الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحلقة الخامسة عشرة من سيرة المحموم (15)

عبد الفتاح المطلبي

2010 / 11 / 2
الادب والفن


الحلقة الخامسة عشرة
من سيرة المحموم (15)

طوال ذلك الزمن منذ دخولي المشفى اول مرة ومروراً بانفطار قلبي واستبداله بمضخة الصفيح وطوال رقودي في الفراش وتجاوزي للاخطار المحيقة بي من كل جهة اثناء فترة نقاهتي كانت سيارتي الموسقوفية القديمة التي احببتها دائماً، رفيقة عمري القصير نسبياً لعمرها ، كنت قبل غزو الحمى اعتني بها جيداً ولكن بعد الذي جرى بقيت مهملة يغطيها التراب ويحاصرها من كل حدب وصوب، بدر الى ذهني وانا اقول هذه العبارة كأنني اخرج مخللاً من بين عفن ابيض كرغوة الصابون بدا لي كشيخ من اليمامة بعمامة بيضاء من ايام الفيل يخرج رأسه من بين المخلل ليقول لي ان عندهم كثيراً من الحدبِ والصوبِ وثنيات الوداع مما اثبت لي ان العرب لا ينسون احفادهم قديماً.. لكنهم اليوم يمارسون لعبة لطالما أجادوها ، هي لعبة الجذور انهم يحفرون يبحثون عن جذور، في كل مكان ويتغافلون منذ كثير من الزمن عن قوافل الدهر المتحضر دون غزوهاو من دون شرائها ، لكنهم جميعاً ينظرون اليها بعيون فارغة وافواه فاغرة .. هذا العالم الذي اذا اراد ان يفعل، يفعل ذلك بضغطة على زر ، اما نحن فلازلنا نذبح بالسيف على نفس قواعد الجذور ونختطف المارة، كجنود هامان، وعند هذه النقطة رأيت انني انحرفت كثيراً عما كنت اتحدث عنه، عن سيارتي الموسقوفية التي غسلتها وفحصت زيتها ووقودها فأدرت محركها فدار وتلك عجيبة ثامنة، وكأن شيئاً لم يحصل خلال ثلاثة وثلاثين عاما من عمرها الطويل ، فهي من مواليد القرن الماضي ونحن هنا في قرن آخر زمان ما بعد الهياج الجمعي، وعيد علي بابا الوطني في هذه الايام التي لازال فيها الكثير من موظفي حكوماتنا القصيرة العمر كدورة حياة الذباب مصرين على اقامة هذا العيد على طريقتهم الخاصة التي صارت مباحة للجميع ، حيث لا من يشوف ولا من يدري والناس مشغولون كلٍّ بشأنه وكل شؤونهم محفوفة بالمخاطر في زمن الحمى تخيلوا دار المحرك العجوز بعد ثلاث وثلاثين من السنين وكأن لم تكن هناك بروسترويكا روسية ولا عولمة امريكية ولا امجاد عربية التي تذكرني دائماً بالحصان وعند ذكري للامجاد والحصان قفز الى مخيلتي خيال مجلة كانت تصدر في بيروت في ستينات القرن الماضي كان اسمها مجلة العالم، حيث كان العالم كرة مرسومة على الطرف الايسر العلوي من المجلة وعلى اليمين خطت كلمة العالم وكانت الميم هي العالم.. المهم ليس المجلة ولا العالم انما ذكرني ذلك بباب ثابت ثوبتاً ملحوظاً كان يحرره احدهم بعنوان "اللهم الهمني غزوه" وبجانب العنوان يقف فارس اسود على حصان اسود ممتشقاً سيفاً اسود وهذا الفارس كله أسود من دون ملامح وكأنه يقول صارخاً "اللهم الهمني غزوة" اكاد أسمعه ، فحرك لون الفارس الاسود نقطة في منطقة الذاكرة من تلافيف مخي، ارجعتني الى ايام الطفولة، كنت ولداً مشاكساً وكان لأمي تنور من طين وحطب كثير وعندما كانت امي تغسل عباءتها تنشرها على الحبل لتجف.. كنت كفقاعة في قدر يغلي لا استقر بمكان واسبب ازعاجاً لأمي، وكانت الريح تعبث بكل شيء وسط الحوش فتنتفح عباءة امي لتكون شيئاً اسوداً مخيفاٍ.. ولمنعي من ارتكاب جرائمي الصغيرة كانت امي تحذرني من ان الله سيغضب علي مشيرة بسبابتها الى منارة الجامع