والخاص بها. واستثمر الأجانب هذا القانون خير استثمار ( وظفت فيه مصالح شخصية كثيرة ليس مكان ولا أوان كشفها ومناقشتها هنا وألان) فانشأوا جمعياتهم وأنديتهم الاجتماعية والثقافية. لكن العيب كمن في أن هذه الجمعيات والأندية الثقافية تشكلت بأطر ضيقة ومحدودة، قومية ودينية وطائفية، وليس على أساس وطني، وهو الإطار الأمثل برأيي، مما جعلها تتحول إلى بؤر استقطاب وعزل تعزل المنتمين إليها عن بقية أبناء وطنهم وعن المجتمع السويدي في نفس الوقت.

وإذا أخذنا الحالة العراقية على سبيل المثال نلاحظ إن الأندية والجمعيات تشكلت على أساس التوزع القومي والديني والمذهبي؛ فللمسيحيين أنديتهم وجمعياتهم وهذه انقسمت بدورها إلى أندية كلدانية وأخرى آشورية وثالثة وسريانية، وكذلك انقسم المسلمون على أسس مذهبية، سنية وشيعية، وتوزعوا على الحسينيات والمساجد والجمعيات الدينية الكثيرة، وكذلك هو حال الصابئة وغيرهم. ورافق هذا الانقسام انقسام آخر أيدلوجي الطابع، فمجاميع اليسار استحوذت على أماكن معينة،وحرمت من يختلف معها، حتى ممن هم من نفس الأرضية، من مشاركتها المكان، بينما انتحى الآخرون ( ولنسمهم يمينيين!!) وشكلوا لأنفسهم جمعيات بديلة. والغريب إن الإطار العراقي الوحيد غير المنتمي لقومية أو دين هو الأقل حظا من ناحية الفعالية الاجتماعية وسعة دائرة الملتفين حوله، وقد استحوذ عليه لون سياسي وحيد مما جعل فعاليته محدودة إن لم اقل منعدمة.

وهكذا تحولت في ظل هكذا وضع الكنائس والحسينيات والجمعيات الإسلامية الصغيرة ( كبديل عن المساجد للسنة)، والمعابد الأخرى، إلى أماكن عزل اجتماعي وحضاري وبؤر للانغلاق والتعصب والانطواء على الذات.

وتحولت هذه الأماكن في الواقع إلى اطر سياسية ومحاور تجمع حولها وبالقرب منها اللاجئون المنتمون إليها، وتحولت مناطق كثيرة إلى معازل اجتماعية أُغلقت على الأجانب، وبعضها تكرس أو طغى لون قومي أو ديني واحد فيه. فهناك أماكن في العاصمة أطلق عليها الناس تسميات من مثل( مقديشو، وبغداد الصغرى، والقامشلي الصغرى.. الخ). والكثير من هذه المناطق غدت اللغة السائدة فيها ليست السويدية وإنما لغة المجموعة السكانية الاكبر.

ولا يغيب عن البال إن ما دّعم هذا الانعزال والانغلاق وعضده هو سياسة العزل والتهميش التي تمارسها الكثير من الجهات داخل المجتمع السويدي، فمعروف أن هناك بلديات ترفض رفضا قاطعا استقبال أي لاجئ لديها، وتدفع أموال طائلة للدولة مقابل هذا الرفض. أضف إلى ذلك إن شركات السكن وإدارة البلديات داخل المناطق المختلطة، تدفع بالأجانب إلى التركز في مناطق محددة داخل البلديات من خلال تضييق فرص الاختيار الحر لهم، هذا ناهيك عما يتركه من اثر سلبي في الأجواء العامة النفور الذي يبديه السويديون من فكرة مخالطة الأجانب في منطقة سكنية واحدة. هذه وغيرها من الأسباب هي التي حرضت الأجانب على الانزواء وإقامة التجمعات المغلقة.
وبلا شك، على هذه الأرضية، تولد وتنتعش الأفكار المتطرفة وتتسرب الظواهر المنفرة في المجتمع كالحجاب وغيرها.

وأمام تكثف هذه الظاهرة وتركزها تراجعت الجوانب الايجابية من فكرة وواقع تجاور ثقافات متنوعة في فضاء اجتماعي مشترك، وكرست أو برزت إلى السطح العناصر السلبية والمعطلة لجوهر فكرة مجتمع متعدد الثقافات. صحيح أن هناك نماذج ايجابية في مناطق سكنية فيها درجة اختلاط وتنوع وتمازج جيدة، لكنها ليست الصورة كلها، وينبغي أن تكرس لكي لا تتراجع أمام حالة الأماكن المغلقة.

كما أسلفت فان السويد تبني إستراتيجيتها في تنويع المجتمع ودمج الوافدين فيه على المستقبل. وربما تراهن المؤسسات على الجيل القادم أو الذي يليه وترى إن هذا الجيل الذي يعيش الآن، والموصوف أعلاه، هو جيل عابر، وان تكلفة رعايته المادية هي الثمن الذي ينبغي أن تدفعه السويد لأجل كسب الجيل القادم، وهذا صحيح إلى حد ما، لكن هذا الجيل يبقى في النهاية هو الجسر أو المنفذ الواصل بين الأجيال الجديدة وبين المجتمع السويدي، وهو الذي يلعب، إلى حد كبير، دورا معرقلا، في اندفاع الجيل الجديد إلى الانتماء للمجتمع الجديد والاندماج فيه. ومن المرجح أن الأبناء إذا بقوا تحت تأثير الآباء سيكررون أخطائهم، كما لا يجوز تصور إن دور الجيل القديم يبقى محدود التأثير طالما وجد إطار اجتماعي اكبر يستطيع أن يحّيد تأثيراته، فطالما أن هؤلاء متمركزين في معازلهم ومنطوين على ثقافتهم وتقاليدهم سيعيقون بكل تأكيد الجيل الجديد على أن ينخرط في الحياة بصورة طبيعية وسلسة.

