الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أوراق من هاوية الماضي ( الجزء الأول )

علاء كعيد حسب
شاعر و كاتب صحفي

2010 / 10 / 23
الادب والفن


لم تكن لي في العيد هدية و لا دراجة هوائية أسابق بها الريح ، مع ذلك أحب طفولتي كثيرا و أفتقدها شفافة ضائعة وسط كومة الكتب و اللعب و التفاصيل ، فأحيانا ، عبر استحضار ذكريات المدرسة و المشاجرات و الأحداث الحزينة و السعيدة , يدرك المرء إنسانيته دون الحاجة إلى شمعة تنهار أمامه أو شاعر يفتح عاطفته على المجاز . أركب الماضي و ألحق بالخريف الأخير من سنوات الصبى ، و أتلاشى مع صوت الطعريجة (آلة موسيقية تقليدية) أيام العيد و هتاف أقراني حين نعد حبات البرتقال التي قطفناها ليلا من المدرسة القريبة من الحي ، و نجد حصة كل واحد منا برتقالتين ، الصخب و الشغب من جملة مقبلات تلطف مرارة الوضع ، وضع لا يجيد الصغار ببراءتهم ، قراءته في عيون الكبار.

لكل ليلاه ، و لي جمال مراكش الباطني و كافة عيوبها . هذه المدينة تحفظ خطواتي في الأصيل و عمرا سريعا تلتهمه الفصول الأربعة ، ينفذ من بداياته دون وعي أو إدراك . كتبت مرة لأجنبي استفسرني ، كان ينوي زيارتها :

((مراكش الحمراء . كثيرون كتبوا عنها و رسموها : مدينة استثنائية السحر و الهواء . استراح في فنادقها ورياضاتها (دور قديمة فخمة تقليدية الطابع) ملايين السياح ، ممثلون و مغنون و ملوك و شعراء و رسامون و أناس عاديون جذبتهم المدينة بطابعها الآخاد و روائح العطرية و الجلد و المأكولات و زمن أكل عليه الدهر و شرب ، صنع مجدها و دروبها الضيقة و رجالها السبعة . و في حدائق أكدال و المنارة و تحت صومعة الكتبية و بين البهارات و أرواح العبيد القدامى في الرحبة القديمة و على وقع الشموع المنثورة ليلا على امتداد ساحة جامع الفنا المغمورة بدخان الأطعمة المتصاعد نحو السماء ، شرقيون و غربيون أجمعوا على أنها تحفة نادرة و وجه جميل للحياة المغربية )).

الطفولة التي أحن إليها كلما تذوقت في لعابي طعم الحليب ، و رغم بساطتها ، معقدة و مركبة و متصلة بالألم كعين الذبابة . و لعل عيون الكبار المهشمة بشمس لا تمسح البؤس عن الوجوه و خطوات العابرين وحيدين في الأصيل ، من جملة الوضع الذي لم نفهمه حين كنا صغارا ، نلعب و نتعارك و نتسابق في زاوية أو درب قديم طويل لا يفضي إلى شيء . في الهامش ، حيث رسم الله وجها مشوها للمدينة ، لا يعرفه السياح . جنوب سكة حديد تفصل قلبها النابض حي جليز ، حيث الأغنياء المغاربة و الأجانب و المحلات و المطاعم و المقاهي الراقية و الحانات ، و كذلك المدينة القديمة مقر أكثر السياح ، عن أحياء الأوباش ، دوار عريب و دوار سيدي امبارك و دوار إيزيكي و دوار ماشو و دوار العسكر ، أحياء التهميش و الإقصاء ، و الوجوه الموغلة في قدم لا يمت للألفية الثالثة بأي صلة و لا يحمل في قسماته شيئا من ملامح العهد الجديد.

.

***************************************************

و على دوار العسكر يحل الأحد الثالث من شهر مايو زائرا غير مرغوب فيه ، يصلني صامتا في خلوتي و في جيبي فراغ سنوات الضياع . لا مال . لا سجائر ، لا حشيش ، لا خمر ، لا شيء .. . جو الغرفة الدافئ تلطفه نسمات دخلت من النافدة ، و في العلبة الإسمنتية الأخرى تشاهد والدتي التلفاز ممددة على (كنبة) غير آبهة بظلم الحكام و الاحتباس الحراري و اصطدام الحضارات ، في حكمة و هدوء عميقين يستوقفاني حين أكون ذليل نفسي و العزلة . و قراراتها التي تكاد تكون جميعها صائبة ، جعلتها في نظري إنسانة مدهشة تستحق الحياة . لم تتلقى تعليما و لم تدخل مدرسة ، لكنها مبللة بالمعرفة الفطرية العذراء كطين طاهر مبلل . أمية لا تعرف الألف من الهراوة و ترى بوضوح عكسي أنا المغرور بتعليمي البسيط و بعض القصائد العربية التي أحفظها عن ظهر قلب ، و تردد : أن الحياة كفيلة بتعليم المرء ما يريد و ما لا يريد .

نداء المزاج كان قد بلغ ذروته بعد أذان العصر ، و تأجج نارا في صدري . نفسيتي كئيبة بسبب ساعات لم أدخن فيها الحشيش . هموم . أفكار غير واضحة في الرأس لهبها يتصاعد في كل مرة أحاول تمييزها . الصواب بدأ يفقد قوته الحسية علي . فرصة العدول كانت صفرا ، و قدرتي الشخصية على رفض السياسات البديلة أو بالأحرى أهوائي تضاءلت ، و تضاءلت حتى خمدت . و كل القيم لم تك حاضرة إلا لتمنحني أعذارا لتنفيذ ما نويت القيام به . رجال حول النبي ، الأحاديث القدسية ، تلبيس إبليس ، و غابة الحب فينا مترجما للفرنسية لأدونيس ، كانت الكتب التي وقع عليها الاختيار للتضحية بها في سبيل إيجاد طبيعتي . في شرود مباغت شاهدت نفرا من حاملي الشواهد و الحقائب يلعنونني من نقطة عميقة في عقلي و يتوعدونني بالجحيم . لعنتهم في لاوعي و بصقت على البلاد و العباد و مضيت في نكراني بلامبالاة أحيانا و بتأنيب مرات أخرى ، مضيت في الحافلة رقم ثلاثة المتجهة إلى باب دكالة ، حيث المحطة الطرقية و سوق الكتب المستعملة . كان السوق عبارة عن أكواخ مصطفة من الخشب مسقوفة بالقصب و القصدير في أحسن الأحوال ، تعكس وضع الثقافة و المثقفين على العموم .

بابتسامة ماكرة استقبلني البائع بين ركام الكتب و المجلات و الدراسات المتفرقة في الدكان ، علم من كيس البلاستيك الذي أحمله أنني جئت لبيع بعض الكتب . عرضتها عليه ، تفقدها جيدا و قال :
_ سأعطيك خمسين درهما.. و أصلا لا حاجة لي بهذا النوع من الكتب.
أخبرته أن الثمن دون المرجو ، و شرحت كيف يمزقني فراق الكتب . التفت نحو خمس مجلدات لألف ليلة و ليلة محشوة غصبا على أحد رفوف الدكان و قال : هذه المجلدات الخمسة اقتنيتها بخمسين درهما ، و هي في حال جيدة كما ترى . ثم أتم بعد رشفه من كأس شاي : سأعطيك سبعين درهما و هي أخر كلمة تسمعها من فمي .
بانكسار كبير قبلت سبعين درهما في الكتب الأربعة ، و بنظرة محتقرة ودعني البائع اللئيم . لم أكن راضيا بالمبلغ ، لكنني مضطر في سبيل مزاجي للقبول به . حزن يشوب هذه السعادة المؤقتة بمال لن يبقى بعد قليل . حصار عقلي و شخوص و أطياف مبهمة الملامح تجذبني من ثيابي و قدمي إلى هاوية الندم السحيق .

في طريق عودتي ، خلف الزجاج ، لمحت مبتهجين و بؤساء تجمعهم مراكش داخلها . من باب دكالة إلى دوار العسكر مرورا بجليز ، تشق الحافلة رقم ثلاثة المسافة و تفتح ثغرة لها في مسام المدينة , و على متنها عينات من الشعب التعس . رغم اختلاف البدايات و الزمن و المكان ، عبيد العمل و المال و الجنس و النرجسية و عبيد الله ، يعودون إلى بيوتهم ، أعشاشهم ، سجونهم ، إلى وجعهم الشخصي . بعد أن يتحدثوا في الحافلة و الشوارع و محل المأكولات و كل مكان يسمح فيه بالكلام ، عن عوزهم و كثرة الأرباب و القمع و المستقبل الذي تذوب باسمه شموع الماضي و تغير تحت يافطاته الأسماء القديمة .

توجهت مباشرة إلى مقهى العربي . علبة سجائر صغيرة و خمسون درهما من الحشيش و كأس حليب بنسكافيه ، كان ما صنعت بالسبعين درهما ثمن الكتب . بعد الجوان (لفافة محشوة بالتبغ و الحشيش) الرابع بعد أن وجد طبيعته و شبع دوخة و بواقة (تخدير) ، استيقظ ضميري فجأة و امتلأ قلبي حسرة على ما فقدت . كلمات تحولت إلى دخان مخدر و كافيين ، يا لخيبتي . لست إلا واحدا من البؤساء .. موبوء بحمق أسلافي .

اعترض ضميري منير ، بدا مرتبكا و خائفا . جر كرسيا نحوي و جلس على شمالي مادا بصره حوله ، متفحصا الكل . و قال :
_هربت من البوليس
استنبطت قبل قوله ، من لونه المصفر أن توتره ذو صلة بالبوليس . ببديهة من أمضى عمره في رأس الدرب خارجا عن سلطة العائلة و القانون و ما يجب أن يكون و لا يكون .
و سأل :
_مكيف (تعني بلغة الحشاشين المغاربة : هل لديك حشيش)
_اجلب سيجارة و وريقة (قطعة رقيقة من الورق تباع في أكشاك التبغ ، تستعمل كلفافة يجمع داخلها التبغ و الحشيش)
ذهب و عاد . جلس في مقعده . أعطيته القليل من الحشبش ، فصل رأس السيجارة ، بقر بطنها و أخرج التبغ و وضعه في كفه ، سخن الحشيش بعود ثقاب ليسهل تفتيته و مزجه مع التبغ ، جمع الخليط في الوريقة ، لفه دائريا باحتراف ثم لصقه بلعابه صعودا ، أزال ما تبقى من الوريقة بأسنانه . دك الجوان دكا ، و أشعله .
و هو يدخن حكى كيف اعترض البوليس طريقه راكبا على دراجته النارية ، و كيف كان سيصدم أحدهم ، و كيف شتمهم بعد تأكده من محالة لحاقهم به و قبضهم عليه .
نظرت في يده إلى الجوان الذي تبقى نصفه ، ثم في عينيه السوداويين المهشمتين بخوف المرضى و عروق الكره و الشقاء . و ذكرته بأنه لم يناولني نصيبي . تحدث عن عمله الذي طرد منه و عن صديقته و أمه و أخيه المسجون قبل أن يعتذر ممررا الجوان .
أمسكت باللفافة ، دخنت نترة (جرعة حشيش) و أخرى ، قبل أن أسأله :
_ لما لم تتوقف حين طلبوا ذلك منك ؟ لست مجرما و لا ذا سوابق.
_ هربت لأني لا أملك وثائق تثبت أن الدراجة لي .
_ و أين هي الأوراق ؟
_الدراجة أخدها أخي قبل أن يعتقله البوليس عنوة من شخص كان رفقة عشيقته في حديقة خلف السوق .
_آهاااا . عليك أن تزيل قميصك الأحمر إذن ، فربما وشموك به عبر اللاسلكي لباقي الوحدات .
_عندك الصح (أنت على حق) . لقد وشموني . شتمت أصولهم و فروج أمهاتهم ، و كدت أصدم أحدهم عند فراري . الحمد لله ألبس اليوم قميصين .
نزع القميص الأحمر و بقي في أخر أخضر مزينا على الصدر بكرات حمراء و أسطوانات زرقاء . الآن يبدو آت من كوكب الكرنفانات و الألوان القوية الواضحة من بعيد ، همست لنفسي و أنا أرمي عقب الجوان بعيدا عن الطاولة .. عنا .

ثلاثتنا في السكون المقيت , تحت تأثير المخدر و الضمير , بين الحلم و اليقظة ، و الدم و السيوف و الممسوخين الذين لعنتهم الآلهة . ثلاثتنا من نفس الحي ، هو و أنا و الفقر ، هذا الذي يجعل الإنسان ذرة قابلة للانشطار و الانفجار . شربناه في حليب أمهاتنا ، تجرعناه مع الهواء ، و لامسناه في أكف أبائنا المتعبين . كان هنا , على الأرض ، منذ الخليقة . و مؤخرا ازدهر و ساد ، و أصبحت له كتلة و ألوان في عمقها جميعا سواد . أسرتينا قدمت من مكانين مختلفين لتتقاسم مع الفقر وحدته ، و لتتعلما منه تعب العيش و قتامة الليل . جاءتا لتنجبا ذرية حسنة تؤنسه و تشكر الله على نعمه ، في مدينة اللواط و البؤس و العهر ، مدينة كل ما هو أحمر .

*******************************************

ليس الصباح بمحبب إلي ، على الأقل حين أكون مفلسا . الاستيقاظ باكرا يعني كثرة المصاريف . أنام حتى الثانية أو الثالثة بعد الزوال نوما خفيفا مهددا بأي صوت و أدنى حركة . لا أشعر بعده براحة أو نشاط ، نومي عذاب من نوع مختلف ، لا أحلم إلا نادرا و إن حصل ذلك أنسى التفاصيل .

مقهى العربي المحطة الأولى دائما . السيجارة الأولى مستدانة كالعادة من علي بائع السجائر (في المقهى) . لا قهوة أو شاي أو أغنية ترافق أولى رعشات النكوتين . كثيرون مثلي (مفلسون) يشغرون مقاعد دون طلب شيء . لا صوت يعلو فوق صوت . سيمفونية خافتة للهامسين . الفقر يجعل الناس متساوين في البؤس و عقلانيين أكثر من اللازم . سميرة (نادلة المقهى) تقدم لي أحيانا القهوة على حسابها ، نادرا ما ترى عابسة ، كثيرة الكلام و الابتسام ، قصيرة و نحيفة قليلا ، بشرتها بيضاء ، و نظراتها حادة . عيناها كبيرتان و تحت خدها الأيمن تموضعت شامة صغيرة يحرسها شعرها الأسود . شابة في الثانية و العشرين من عمرها ، تمضي ساعات العمل في سماع الشتائم و الأسرار و الوعيد و الأخبار التي يتبادلها رواد المقهى بينهم . تعلم الكل و لا نعلم عنها إلا ما جادت علينا به شفتاها الورديتين :
_أنا سميرة و عمري اثنتان و عشرون سنة .
أدركنا فيما بعد من خلال تصفحها اليومي و البطيء للجريدة أنها متعلمة ، فكرت مرة : سيدة فضاء المقهى لا تملك غير البؤس الظليل و أنوثتها ، فلما لا أدعوها للعشاء ، و ألوثها بعد ذلك بسم اللذة الأبيض ؟ . لكنني لم أحاول دعوتها قط ، و لا التقرب منها رغم تلميحاتها المتكررة و نظراتها الغاوية بينما تضع القهوة أو الشاي أمامي . يمنعني دوما عجب من مواصلة الطريق ، مسخ داخلي يكبل الغريزة يسمونه قيما.


********************************************

أحب الكتابة حين تقيدني الحياة بشروطها . الأبجدية وحدها تجعلني حرا على طبيعتي ، محششا أو سكرانا أو دون ، لا يهم ما دمت أحمل قلمي و أحفر على الورقة أحاسيسي وأعمقها . اللغة سجن الغرباء و كوخ التعساء المجروحين ، المنبوذين ، الذي يصنعون فيه نعشهم و دموعهم الرخيصة . ترجمة الشموع و الموت و معنى الحب و الشك ، تعكسها عيونهم المتوجسة من أي حضور .