خلف بيتنا وكان دائماً بالقرب مني يوجد الله وحيث ان اصبع امي كان يشير باتجاه المنارة كانت عباءة امي بنفس الاتجاه .. وحين اسمع الريح فأمد عنقي الى خارج الغرفة فأرى هذا الشيء الاسود المخيف المنتفتح الذي يرفع يديه القصيرتين الممتلئتين نحوي بحركات لا تخلو من عنف مهدداً ومتوعداً فأظنه الله الذي سيغضب فأهرب الى السرير مغطياً رأسي باللحاف السميك.. لا أدرِ ما نفع جركم الى مثل هذه الحكاية لكن اللون الاسود للفارس الاسود الذي يركب حصاناً اسود صارخاً" اللهم الهمني غزوة" وبخبث واضح كان الكاتب يوجه افكار القارىء الى ان اجدادنا في صحراء العرب كانوا مجرد ممتهني غزوة وقطاع طرق، ذبيان تغزو عبس وهذيل تقطع طريق القوافل وخزاعة تبيع سدانة الكعبة بزق خمر تماماً مثل البدو الامريكان اليوم كل يوم لهم غزوة متفائلين بثقتهم بالله على الدولار الاخضر.. الحمى تغزو جسدي العليل، بسبب اخي الكبير وقصور فهمه لوضع الحمى الدولي.. اجدادنا العرب وصقور الامريكان جميعاً كانت لهم اسبابهم الاقتصادية، اولئك كانوا يجوعون فيغزون وهؤلاء متخمون فيغزون كنوع من الرياضة لازالة التخمة رغم ان ذلك لا دخل له في اقتصاد السوق.. فهم يلقون بالقمح والرز الفائض الى البحر لكي لا ينحط سعره، يصنعون حروباً وغزوات ليكثر المشردون واللاجئون والجياع فيزاداد الطلب على الرز والقمح فيتوقفون عن القائه في البحر ... ليس ذلك مهماً الغزوة ، هي الغزوة من ايام عبس الى ايام قبائل امريكا ثم تتغير الامور، ناس تغزو وناس تقتلهم وتستولي على ما عندهم بقوة السلاح سواء كان سيفاً اسود أم صاروخاً اسود، حديد الهند ام قصدير امريكا اللاتينية، هذه الغزوة كالمسمار لم ليتغير شكله وعمله منذ فجر التاريخ ، فقد استعمل النبي نوح (ع) هذا المسمار في بناء سفينته، نفس مسمارنا الحاضر، بطرفه المدبب وجسمه الناحل ورأسه العريض الذي يطرق عليه، دائما.. ورغم انني معترف باني مهذار لكن ماا لعمل، شيء يجر لشيء آخر كحديث نسوة في حمام سوق وانا لا اقوى على مقاومة ما يجرني ، انا بقلب من صفيح وكنت اتكلم عن سيارتي الموسقوفية عندما قلت الخيط وراح بعيداً من سيارتي...
خرجت ذلك اليوم بسيارتي الى الشارع عبر الباب العتيق الذي يكفي بالكاد لمرور السيارة ، لكنني فعلت ذلك لآلاف المرات قبل غزو الحمى الجسدي من دون أن تخدش سيارتي لا ادري ما الذي حدث ، صدمت دعامة الباب فانخلع مقبض باب السيارة الايمن الخلفي، لكن الحمى ذكرتني بان الامور اختلفت وانا من دون عيني الثالثة لذلك خانتني المهارة انها احياناً تخون كانت على حق ولكي لا يفتضح امري واصلت قيادتها الى الشارع واضعاً بحسباني ما نبهت اليه الحمى قالت انها محنة بالنسبة لك، فالراكب ليس كالماشي.
ومن يمتلك عينين ليس كمن يمتلك ثلاثة، رأيت انني في محنة فرجعت ادراجي الى البيت واثناء دخولي كما كنت افعل دائماً كسرت المقبض الخلفي الايسر فصارت سيارتي بلا مقابض كالاصلم..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قصيدة الشاعر عمر غصاب راشد بعنوان - يا قومي غزة لن تركع - بص


.. هل الأدب الشعبي اليمني مهدد بسبب الحرب؟




.. الشباب الإيراني يطالب بمعالجة القضايا الاقتصادية والثقافية و


.. كاظم الساهر يفتتح حفله الغنائي بالقاهرة الجديدة بأغنية عيد ا




.. حفل خطوبة هايا كتكت بنت الفنانة أمل رزق علي أدم العربي في ف