وينبغي هنا التأكيد على إن الاندماج في المجتمع والتفاعل معه لايقصد منه إلغاء الخصوصية الثقافية أو الدينية، أو طمس الهوية الحضارية لمجاميع اللاجئين، فهذا الشكل من الاندماج والذي تدعوا إليه أحزاب اليمين النازي، سيتحول إلى نوع من أنواع الصهر والإلحاق بثقافة البلد الأصلي، وبهذا يسقط البعد الجوهري لفكرة مجتمع متعدد الثقافات التي تنادي بها وتسعى إليها السويد وبلدان أوربية أخرى والقائمة على أساس التبادل الثقافي وليس التبعية، لان بهذا سوف يتحول الدمج إلى حالة استلاب وقهر يشوه بالمحصلة المجتمع بتحويل شكل العلاقات فيه إلى تراتبية تمييزية على أسس عرقية وثقافية.

فالدمج في أهدافه البعيدة هو خلق تعددية ثقافية متكافئة ومتبادلة الفعل والتأثير لتنتج مجتمع متنوع وليس مجتمع أكثرية وأقلية. وفي نفس الوقت فان الحفاظ على الهوية الوطنية والثقافية لا يعني التزمت والتخندق الثقافي أمام الثقافات المختلفة.

تبقى مسالة دمج اللاجئين في بلدانهم الجديدة مسالة في غاية الأهمية ولا رجعة عنها، فالأجيال الجديدة ليس لها خط رجعة ولن تعود إلى مجتمعاتها القديمة (حدث أن بعض الأسر عادت إلى بلدانها الأصلية بدون أبنائها). ومسؤولية الدمج هي مسؤولية عامة وتضامنية، مترابطة ومتدرجة وتكاملية، وينبغي أن يتصدى لها الجميع. صحيح إن المسؤولية الأكبر في هذه العملية تقع على عاتق المكون الأكبر في المجتمع، وهم هنا السويديون، وذلك ليس لأنه الأفضل، وإنما لأنه المسيطر، إلا إن ذلك لايعفي الآخرين، وهم هنا الأجانب، من تحمل مسؤوليتهم بالمبادرة والاندفاع لتحقيق هذا الاندماج الضروري لأنه السبيل الوحيد لهم لتحقيق حياة مثمرة وطبيعية.
أما كيف فهناك برأيي كلمة تشكل المفتاح والنصيحة النموذجية لحل هذه الإشكالية وهي:

الجرأة.

الجرأة على أن يلعب اللاجئ دوره ويأخذ مكانه المفترض. والجرأة على أن يفهم من يجاوره في مجتمعه الجديد، والجرأة في الإقدام على كسر الدائرة الجهنمية للجهل والتجاهل المتبادلين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الجراة المحسوبة عن وعي وادراك
ايار العراقي ( 2010 / 10 / 22 - 22:12 )
السيد خالد صبيح المحترم تحية طيبة وبعد
سيدي جزئك الاخيركان رائعا وشاملا وخاتمتك كانت المنطق والحل بعينه فعلا الجراة والثقة بلنفس هي من العوامل الاساسية لاندماج اللاجئ بلمناسبة الاندماج برائيي المتواضع يضيف قيم معرفية جديدة للمندمج ويطلعه على جوانب وخبايا رائعة ومفاهيم لم يالفها نتيجة للانفتاح على ثقافات وعوالم مجهولة
اتمنى عليك لو تفتح باب كيفية التعامل المطلوب مع الواقع الجديد بعد صعود اليمين وانحسار اليسار وكذلك في ظل احداث الساعة المستجدة من رجل مالمو الغامض وافاق مثل هذه الاعمال
انتظر جديدك والى ذلك الحين استودعك بمحبة


2 - قراءة سسيولوجية مهمة
عمار علي ( 2010 / 10 / 22 - 23:38 )
العزيز خالد جميلة جدا هذه الدراسة التي تفردت في توغلها في ظاهرة الاندماج وهي ظاهرة اوروبية مشتركة بلدان اللجوء.
للاسف انه صراع ثقافي بين ثقافة راسخة وبين ثقافة وافدة تقليدية مصرة على مناهضة الحداثة. اسميها ثقافة العزل المنزلي التي تقبع خلف الاسوار .وخلف الطعن في ثقافة بلدان الاستقبال المنفتحة على كل اشكال الحداثة وعلى قيم واحترام الانسان وحريته. ولكن رغم هذا العزل سيظهر جيل جديد مختلف ولكن في فضاء اكثرا انفتاحا وعقلانية


3 - الاعزاء ايار وعمار
خالد صبيح ( 2010 / 10 / 24 - 09:01 )
تحياتي لكما واعتذر عن التاخر بالرد بسبب اعمال صيانة للحاسوب
شكرا لتعليقكما ولاهتمامكما وبامل مزيد من النقاشات والحوارات المثمرة والجادة.
ابو عميرة وينك؟ّ!! مشتاقين.

اخر الافلام

.. -لن أسمح بتحطيم الدولة-.. أمير الكويت يعلق بعض مواد الدستور


.. في ظل مسار العمليات العسكرية في رفح .. هل تطبق إسرائيل البدي




.. تقارير إسرائيلية: حزب الله مستعد للحرب مع إسرائيل في أي لحظة


.. فلسطينية حامل تودع زوجها الشهيد جراء قصف إسرائيلي على غزة




.. ما العبء الذي أضافه قرار أنقرة بقطع كل أنواع التجارة مع تل أ