بعد سنين ، أذكرها ، مرتعشة خائفة من شبح شخص كان فيما مضى رعبا قائما بذاته ،. أراد سرقتها ، ضربه و هروبه كانا كافيين لترافقني . صراخ السكارى و المجانين المتفرق في الظلام ، و أصوات المسجلات و الموسيقى الصاخبة تعطي الليل طابعا غابويا _وحشيا في هذا الدوار ، دوار العسكر .
اسمها سعاد . دخلت العهر مرغمة حسب قولها . تزوج والدها بعد وفاة أمها بالسرطان من عاهرة أذاقتها الويل مباشرة بعد تعرضه لحادت سير أصيب على إثره بشلل نصفي . أصبح يرى الزلالة و الزبائن يدخلون بيته . يتابعهم بنظراته دون أن يتحرك إنش منه . كان عاجزا . وحده السخط يتطاير من عينيه .
تروي سعاد ماضيها بمرارة من يعرض آثامه و ذنوبه على ربه ليتفهمه و يغفر له ، كانت تتأوه و تتكلم راحلا في جسدها كقصيدة رومانسية أو ملحمة ، لا أذكر ضحايا المجاعات و الحروب و لا أسماء النجوم البعيدة . رائحة أزمنة و فصول ما قبل التاريخ تزكي ، عند الطلوع و النزول أنفاسي . حين تهاوت كجدار تغمره فيضانات صرخت بانفعال:
_أنا لست منهن . زوجة أبي ، القوادة ، هي من دفعني إلى الشارع .رفضت في بادئ الأمر ، لكنها في الأخير جلبت شخصا اغتصبني بمقابل مادي و فرضت أمرها الواقع .
و نحن جسدين في عش واحد تصاعدت من البخار المنبثق من شظايا أحرقتها اللذة ، صورة والدها المقعد يلاحق بعينين جاحظتين مغتصب طفلته الوحيدة يدخل عليها ليأكلها . لا شك شاهد ابتسامات زوجته و دموع ابنته ترجوه أن يتحرك ، أن يستفيق من سباته الشللي ، ليقتل الأسد الذي يشحذ عضوه التناسلي ، لافتراسها .

شبح كملايين الأشباح التي أشاهدها في سهوي ، هي الآن . كانت ذات جسد ، و عينين عسليتين يزين رموشهما الكحل ، و ثديين ممتلئين ، و صوت ... لكنها اليوم ، و منذ ذاك اليوم ، مجرد مجموعة من الذكريات تصارع في لاوعي لتطفو في وعي ، محدثة حزنا طفيفا بعمر نبضة قلب .

*******************************************************

احترامي لغيري كبارا أو صغارا ، ذكورا و اناثا ، تم وحشيتي و استماتتي في الدفاع عن نفسي ، كانا سببا في سلامتي في حي لا يعترف بالحوار و النقاش كوسيلة لحل النزاعات . سكين ، قنينة زجاج مهشمة ، آسيد ، غاز ، حجر ، شفرة حلاقة ، عصي و أسلاك و سواطير ، أسلحة تركت أثرها في وجوه و أجساد كثيرين ، فبالعنف تحل هنا المشاكل و الخلافات وسوء الفهم .
ندوب تزين الأعناق و الوجوه و الصدور و كل مناطق الجسم . ندوب يكرهونها كلما ولوا وجههم للمرآة و يحملونها مرغمين أينما حلوا و ارتحلوا . بعض اليائسين ، بعد أن يتناول القرقوبي (الحبوب المهلوسة) و يدخن الحشيش و يشرب الخمر ، يضرب نفسه بنفسه ، و من دون سبب أحيانا . أعرف شخصا كتب بالسكين على صدره و بخط واضح عميق : لا ثقة في .
ألسنتنا أمر من أيدينا . في تبادلنا الشتائم نسب كل شيء بأي شيء . القبيح مباح . البيئة المتعفنة فكريا لم تكن تجعلنا نتعفف من انحطاطنا الشفهي ، على العكس نشعر بفخر لكوننا نتحدث لغة دون قيود .
في المنزل كان الأمر أشبه بلعبة . يمنع منعا كليا حسب الشريعة و قوانين الأسرة و الأصول ، النطق بكلمة بل بحرف يجرح الحياء العام ، و بالنسبة لمراهق منحرف يمضي يومه في رأس الدرب في الحديث مع أقرانه بطلاقة ليست لها حدود ، اختيار الكلمات اللائقة عمل شاق و وجه من وجوه انفصام الشخصية . كان المنزل بمثابة صفيحة تكتونية تمنع نفوسنا البركانية بالتصرف على طبيعتها ، فيما الشارع غابة نعي فيها معنى البقاء ، و مدرسة تراجيدية مفتوحة دائما ، و مسرح تسع خشبته جميع الشخصيات .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - عين فاحصة و صدق في البوح
سالم الياكدي السوداني ( 2010 / 10 / 23 - 21:14 )
متعتنا أستاذ علاء بهذا السرد الصادق و المؤثر بما حمله من وصف دقيق للحياة المغربية عبر رؤية أدبية خالصة بامتياز ، جسدت ماهو اجتماعي و اقتصادي و ثقافي بطريقة فلسفية اتسمت بالكثير من العمق، و لكوني مقيما في اسبانيا و على صداقة بالغة بالمغاربة هناك تعرفت من خلالهم شفاهية على المصاعب و الظروف الإجتماعية و الفكرية التي يمر بها الشباب المغربي ، و كنت و انا أقرأ نصك الرائع أعيش فقراته و كلماته بكل تجلياتها بلذة من يكتشف كلام أصدقائه واقعا و حقيقة و لا شك في أنك نقلت من خلال سردك بعضا من هموم و هواجس الشباب .. شكرا لامتاعك لنا أستاذي العزيز في انتظار الأجزاء الأخرى التي لا شك ستكون أكثر تشويقا


