الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاخراج فى المسرح الملحمى

محمدعبدالمنعم

2010 / 10 / 26
الادب والفن


إذا كان (أرسطو) قد ارتكز فى كتابه (فن الشعر) على مفهوم التطهير Catharsis باعتباره محوراً لنظريته عن المسرح الكلاسيكى، فإن بريخت قد استهدف تقويض هذه النظرية من أساسها، وطرح البديل النظرى والعملى لها من أجل مسرح فاعل غير منفعل، مُقدماً شكلاً مسرحياً جديداً يستند إلى فلسفة أخلاقية جديدة مستوحاة من الفكر الماركسى، هو (المسرح الملحمى .


يولى هذا المسرح جل اهتمامه بالمتلقى، مستهدفاً جعل عملية التلقى عملية واعية وليس انفعالاً، وذلك من خلال استرجاع الوظيفة التعليمية للمسرح، وتوظيف
تقنية التغريب Alienation على كافة مستويات العمل المسرحى.



والتغريب عند بريخت هو جعل المألوف غريبا؛ إذ إن التوصل إلى تغريب الحادثة أو الشخصية يعنى فقدانها لكل ما هو بديهى ومألوف وواضح، بالإضافة إلى إثارة الدهشة والفضول بسبب الحادثة نفسها .


فمع التغريب يصبح الاعتيادى والمعروف ملفتاً للانتباه ومفاجئاً، والبديهى يصبح غامضاً، كل ذلك من أجل أن تظهر الأمور بشكل أكثر وضوحاً. إذن يسعى التغريب إلى تغيير رؤية المتلقى الاعتيادية للأحداث الدائرة على خشبة المسرح، من أجل خلق علاقة بينهما قوامها التفاعل المتبادل؛ إذ يهدف بريخت من وراء الأثر التغريبى فى مسرحه إلى إثارة وعى المتلقى بغرابة واقعه الاجتماعى وتناقضاته، ومن ثمَّ إثارة رغبته الملحة فى تغيير هذا الواقع تغييراً جذرياً حتى يستقيم مرة أخرى من منظور ماركسى.


ولكى يحقق بريخت عنصر التغريب فى العرض المسرحى، قام بتوظيف عناصر العرض ومفردات الإخراج المختلفة توظيفاً جديداً، يعمد إلى تخليص خشبة المسرح من كل ما هو سحرى وخدَّاع، حتى لا يدفع الجمهور للانخداع بحيل الإيهام المسرحى، فيغيب وعيه، وتُسلَب إرادته، وتُعَطَّل حاسة النقد لديه.


كما يحرص على كشف عناصر اللعبة المسرحية وفضحها أمام المشاهد لتأكيد طابع التمسرح، بهدف الاحتفاظ بوعى المتلقى حتى يستطيع اتخاذ قرار فى القضايا المطروحة أمامه.



فعلى مستوى الديكور، لا تحاول عروض المسرح الملحمى تقديم مناظر ديكورية تحدد البيئة المكانية للحدث وتوهم بالواقع؛ لأن الديكور وفقاً لبريخت لا يشرح مكانية الحدث بالتفصيل كما فى المسرح الواقعى، بل يشير إليها فى إيجاز حتى يُجَنِّب المُشاهد الاندماج فى الحوادث إذا ما أحس بواقعية الظروف المحيطة بها، لذلك يقدم الحدث على خشبة مسرح عارٍ، ولا يستعين إلا بديكورات بسيطة موحية تمنع الإيهام، فعلى سبيل المثال " عَرَضَ نيهر (جاليليو) أما شرائح من الخرائط والوثائق وأعمال عصر النهضة الفنية " .


كذلك يرفض بريخت استخدام ستار المسرح باعتباره وسيلة لإخفاء ما يجرى من إعداد لوسائل الإيهام بالحقيقة فيقول " ابقوا ستارتى مرفوعة، ولا تخفوا المسرح عن العيون بل دعوا النظارة وهم مسترخون فى مقاعدهم، يحسوا بما يجرى من إعداد بارع، فيروا قرصاً من الورق الفضى ينساب فى هيئة القمر أو سطحاً من القرميد يُحمَل إلى موضعه. لا تروهم أكثر مما ينبغى، لكن أروهم شيئاً ما حتى يدركوا أنكم لستم سحرة، بل أصدقاء وعمال " .


ومن ثمَّ كان ينحو إلى تغيير الديكور أمام أعين المشاهد لكسر حاجز الإيهام بالواقع؛ " ففى مسرحية السيد بونتيلا وتابعه ماتى صنع بريخت جبلاً يقتضيه المشهد بتكويم الكراسى بعضها فوق بعض " أمام أعين المشاهد بالطبع.


أما الإضاءة فيعارض بريخت استخدامها لخلق جو خاص أو حالة نفسية معينة، لذلك يرفض الأضواء الملونة، والأضواء الشاحبة الخافتة، والظلال، ولحظات الإظلام، مستعيناً بالإنارة العامة فوق المنصة؛ بحيث يغرقها فى إضاءة قوية ساطعة حتى فى مشاهد الليل، وذلك كى لا يخلق إيهاماً بالليل الواقعى وتأثيره الكامل، فيقول " نريد أن يكون النظارة دائمى اليقظة والانتباه. فلندعهم يحلموا فى الضوء الباهر " .


كذلك كان ينادى بأن تظل مصادر الضوء مكشوفة للمُشاهد حتى يشعره بأن ما يشاهده ما هو إلا تمثيل ، مؤكداً بذلك طابع المسرحية، حيث يعمد إلى إنارة الصالة حتى لا يفقد المتفرج يقظته.


بالنسبة للموسيقى والأغانى، يتم توظيفها فى عروض المسرح الملحمى باعتبارها وسائل تغريبية تقطع سياق الأحداث لمنح المشاهد فرصة التأمل النقدى، لذلك يوظف بريخت عنصر الموسيقى بأسلوب ملحمى؛ بحيث تتجاوز معه دورها التقليدى باعتبارها خلفية تعمق الأحداث وتؤكدها وتخلق حالة نفسية محددة، إلى دور آخر أكثر فاعلية تصبح معه عنصراً مستقلاً بذاته له موقفه الخاص من الأحداث، وهو موقف تعليقى نقدى، فيقول عنها، يجب أن " تقاوم بشدة ذلك التمازج الناعم المتوقع منها والذى يحولها إلى خادم لا مخ له ، إن الموسيقى لا تصاحب إلا فى شكل التعليق، ولا يمكن أنه تُعَبِّر عن نفسها بأن تفرغ العواطف التى حَمَّلَتَها بها حوادث المسرحية .


ولكى يبلور عنصر التغريب بوساطة الموسيقى، يجعل الفرقة الموسيقية ظاهرة للمشاهدين طوال العرض المسرحى حتى لا تصبح الموسيقى الخفية وسيلة لخلق إيهام بالحقيقة لدى المشاهد. وبالمثل يتم توظيف الأغانى فى العرض المسرحى الملحمى – على النهج السابق نفسه – لقطع سير الأحداث، بحيث تستقل عن حبكة المسرحية.


أما بالنسبة لعنصر الأداء التمثيلى ، فإنه يعتمد - فى المسرح الملحمى - على العقل قبل العاطفة، وعلى التغريب قبل المشاركة الوجدانية، وكى يحقق بريخت التغريب فى أداء الممثل يرفض التقمص والاندماج والدخول فى إهاب الشخصية، ويناشد الممثل أن يتخلى عن الوسائل التى تعلمها لكى يغرى المتفرج بأن يتوحد مع الشخوص التى يلعبها، فيقول


" إذا كان هدف الممثل ألا يرسل المتفرج فى غيبوبة يجب عليه ألا يكون هو نفسه فى غيبوبة " ؛ بمعنى أنه يطالبه بأن يحتفظ بمسافة تفصل بينه وبين الشخصية التى يصورها – وهذه المسافة مطلوبة أيضاً بين الممثل والمتفرج - بحيث لا يصل فى أدائه إلى التحول الكامل للشخصية المؤداه، فهو مُطالب بأن يرينا الشخصية فحسب؛ أى عليه أن يقوم بالدور من الخارج، فيبتعد عنه ولا يندمج فيه، بل يعرضه علينا ويفسره لنا، "


عليه فى نهاية الأمر أن يمثل أنه لا يمثل ، فما هو إلا عارض أو قصاص، بل أقرب إلى الراوى الذى يروى علينا حادثة وقعت من قبل،
أو حدثاً شاهده دون اندماج، متخذاً موقفاً من الشخصية التى يؤديها بما يتيح لنفسه فرصة للنقد، مستهدفاً إثارة المشاهد واستفزازه لإصدار موقف انتقادى تجاه تلك الشخصية، وهكذا فهو يحتفظ بشخصيته هو ثم يقدم الشخصية المسرحية تقديماً سردياً.



