الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حلم ونحس... وبركات من السماء

عصام سحمراني
(Essam Sahmarani)

2010 / 10 / 27
الادب والفن


الليل لم يأته أسود منذ زمن بعيد. لا علاقة للأنوار الآتية من الشارع والأبنية المجاورة بالأمر، ولا للأصوات المتخذة مع دخولها إلى لا وعيه شكل الومضات. هي أحلام زاهية تشتبك بأنسجة سباته وتعيد طوي الثنايا كتموجات بحيرة ساكنة رمي فيها حجر دون سابق إنذار.

أحلام لا تشبه حلمه المتكرر طيلة ربع قرن. ذاك الذي يأخذه إلى تلك الأرض القاحلة إلاّ من منزل، اعتاد مع أترابه تجنب المرور أمامه، خوفاً من يقين كان يتملكهم أنّه مسكون بالأشباح. يفتتح الليلة به، فيصعد درجاته ويصمت كلّ شيء من حوله، حتى يعلو صوت الخطوات وحده، ولا يظهر في أرجاء المنزل وأجوائه شيء، فيتابع الإنجذاب نحو ضوء أرخى طرحة له من السقف. يدخل إليه من بين أوراق متيبسة لعريشة ميتة تفترش أسمنت السطح وتتسلق القضبان الحديدية القائمة فوقه.

يصل كل مرة ويحاول القفز مجدداً من حافة إلى أخرى بينهما موت محتوم، فلا يكتمل الحلم يوماً حين يفيق فجأة وهو يكاد يصطدم بالأرض بعد قفزته الدائمة الإخفاق. يستيقظ ويضع يداً على قلبه فيتبين نبضات مشابهة لاستيقاظه من حلم آخر يحبسه تحت ماء لا يتمكن من الإنعتاق من غشائها رغم انقطاع أنفاسه واختناقه، ولا ينقذه منها سوى العودة إلى رتابة حياته المختنقة بدورها.

ولّت تلك الأحلام إلى غير رجعة منذ أعوام عديدة. أعوام لونت لياليه وشكلت أيامه تبحث عن أهداف بعينها، بعد عشواء خبطت بها ما شاءت.

يستيقظ، ويصبح اللون، المنسكب لوحات عديدة في أحلامه، داكناً. يسري الصباح في جسده ويهبّ إلى نهار جديد يصادف أنّه إجازة من عمله، ستسمح له بإنجاز عدد من المهام التي حددها مسبقاً، في برنامج أعدّه لهذه الغاية.

برنامج لا يلحظ إلاّ جهداً ومحاولات إنتاج ما، فالمواجهة مستمرة بينه وبين كلّ أسباب التدبير والتكدير تؤخره وتعيقه وتواجهه بالسدود والخنادق.

تجري العادة على تقبّله لمثل ذلك، فالوقوف متكرر للدخول إلى الحمام، والسخونة مفقودة دائماً في مياهه، والإستحمام كما العادة مصحوب برياح الشمال، وبأفكاره المتنقلة بين الإشتراكية والرأسمالية تمدح الأولى كفكرة مجردة وتذمّها كميدان تطبيق، لتعلي من شأن الثانية، وتتحدى ماركس نفسه في حبّ التملّك، لوسائل الراحة الحياتية على الأقل.

يعشق الإبتسام صباحاً، ويختزل كلّ تعبيراته فيه فيبدو فمه مثقلاً بغموض مشابه لملحق ثقافي في جريدة يومية. يكره الكلام ويسبح في أفكاره تغوص داخل إحدى المشاكل او تصل إلى أحد الحلول على غرابتها، كتحديدها لأولويات البصل لديه في أكله للأحمر والأبيض وابتعاده الكلي عن الأوراق في الأخضر.

أقلع منذ مدة طويلة عن فكرة لعن السماء التي تمطر كلما خطا في الشارع خطواته الأولى، وتمنع عليه أيّ وسيلة نقل يمتلكها. لا يعيبه أبداً سؤال سيارات الأجرة ومحاولة الأمر مرات عديدة كمن يشارك في اليانصيب الأسبوعي، ويخسر غالباً، ليفوز في مرات نادرة بثمن الورقة فحسب.

لا ثمن لورقةٍ اليوم، ولا سيارة تتوقف لأجله حتى. تتآمر الظروف مع بركات السماء ويفضح مؤامرتها وصول الباص لأول مرة خلال ساعة كاملة، وحين يهمّ بإيقافه يفاجأ بصوت يناديه، فيمرّ الباص ويتركه يتيماً مع والده. ينشغل بالحديث لدقائق لا تنتهي ليعاود بعدها الوقوف وتكرار ما قد تم، دون أن يلقي بلوم على أبيه، فالظروف دوماً أكبر منهما، وهي التي تتآمر عليه ولا تتعب أبداً.

ينتشل عظامه المتكومة في المكان ويشدّ العزم إلى خط سير آخر. يوفّق فيه لكنّ المسافة تضاعفت ركوباً ومشياً. ولا مشكلة في ذلك لديه رغم صداع تسببه الزحمة، واختناق يسببه تبغ السائق وصراخه.

يشغل نفسه بمتابعة لوحات السيارات المسرعة من الجانبين، ويدور فكره مجدداً، لكن بعمليات حسابية هذه المرة، ويفشل كما العادة في الوصول إلى نتائج من خلالها. هو لا يطلب الوصول إلى أي نتيجة إنّما يريد الوصول إلى مقصده فحسب.

ويصل كما وصل كلّ مرة.. كتيار كهربائي مقطوع، أو كورقة يانصيب خاسرة، فلا يتمكن من إنجاز أي نقطة في برنامجه المتمرد.

يكتفي بعدها بالنظر إلى السماء فيلعن امتناعه عن التدخين، ويستعيد لحظة الصباح الأولى ألواناً تزهو بها الأحلام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً


.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع




.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو


.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05




.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر