الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


علاقة الثقافي بالسياسي في التجربة العربية - وجهة نظر نقدية

محمد بقوح

2010 / 10 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


يقول عبد الرحمان منيف في كتابه : بين الثقافة و السياسة ، ص 57 : ( فالثقافة التي يفترض أن تلعب دورا أساسيا في خلق الوعي النقدي ، و هي ، نظرا لنوعيتها ، و لبحثها المستمر عن الجديد و المختلف ، و نظرا للديالكتيك الذي يميز تكوينها و عناصرها ، فإنها تختلف عن الإعلام و الإعلان و الشعارات ، و لا تركن إلى اليقين ، هذه الشؤون التي تعني المؤسسة السياسية ، الأمر الذي جعل الإثنين يسيران على خطين متوازيين أغلب الأحيان ، لكن يمكن أن يتقاطعا و أن يتناقضا ، نظرا لاختلاف المنطلقات و الأهداف . ) .

لعل السياسي اليوم ، ماض في إصراره القديم / الجديد في خطة العرقلة و تضييق الخناق ، على كل ما هو ثقافي جاد في ممارسته النقدية الهادفة ، التي يلتزم بها كفعل ضروري ، يفرضه عليه الواجب الوطني و القومي و حتى الإنساني بالمعنى الواسع للكلمة ، الأمر الذي لم يستوعبه و لم يتمثله بالشكل الصحيح ، الرجل السياسي الفاقد لإرادة التفكير الحر و الذاتي ، أو الذي يدعي أنه يمارس العمل السياسي بمعناه الحربائي ، المشبوه من وجهة نظر الذهنية الشعبية ، في إطار ما هو حزبي أو جمعوي ، بحكم ديناميته الهادفة ، و حركيته الثقافية المنفعلة ، التي اختارها لنفسه أن ينشط في إطارها . فعلى أيحال فكلاهما ، الحزبي و الجمعوي ، خاضع و أنفاسه رهينة بسياسة الفوق و السلطة ، و يشتغل كجهاز أداتي و وفيٌ لتقاليد سلطانها العريقة ، يخدم بها بنيتها الفعالة ، حفاظا على وجوده أولا ، و على أرباحه الرمزية و المادية أخيرا ، و الطموحة دوما ، إلى تحقيق أكبر توسيع عملية الاحتواء ، و تأجيل أي نوع من الخطابات و الأفعال و المواقف المرتدة ، التي يمكن أن تنتج من حين لآخر ، عن الواقع الثقافي النقدي المضاد ..( لدينا النموذج الحي في حالة الأديب و الروائي العربي الكبير عبد الرحمان منيف ، و معاناته الطويلة مع عقل السلطة النفطي السياسي و الزبوني ) .

فجهاز السلطة إذن ، سواء بمفهومه المادي أو الرمزي ، يحاول جاهدا فرض النظام الكلي المطلق ، الثقافي منه أو الاجتماعي المراد و المختار ، فرضا يجعلها فوق هرمية التراتب الاجتماعي الذي يجب أن يبقى ثابتا و مستمرا ، و كذا مهيمنا على امتياز التفوق الاقتصادي و الحضاري الشامل .. تفعل السلطة .. ، كمنظومة تضفي على ذاتها ما يشبه الطابع المقدس و المنزه ، الذي لا تناقش إملاءاته العمودية مهما تكن الظروف .. تفعل كل ذلك من طبيعة الحال ، اعتمادا على شبكة أذنابها الصغار ، و ضحايا النازع الشعوري بتعبير نيتشه ، ممن يحتسبون على جناح السياسي و رجل السياسي المنبطح بالدرجة الأولى .. و بمعية ثقافة المؤسسة السياسية الفنية منها و الأدبية ، و كذلك الفكرية التراثية و الرياضية و الإعلامية الرخيصة المتواطئة ، مع حقل السلطة بتلميع صورته أمام الرأي العام الوطني و الدولي ، و أيضا المساهمة بفعالية في الترويج للمادة المسكرة لعقول أكبر الفئات الشعبية المستهلكة لثقافة الصورة .. إنها ثقافة المخدر بالمال و الإعلام و الرياضة ، داخل ملعب سياسة السلطة الكبير ، التي تتقن إجراء معارف كيفية تدريب و ترويض و تطبيع الكل في الكل .. دون عناء يذكر ، كما تروض و تلاعب جثامين دميات روسية في أحسن مسارح البلاد .

و يجذر بنا القول ، أن هذا السلوك العدائي الضمني ، الذي تمارسه السلطة ضد الثقافة و المثقف ، و هو سلوك قديم رغم التطورات التي لحقته بفعل تطور و تغير تقنيات المعارف العصرية ، ليعبر عن نوعية المنظور السلبي الذي من خلاله ينظر و يفكر هذا المثقف في حقيقة السياسة و ما هو سياسي ، و ينظر بالتالي إلى رجل السياسة .. بالمفهوم الحزبي الضيق ، الذي يقود الوطن و المواطن معا ، في ظل انتشار الأمية و ثقافة تجهيل و تضليل العقول انتشارا نوعيا ، و تهميش قيم المعرفة من قبل الدولة و المجتمع معا ، و عدم اعتبار قيم العلم و الفكر الحر و الإبداع ، إلى أفق مستقبلي غامض يشوبه الكثير من اللبس و عدم وضوح الرؤية . و هو على أي حال واقع ثقافي مرير ، يغلب عليه ملمح الخضوع و التهافت و التطبيل النشيط ، تحت سخاء جاذبية مظلة مفهوم السلطة و المال ، سواء ببعده الدلالي المادي أو بمفهومه الرمزي العميق ، تدشينا لثقافة مشروعية العنف ، و العنف المضاد . و هي الثقافة التي يرفضها كل عقل يؤمن بجدوى الحوار و أهمية قدرات الإنسان . و هو واقع كيفما كان الحال يساهم في تكريسه المجتمع نفسه ، الذي يعتبر الضحية الأولى و الأخيرة لفعله العنيف ضد نفسه ، و في مصالحته العجيبة التامة مع شيخه الجاني ، و نعني به طبعا جهاز السلطة بكلية مكوناته المشكلة لقدرة علائقية هائلة ، لا يمكن أن ينتجها سوى جسم مركب من عناصر متسقة ، تؤدي أدوارها في أجواء واقع تنعدم فيه أو تكاد ملامح الصراع الإيجابي و الطبيعي ، الذي بإمكانه أن يحافظ على الحد الأدنى لمفهوم التوازن المنتج ، بين القوى المحتلة للمواقع داخل المجتمع . من هنا يبدو جليا مدى خطورة الفعل السياسي ، حين ينزاح و يتخلى أصحابه عن وظيفته الجوهرية ، في تمثيل المواطن و الوطن و الدفاع عن مصالحهما معا ، بتفان نادر و بغير تملق للفكر المهيمن ، المعتبر عند أغلب الفئات الشعبية المهيمن عليها ، بمثابة الطرف المضاد في معادلة الصراع . هكذا نصل و نجد أنفسنا متفقين مع طرح عبد الرحمان منيف حين يعتبر المتحزب السياسي رجل مثقف و ينتمي إلى طينة الطبقة الشعبية الأكثر تضررا في المجتمع ، من حيث أنه يحمل هم الإصلاح و تغيير الوضع المنحط القائم إلى وضع بديل و مزدهر . لكن هل توجد في العالم العربي أحزاب سياسية بهذا المفهوم العميق ، تنهض بتلك الأدوار الكبيرة و الدالة ، التي هي أصلا تتحمل مسئولية أدائها ، و القيام بها كاملة أمام شعوبها أي منتخبيها ؟؟ طبعا الجواب سيكون بالنفي . إن أحزابنا هي شبيهة بأوكار قبلية تهمها مصالح القبيلة الحزبية ، أكثر مما تهمهم مصلحة المواطن ، الذي هو جزء من كلية الوطن . و تبعا لذلك و نتيجة له أيضا ، بدل أن يسود صراع اجتماعي و سياسي حقيقيين ، بين الذات ( المواطن القائم في سبيل المواطن المفترض ) ، و الآخر المضاد المتحكم في هذا الصراع بكيفية غير عادلة ، تفقد الذات انسجامها و حريتها و حقها الطبيعي في العيش الكريم ( جهاز السلطة ، الطبقة البورجوازية ) يسود صراع مزيف صوري فارغ من محتواه الفعلي و الطبيعي ، بمفهومه السياسي العميق لكلمة الصراع . أي نصبح هنا أمام صراع مسيّس و موجه ، حسب منظور السلطة الحاكمة ، و المحتكرة لحقل اللعب السياسي و الثقافي و الحضاري . إنه بالضبط ما سماه عبد الرحمان منيف بملتقى التقاطع بين المؤسسة السياسية و المثقف ..

يمكننا اليوم أن نتحدث ، ليس فقط في زمننا العربي المعطل و المشلول الإرادة ، في مستواه الفكري المستقل و الإنتاج الثقافي النقدي المتميز ، عن ثقافة السياسي ، و نعني بها نمط ثقافي موجه بفكر سياسي حزبي ( أو جمعوي ) موال لإيديولوجية السلطة المهيمنة في المجتمع . و هي حالة واقع نوع الثقافة السائدة اليوم في عالمنا العربي . الشيء الذي يؤهلها أن تكون ثقافة وظيفية ، تعبر عن ولائها لفكر رسمي سائد و مهيمن لطبقة الحاكم ، و بالتالي يلاحظ وقوع نوع من التعديل و الانحراف في الدور الأصلي للثقافة و المثقف ، كما وظفه جرامشي في كتاباته ، من دور فعال تنويري و مضاد لفكر الهيمنة و الإقصاء و الاحتكار و الظلم ، و الذي كان يلازم و يرتبط أقوى الارتباط بزمن الفكر التقدمي الإنساني و الطليعي المتألق سابقا ، ليس عربيا فقط ، بل و كذلك عالميا ، في حين بات اليوم الثقافي و المثقف معه ، بسبب متغيرات العصر التقنية السريعة ، و نمط الفكر الاستهلاكي الرأسمالي الهجين ، و الذي كانت قيم ما هو اجتماعي و إنساني و معرفي و علمي من أهم ضحاياها المباشرين . من هنا يفهم التنبيه الخطير الذي صرخ به الفيلسوف الألماني المتميز هيدجر عندما أشار إلى اكتمال الميتافيزيقا ، و من تم الفكر الميتافيزيقي ، مع سيادة التقنية ، و عالم تأليه الآلة و مستتبعاتها حتى النخاع . إنها إشارة ذكية للزحف العولمي و خطورة تأثيره على مفهوم النقد و قيم الإنسان ..

و يعتبر المثقف في هذا العالم التقني و السريع و النفعي ، و الذي يشتغل في إطار المؤسسة السياسية المهيمنة ، من أبرز علامات هذا السقوط الثقافي و الفكري العربي الخطير ، الذي يمكننا نعته بالوضع الإنحطاطي الشامل ، و الذي أيضا يقدم البرهان الواضح على هشاشة الفكر و الوعي الثقافي عندنا ، مقارنة مع وضعيات مماثلة لشعوب مختلفة في بقاع أخرى من العالم الثالث ، خاصة شعوب أمريكا اللاتينية و القرن الأفريقي الجنوبي . و ربما يمكن تفسير هذه المفارقة الغريبة لوضعية العلاقة بين ما هو ثقافي بما هو سياسي في العالم العربي ، بحكم أن هذا الأخير تعرض لعنف استعماري أجنبي أقل بشاعة و عمقا ، مما هو عليه لدى هذه الشعوب في العالمين الأمريكي اللاتيني و القرن الأفريقي الجنوبي ، نظرا لطبيعة درجة وعي الإنسان العربي بملابسات واقعه المجتمعي ، و التي تبقى على كل حال جد معلقة ، و تثير الكثير من التساؤلات حول مدى تجدرها في عمقه الفكري و الثقافي و التربوي . إنها مأساة المثقف العربي الاجتماعية و التربوية ، في علاقتها المفارقة بصورة متناقضة ، و تدعو إلى الغرابة بواقعه الفكري و شروطه المادية و حاجياته المصلحية و الشخصية و المعنوية . هذا المثقف العربي الذي وصفه عبد الرحمان منيف بصوت قبيلته في عصره ، عندما كان شاعرها الأول و لسان حالها الأساسي ، أصبح اليوم تابعا و مجرورا يعيش من فتات موائد حضارة الاسمنت و النفط المركب ، بلسان الآخرين يزحف إلى حتفه الأخير . إنه يزداد كل يوم انبطاحا و تبعية للجهات الفكرية و السياسية و الاجتماعية ، المكبلة لإرادات الشعوب و أبناءها المحاصرين داخل أفكار و طروحات ثقافية مزيفة واهمة .. إنه الوعي المزيف كما تحدث عنه محمود أمين العالم في أحد كتبه الرائعة . و هي نفس الأفكار و الطروحات الثقافية التي تدافع عنها مؤسسة السلطة السياسية و ثقافة السلطة ، و التي كان المثقف العربي و إلى عهد قريب يقف على مسافة عنها ، محاورا إياها و مناقشا قضاياها ، و ناقدا منطلقاتها المنهجية و التصورية ، و رافضا نتائجها الفكرية السطحية من حيث بعد نظرها ، و كذلك طريقة معالجتها و فهمها و تفهيمها ، لما يجري في الواقع المجتمعي العربي .. و حقائق التقدم و الديمقراطية و الإنسان بصفة عامة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تركيا تدرس سحب قواتها من سوريا


.. أوضاع إنسانية صعبة في قطاع غزة وسط استمرار عمليات النزوح




.. انتقادات من الجمهوريين في الكونغرس لإدانة ترامب في قضية - أم


.. كتائب القسام تنشر صورة جندي إسرائيلي قتل في كمين جباليا




.. دريد محاسنة: قناة السويس تمثل الخط الرئيسي للامتداد والتزويد