الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البرفورمانس فناً والجسد هويةً

يوسف ليمود

2010 / 10 / 28
الادب والفن


مع مخاض الثورة الجنسية والاندلاع الطلابي في الستينات، انفلت الفن عن مساراته الحداثية الأولى إلى تشظٍّ تجريبي لم يكن ليخطر على بال السابقين على أزمانهم فيما سبق من زمن. إن حساسية جديدة مختلفة الجذر كانت قد بدأت تؤتي ثمارها. المرأة الفنانة، التي كانت، قبل منتصف القرن، لا مكان لها في عالم الفن إلا ما ندَر، أصبحت، في النصف الثاني من القرن ذاته ماردا عاريا يقول باللحم والحركة ما لم تحلم أن تقوله بالرسم على لوحة طوال تاريخها، في أي عصر مضى. وما كانت تطالب به، قبل منتصف القرن، من حقوق كامرأة لا تقل عن الرجل، أخذ مسارا جديدا يمس صميم هويتها الأنثوية ويسائل الحياة، ناهيك بسؤال التاريخ عن فداحة ما مورس فيها وعليها. نظرة الشك والتفكيك التي تغلغلت في مفاصل الجسد الثقافي في تلك الحقبة، جسّدتها وعبّرت عنها عروض الأداء (البروفورمانس) الناشئة حينها والتي فتحت الفن على آفاق ووسائل ووسائط شملت كل شيء يمكن أن تقع عليه العين في الواقع أو تعايشه البصيرة في الحلم، والجسد أحد هذه الوسائط بل هو مركزها. الحس الفني في عروض البرفورمانس يعتمد على جسد الفنان المؤدي أساسا، ليس فقط ما يقوم به، كجسد، من حركات وأفعال، أو ما يصدر عنه من أصوات، بل ما ينبعث منه كطاقة وإشعاع ومغناطيسية تجعل من مؤدي البرفومانس أشبه بالـ"جورو" الذي يقود اللحظةَ وحاضريها إلى بؤرة إشعاع يُحسّ رغم أنه لا يُرى. من قلب الستينات رأينا روادا لهذا الفن، منهم، مثلا لا حصرا، إيف كلاين في فرنسا، يوزف بويز في ألمانيا، هيرمان نيتش في النمسا، وفي أمريكا كارولي شنيمان وهانا ويلك... رغم تلك الفورة الثقافية التي لم تفرّق كثيرا بين هوية مؤدي البيرفورمانس الجنسية، ذكرا من أنثى، إلا أن اشتغالات الفنان الرجل في هذا الفن وأداءاته كانت (ولاتزال) مختلفة الطاقة والتوجه عن الحقول التي حفرت فيها الفنانة كامرأة، فثمة الحضور الايروتيكي للجسد الأنثوي كعنصر. استقباله، ايروتيكيا، بشكل اوتوماتيكي، من قِبل المتفرج، يحيل على آلية العقل الذكوري الذي سيّر العالمَ منذ فتح العالم عينيه، هذا ومن دون إغفال وعي فنانة البيرفورمانس بآلية استقبالها والتفاعل معها في عروضها كأنثى، إذ غالبا ما تحرص على وضع فاكهة جسمها في الأطباق التي تطبخها حتى لو كان طبيخها مراً. وسواء كان حدوث هذا بسبب من ضرورة فنية أو لنزعة تجارية تسويقية، ليس هو المهم هنا، فربما الحتمية الجسدية نفسها هي التي تفرض ذاتها، إذ لم يحدث أن رأينا فنانة تمارس هذا النوع من الفن من دون أن يكون لديها، جماليا، المؤهلات الجسدية التي قد ترقى أحيانا إلى حد الإغراء. لكن ساحة هذا الفن لا يمكن أن تستند فنيّتها وجماليتها وتعبيريتها على ظلال الايروتيكية، ذلك أن التفكير فيها يفرز الماء المفهومي للعمل، وهو ماء ممزوج بطمي الحدس، في أرض جسدٍ حاضرِ الروح والطاقة والبديهة، وسرعة هذه الأخيرة في تعاملها مع الـ "هنا والآن"، وتفاعلها مع طاقة المتفرجين وطاقة المكان ـ مسرح العمل.

فهل تمكن أو تجوز المقارنة بين توجهات وأداء فنان ألماني رائد مثل يوزف بويز وبين فنانة نمسوية كإلكا كريستوفيك، حين قام الأول بتجسيد فعل الاستمناء رمزيا عن طريق الرقود أرضا بملابسه وحكّ قضيب نحاسي لساعات، بينما قامت الأخيرة بممارسة العادة السرية استعراضيا عمليا وهي مستلقية عارية أمام الجمهور؟ أيا كان السياق الذي يدور في مجاله العمل والمعنى، حيث بويز، الذي كانت له تجربة هائلة الألم مع جسده في الحرب العالمية الثانية كاد يموت فيها، تناول الاستمناء من خلال علاقة الجنس بالطاقة الروحية، في حين تساءلت كريستوفيك في أدائها العادة السرية بهذا الشكل عن واحدية الروح والجسد، بالإمكان رصد الاتجاهين النقيضين للطاقة الذكورية ومثيلتها الأنثوية في تناول العالم ومفرداته وفي الطريقة التي يفردان بها هذه المفردات. السؤال: من أين هذا الاختلاف وهذا التضاد... وأكاد أقول هذا العداء؟ إنّ مسحا لتاريخ البيرفورمانس منذ ظهوره في الستينات حتى اليوم ليؤكد حقيقة انشغال معظم ممارِسات هذا الفن بمسألة الهوية الجنسية، النسوية تحديدا، بالتأكيد عليها، استعراضها، الحفر فيها، النبش في طين التاريخ الذي طمسها، الوقوع، نرجسيا، في بئرها كهاجس مثليّ بديل عن ذكورية كائن متعسف يمكن الاستغناء عنه.... إنها محاولات فضح تاريخ راسخ وبدء آخر، من خلال تفكيك كل الصيغ والقيم التي دمغتها ممارسات آلاف السنين بختم البديهي، الطبيعي، والذي لا جدال فيه. في هذا التعامل الفني المعاصر مع الجسد وعبر الجسد كأداة ووسيط، تنشأ مفارقة جديرة بالنظر وهي أن فنانة البيرفورمانس تستخدم جسدها كشيء، كأنه قطعة خشب أو بقعة لون... بينما المحتوى الذي يقوله ويؤكد عليه العرض شيء جوهري يمس صميم هوية المرأة وأعمق أعماق كيانها كأنثى وامرأة... وربما كنصف إلهة!

امتلاء المكان بالطاقة الجسدية الواعية للفنان، رجلا كان أو امرأة، هو شرط أساسي لفن البيرفورمانس. إنها ليست مسألة هيكل يتحرك ويحرك معه أشياء وعناصر ومفردات، بل مسألة حضور في الأساس: جسدا وروحا ووعيا. تحريك للا مرئ وجعله مرئيا. الفنان الرجل، سانده تاريخه الذكوري في تخطي جماليات جسمه أو أخطاء خِلقته (وخُلقه أحيانا)، فلم يعد بحاجة للدفاع عن قيم الذكورة أو حتى مجرد التساؤل عن مرجعياتها وأسسها، حيث غدة العالم الدرقية تفرز هرموناتها بغزارة في رقبته"هو" وليس في عنقها "هي". أما هي، أمامها طريق من الكفاح طويل وخطر لا تجد ما تستند عليه إلا جسدها، مسحوبة إليه بحكم تجويفها الغامض.

نمر هنا على ثلاث من الفنانات اللواتي ارتبط عملهن بالأداء الجسدي الحافر عميقا في ذاته وعلاقته بالآخر وبالتاريخ..

يوسف ليمود
مجلة جسد
يتبع: مارينا أبراموفيتش .. روح العالم في جسد الفنان








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أنا والست والجيران?? علاقة ممتعة بين مزاج صلاح عبدالله وصوت


.. كل الزوايا - الفنان أيمن الشيوي مدير المسرح القومي يوضح استع




.. كل الزوايا - هل الاقبال على المسرح بيكون كبير ولا متوسط؟ الف


.. كل الزوايا - بأسعار رمزية .. سينما الشعب تعرض 4 أفلام في موس




.. رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة يوضح الاستعدادات لعرض افلام