2 - قصة رائعة
لؤي لابا ( 2010 / 10 / 23 - 21:50 )
غريبة هي الحياة التي وصفت في قصتك ورائعة في غرابتها ، رغم أنها تبدو بائسة في العديد من الجوانب :الإدمان،البطالة،المقهى،و الليل... لكنك كما أنت فريد فيما تكتب كعادتك أيها الإنسان الصادق و الشاعر المرهف .. تحياتي و متمنياتي لك باللإزدهار و النجاح


3 - مأ ساة مضاعفة
محمد نور الدين بن خديجة ( 2010 / 10 / 24 - 19:55 )
الاخ سالم السوداني ولؤي لابا..ان مأساة الانسان المغربي الكادح أصبحت تفوق الخيال وهذا غيض من فيض ..نقله لنا الصديق علاء برهافة الفنان الذي يلتقط بذكاء وقائع المعاناة التي تصبح عادية ولا يلتفت اليها وهذه هي مهمة المبدع الحقيقي ..ففي الواقع ما هو اغرب من الخيال.وللاشارة فالكاتب والشاعر علاء عراقي الاب مغربي الام ولم ير اباه مدة عشرين سنة نتيجة الشتات الذي عاشه العراقيون جراء الحرب والاحتلال الغاشم..هي ماساة مضاعفة اذن فمتى تنجلي ؟

الشاعر : محمد نور الدين بن خديجة/المغرب


4 - كثير من الدهشة التي لا تنتهي
إيمان العراقية ( 2010 / 10 / 25 - 12:44 )
من زمن ليس ببعيد و أنا أتتبع كتابات الشاعر و الكاتب علاء كعيد حسب ، و بعد كل قراءة تتضح لي عوالمه التي صنعته ، و من دون شك فإن المأساة و المعاناة التي لن نستطيع اختصارها في الشتات العراقي او بعد شاعرنا والده و بيئته التي ينتمي إليها هي التي جعلت منه متفحصا قوي الملاحظة لما حوله و مبدعا يستطيع بالكلمة نقل القارئ لعالم غريب عنه ببساطة و إحساس... لك مني كل التقدير و الإحترام

اخر الافلام

.. فيديو يوثق اعتداء مغني الراب الأميركي ديدي على صديقته في فند


.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز جسديًا على صديقته في




.. حفيد طه حسين في حوار خاص يكشف أسرار جديدة في حياة عميد الأد


.. فنان إيطالي يقف دقيقة صمت خلال حفله دعما لفلسطين




.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز -ديدي- جسدياً على صدي