وقد اقترح بريخت ثلاث وسائل مساعدة يستعين بها الممثل أثناء التدريبات كى يحقق عنصر التغريب وهى " النقل على لسان الشخص الثالث، النقل بالزمن الماضى، قراءة الدور إلى جانب التعليقات والملاحظات هذه الوسائل تؤدى إلى إضافة بُعد جديد إلى الممثل والشخصية، هو الناقد. وبذلك يقوم الممثل عند بريخت بأدوار ثلاثة؛ فهو الممثل بشخصيته المستقلة، وهو الشخصية المسرحية المُمَثَّلة، وهو الناقد فى الوقت ذاته.


وهكذا تغيرت وظيفة الممثل عنده من مجرد مؤدٍ، إلى عنصر إيجابى فاعل فى المسرحية، وهذا لا يعنى أنه يظل بلا عاطفة أو مشاعر إذا كان يلعب أدواراً تحتاج للعاطفة، " كل ما ينبغى عليه هو ألا تظل عواطفه فى الأعماق هى عواطف الشخصية التى يلعبها، وذلك حتى لا تصبح عواطف الجمهور فى الأعماق هى الأخرى عواطف الشخصية " .



كذلك لجأ بريخت إلى توظيف الأفلام، والصور، والأقنعة، فى عروضه المسرحية الملحمية، ليؤكد عنصر التغريب؛ حيث استعان بعرض الأفلام السينمائية، والصور الفوتوغرافية، والشرائح المصورة التى تنعكس بالفانوس السحرى على ستار المسرح، باعتبارها مفسرات للأحداث المسرحية الجارى عرضها.



وكانت مسرحيته (الإنسان هو الإنسان) عام 1927 خير مثال على ذلك؛ ففيها تظهر صور الجنود الإنجليز وهم ضخام الجثث، وجوههم قبيحة، أجسادهم منتفخة كأنها محشوة، ويمشون بأرجل خشبية طويلة "


وهو بذلك أراد أن يسخر من مقترفى الحرب باعتبارهم مسخا كاريكاتورية، وفى الوقت ذاته يكشف عن بشاعتهم وتسلطهم المخيف بحيث يدين أفعالهم اللاإنسانية ضد البشرية.


أما الأقنعة فيستخدمها باعتبارها وسيلة من وسائل كسر الإيهام ولفت النظر الباعث على الانتباه، لإحداث التغريب بين الممثل والمشاهد، وذلك لتذكير المشاهد بأن ما يشاهده ما هو إلا لعبة مسرحية وليس أمراً حقيقياً، ومن ثمَّ يباعد بين المشاهد والشخصية المُقَدَّمة، فيتيح له فرصة النقد الموضوعى لهذه الشخصية وسلوكها.


●● ومما سبق يتبين أن عروض المسرح الملحمى تتعامل مع فن المسرح باعتباره أداة لتحليل الواقع ونشر الفكر، مستهدفة تحويل المنصة المسرحية إلى منبر للحوار وليس منصة للأوهام؛ الأمر الذى يكشف عن أنها عروض تمزج بين وظيفتين للمسرح، هما (التوجيه) و(المتعة الفكرية).

بقلم : د/ محمدعبدالمنعم
قسم المسرح بكلية الاداب – جامعة الايسكندرية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة أخيرة - فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمي


.. كلمة أخيرة - بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء




.. كلمة أخيرة - ياسمين علي بتغني من سن 8 سنين.. وباباها كان بيس


.. كلمة أخيرة - المهرجانات مش غناء وكده بنشتم الغناء.. رأي صاد




.. كلمة أخيرة - -على باب الله-.. ياسمين علي ترد بشكل كوميدي عل