الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حرمان

جمال بنورة

2010 / 10 / 23
الادب والفن


كان البائع يقف وراء صينية الهرايس المثبتة على قاعدة خشبية بثلاثة أرجل، وكان يحرك منشة بيده لإبعاد الذباب الذي تجذبه رائحة السكر المعجون بالسميد.
وتنبه على قرع الجرس … واندفع التلاميذ خارجين من صفوفهم … وهم ينفضون عن أعينهم - الكسل والنعاس الذي يستبد بهم أثناء تلقي دروسهم المعتادة.
واخذ الأولاد يتدافعون بمناكبهم، ويتعثرون في مشيهم، ويتجاذبون بالأيدي كأنهم في عراك.
وكان "راجي" يقف في آخر الصف في هيئة خاملة. واستحثه المعلم، فسار مبطئاً كأنه لا يرغب في الخروج حتى صاح به المعلم النافد الصبر، وهو يخرج علبة سجائره ويشعل واحدة منها:
- اسرع يا بليد!
ولم يكن هناك ما يحمل الغلام على السرعة … وتلقى ضربةً على قفاه وهو يمرق من أمام أستاذه … وظل يحتفظ بسحنته التي تبدو خالية من أي تعبير.
وأصبح خارج الصف وراح يتلفت حوله كأنما يبحث عن شيء. وومضت عيناه فجأة … وتحركتا في محجريهما بنهم جائع، وهو يرى زميله "محمود" يقضم تفاحة فيسيل عصيرها على شدقيه. ومصمص الغلام شفتيه، وابتلع ريقه وهو ينظر إلى محمود يعانق رفيقاً آخر ويبتعد عن ناظريه.
ثم انتقل إلى ساحة المدرسة. كان يسير وحيداً بلا صديق، لا أحد يكلمه أو يلتفت إليه، فهو لا يحضر معه تفاحاً ولا كعكاً، ولا يحمل نقوداً. لقد كان دائماً يطلب من أمه أن تعطيه شيئاً يحمله إلى المدرسة … وكانت دائماً تقول له:
- ما معيش … ما فيش عندنا … هذه أشياء لا لزوم لها.
وهو يحب هذه الاشياء، ولكن امه لا تحب أن تعطيه اياها …! وتضربه بقسوة إذا ألح في الطلب وهدد بعدم الذهاب إلى المدرسة. وقد تخلع " مشايتها" وتهوي بها على رأسه. وحينئذ يطلب العفو منها ويقبل يدها ويضعها على جبينه، ثم يحمل كيس كتبه المصنوع من قطعة قماش بالية، ويقصد مدرسته، وهو يفكر بغير جدوى: "لماذا توجد هذه الأشياء عند الناس الآخرين … ولا توجد عند أمه … كما تقول؟!" ورغم أنه لم يفهم لهذا سبباً يبدو انه اقتنع بذلك، فأقلع عن إزعاج أمه بمثل هذه المطالب. وصار يكتفي بالنظر في حسرة إلى أقرانه … أو بالتلصص إلى ما في ايديهم، كأنما يستجديهم فربما عطف عليه احدهم، واطعمه مما معه … ولكنه غالباً ما يمنى بالخيبة، وعلى هذا فقد تعود ألا يطلب … حتى لا يتعرض لهزئهم وربما شتمهم، وصار يخافهم ويتجنبهم.
ويراقبهم من بعيد … دون أن يحسوا به … ويتبعهم بأنظاره حيناً وبقدميه حيناً آخر … علهم يفطنون لوجوده … ويدعونه لمشاركتهم …
كان البائع يصيح:
- زاكيين يا هرايس … يا الله يا وله …
وأقبل الأولاد على البائع، وراجي يسير في اثرهم. وكانوا يتسابقون في تقديم نقودهم للحصول على قطع الهرايس. ووقف إلى جوارهم … يتأمل البائع وهو يقطع بسكينه ذات الرأس المسطح أجزاء من المعجون المحمر في الفرن … ويلفها في أوراق ثم يقدمها للتلاميذ الذين يلتهمونها في شغف. وكان راجي يتابع هذه الحركات الصغيرة بفضول نهم … وكان ريقه يتحلب كلما رأى أحدهم يحشو الهرايس في فمه ويمتص الأجزاء الصغيرة العالقة بأصابعه.
وطالت وقفته أمام البائع وهو يحملق في بله وقد تركزت كل حواسه في الصينية التي أمامه.ثم أخذ يحملق في البائع بنفس الطريقة … كأنما يستكشف فيه شيئاً مثيراً. فهو يلاحظ بأن ذقنه غير حليقة وأن سحنته سمراء مخوفة، وينظر إلى الشعر الكثيف الذي يغطي معصميه وأصابع يديه الدبقتين اللامعتين وإلى ملابسه التي تتكون من سترة جيش عتيقة، تحتها قميص أحمر اللون، وبنطلون كاكي …
ولامست اليدان الدبقتان صدره في دفعة خفيفة. كان البائع يبعد الأولاد المتحملقين به خشية أن يسرقوه!
وابتعد راجي خطوتين إلى الخلف، وأخذ يراقب الأولاد وهم يتقهقرون عن البائـع … ورأى زميله محمود مقبلاً فأفسح له طريقاً وهو يرمقه بنظرات متلهفة كأنما يقول له: " أنا هنا … " وكان الآخر يتجاهله تماماً او على الأصح لا يحس به، وحاول أن يقول له شيئاً فلم يسعفه لسانه. وظل يرنو إليه وهو يشتري قطعة هرايس ويستدير عائداً. والتقت أعينهما لحظة ودون تفكير قال له قبل ان تنصرف عنه عيناه:
- أطعمني …!
فمط الآخر شفتيه هازئاً، وقال وهو يحشو فمه بقطعة صغيرة مما بيده:
- اشتر …!
ودون تفكير قال:
- ما معيش مصاري ...
وتركزت عليه الأنظار، كأنهم يعايرونه لأنه لا يملك نقوداً. واحمر وجهه خجلاً وشعر بالمذلة أمام أنظارهم الهازئة … وانسل من بينهم كأنه لم يعد قادراً على النظر إليهم … وهام في الملعب بعض الوقت … وانزوى اخيراً في ركن منعزل من الملعب يجلس فيه بعض الصبية يتذاكرون دروسهم في صمت.
وجلس على الأرض قريباً منهم دون أن يحدث أحداً، وكأن لا صلة تربطه بمن حوله.
ومر بعض الطلاب الكبار من أمامه. كانوا يتعاركون بالأيدي … وانطرح أحدهم أرضاً، وانهالوا عليه ضرباً، وهو يتملص من قبضاتهم الصغيرة. ثم هرب فلحقوه … وكانت عينا راجي التائهتان قد سُمّرتا في الأرض … وقعتا على شيء مستدير أحمر اللون، وتعلق بصره به لحظة كأنه ثعبان لا يجرؤ على لمسه … ثم تلفت حوله متفحصاً الوجوه … فلم يجد أحداً منتبهاً له. فتناول القرش وتأمله قليلاً كأنه كنز … ثم دسه في جيبه. واعتراه إحساس بالخوف، وخشي أن يفتضح أمره، أو أن يسلبه إياه أحد. فنهض مسرعاً وقد دب فيه نشاط مفاجئ … وتبدد خموله … وأسرع إلى بائع الهرايس، ومد له يده في تهيب، وتأمله البائع قليلاً وقال في لا مبالاة:
- بالقرش؟
وهز رأسه دون تفكير:
- أيوه ...
وراح يلتهم الهرايس بسرعة كأنه يخشى أن يخطفها منه أحد … وقامت ضجة في الناحية الأخرى من الملعب. وكان محمود آتياً من هناك ورآه يلتهم الهرايس فسأله باستغراب:
- من أين لك نقود؟
ولم يجب، وأسرع يلتهم ما تبقى في يده … وكان الطالب الكبير قادماً بصحبة المعلم، وأخذ محمود يصيح:
- أنت سرقت القرش؟
- ما تقولش لأحد … وأنا أطعمك …
- أنت سرقته ؟!
- لا …!
- راجي السراق!
وتجمع عليه الأولاد واقتادوه إلى المعلم الذي كان يتكلم مع الطالب الآخر … وسأل المعلم:
- أين القرش؟
- اشتريت به …
- من أين حصلت عليه؟
-هذا قرشي …!
- أنت سرقته؟!
وأخذ يرتجف خوفاً:
- لا …!
- قل الصدق …
- لا … والله … يا أستاذ …
وتبرع اكثر من طالب أن يشهد بأنه سرق القرش. وقال المعلم بلهجة قاسية وقد قطب حاجبيه:
- افتح يدك …!
وهز بيده عصا طويلة، أراد تخويفه بها … ورفع الغلام إصبعه مستأذناً … وقال في لهجة خائفة:
- أستاذ … اسمح لي أقولك …؟
- … آ …
- … والله … يا أستاذ … هذا قرشي …
قال المعلم وقد بدأ يقتنع:
- من أين أتيت به؟
وزايل الولد خوفه، وقال في براءة:
- والله ما سرقتـه … أنا لقيتـه على الأرض!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس


.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه




.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة


.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى




.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية