الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القابض على الجمر.. يوميات قاسم عبد الأمير عجام

سعد محمد رحيم

2010 / 11 / 3
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


لا أعرف كتّاباً عراقيين كثيرين نشروا يومياتهم، وأحسب أن أغلبهم لا يميلون إلى هذا النوع من الكتابة لأسباب شتى. وقد يكتبونها من غير أن يفكروا بنشرها، وهذه لها أسبابها كذلك، ولست، الآن، بصدد الخوض، في هذا. ولا أدري إن كان المبدع الراحل قاسم عبد الأمير عجام يروم نشر يومياته في حياته، أو بعد وفاته، تلك التي كتبها، مع انقطاعات تطول أو تقصر، على مدار ما يقرب من الأربعين سنة، فجمعتها وحررتها، بعد حادث اغتياله المروّع الناقدة الدكتورة نادية غازي العزاوي. لتنشرها في كتاب عنونته بـ ( القابض على الجمر/ دار الشؤون الثقافية العامة 2009 ) مع مقدمة ثرية تضيء جوانب من شخصية الكاتب، ومن خواص هذا العمل الدؤوب وملابسات كتابته والعثور عليه. وأعتقد أن هذا الكتاب يعد وثيقة لها قيمتها التاريخية والأدبية، مثلما تؤكد العزاوي، فعبر مذكرات قاسم ويومياته ورسائله نتعرف على الخطوط والأبعاد الخفية لا لذات الكاتب وحدها وإنما، أيضاً، لطبيعة المرحلة التاريخية، بتحولاتها وأزماتها وإشكالياتها، التي شكّلت خلفية بانورامية لتلك الكتابات، لتنعكس بالتالي على بنيتها الشكلية وشبكة دلالاتها.
تخبرنا الدكتورة نادية العزاوي، بدءاً، عن ثلاث مفاجآت صنعت هذا الكتاب؛ مفاجأة استشهاد قاسم على يد مجموعة إرهابية في 17/5/2004. ومفاجأة يومياته التي وقعت بين يديها، ومفاجأة سيل الرسائل التي تلقتها من معارفه وأصدقائه والمتضمنة تفاصيل غنية عن حياته. تقول العزاوي عن هذه اليوميات أنها "لم تنتظم ضمن ( شكل ) محدد، فهي أحياناً أقرب إلى أسلوب ( المقالة ) الذاتية. وأحياناً تتوسل بالسرد القصصي، وتارة تكون خواطر ومنولوجات وتارة تبدو رؤوس نقاط لمحاضرة أو دراسة، أو عروضاً لمجلات وكتب، بينما كُتب البعض الآخر منها بصيغة رسائل شخصية". ولا عجب في هذا طالما أنها ( أي هذه الكتابات ) دونت في فترات متباعدة وخلال مدة زمنية تصل إلى أربعة عقود، ومن غير أن يكون في ذهن كاتبها بأنها تمثّل مشروعاً أدبياً موحداً مثلما يكتب المرء رواية، أو بحثاً في موضوعة معينة.
في أوراقه ( يومياته ) يتحدث قاسم عن تجربته التي هي تجربتنا، عن أحلامه وأحزانه وإحباطاته التي لا تختلف عن أحلامنا وأحزاننا وإحباطاتنا.. ما خبره وخبرناه، ما عاناه وعانيناه. ولذا فإن القارئ العراقي الذي خضع للامتحان الاجتماعي والسياسي والوجودي ذاته، وإنْ بتفاصيل ودرجات متباينة، لابد أن يفهم ما لن يفهمه بدقة أي قارئ آخر مهما كانت درجة ذكائه وقدرته على التحليل وفك شفرات النصوص. فدوماً نجد، إلى جانب الجمل البسيطة الواضحة والمباشرة، جملاً مخاتلة وماكرة بحاجة مثلها إلى قراءة مخاتلة ماكرة ( غير بريئة ) تنفذ إلى ما وراء السطور، إلى لا وعي الجمل والنصوص، لتلمس مقاصد الكاتب، وما بذره ثمة من دلالات كثيفة مغلّفة. كذلك فإن مقاطع اليوميات الواضحة، غالباً ما تخفي فراغات عديدة تومئ إلى ما سكت عنه النص، إلى ما لم يقله وتركه لفطنة القارئ. فقد كان قاسم يكتب وفي ذهنه الرقيب، عين السلطة المتلصصة القادرة على الولوج إلى مخابئ أسرارنا، مهما احتطنا وفعلنا. وأرى أن قراءة موضوعية تحفر في طبقات هذه النصوص ستمنحنا صورة لا عن وضعنا الاجتماعي والسياسي، في فاصلة زمنية متوترة من تاريخنا وحسب، بل وعن طبيعة أنظمة الحكم التي تعاقبت على إدارة الدولة العراقية لاسيما المستبدة والديكتاتورية منها. وحالة الخوف والتردد والشعور بالحصار النفسي والفكري التي فرضته علينا.. نقرأ في سبيل المثال، ما كتبه يوم 25/12/1978 بعد عودته من سفره إلى الاتحاد السوفيتي السابق؛ "إنني لا أكتب عن الرحلة إياها بل عن الإنسان المحاصر بالخذلان الذي أصبحته وأصبحه الآلاف، فعندما يُحسم الأمر ويكون الخيار بين الموقف والاستسلام فالحقيقة تستقيم مع اختيار الموقف ولكنك لن تستطيع لأنه الموت، وهو التضحية الواجبة ولكن الحال تشهد مئات الاستثناءات فالناس غير الناس والقضية في سفينة تغرق... المحنة أكبر من كل الكلمات حقاً، ويكفي أن بعض صورها هو الخوف الذي يشل القلم أن يكتب عنها حتى على هذه السطور التي تفترض أنها آمنة، ولكن هل عاد لنا شيء أي شيء من أمان".
في الأشهر الأولى من العام 1967 يكتب قاسم بحماس عن حرب مرتقبة، ومبادرات تتفجر بالحياة، وسقوط الأقنعة.. عن عالم جديد لا مكان فيه للظَلَمَة، لكن الكارثة تحل في حزيران من العام ذاته. ويتكشف الوضع عن زيف مريع. فماذا يقول، هو الضاج بالأمل وبأوهام الشباب، تماماً مثل أبناء جيله.. سيشير من طرف خفي إلى حديث يؤلمه عن المعركة فلا يريد الخوض فيه.. يهرب من عبء الهزيمة على روحه ليحكي لنا عن الفلم العراقي الذي شاهده لتوِّه: ( الحارس ).. يكتب بضعة أسطر قبل أن يسكت سنة كاملة. وفي هذه الأثناء يكون نظام الحكم في البلاد قد تبدّل بانقلاب عسكري وجاء النظام الجديد ـ القديم بوعود معسولة لتتبدى حيرة قاسم وشكوكه. ولن يومئ بكلمة واحدة عن هذا التغيير.. إن صمته يفضح اضطراب فكره فتتباعد فترات كتابته لليوميات. ونادراً ما يخبرنا هنا عن أحداث تمر به.. يكتفي بتدوين أفكاره ومشاعره وهواجسه ومخاوفه.. يتلمس طريقه إلى الحقيقة في الضباب من غير علامات دالة تعينه سوى ثوابته المبدئية.. يتفاءل أحياناً قبل أن يبدأ بالارتياب ثانية.. ينشد ثورة حقيقية، اشتراكية في مضمونها، ويحلم بنصر على الأعداء، لكنه يعي جوهر المعضلة؛ "وحين نتهيأ لحرب العدو نحارب بذراع واحدة ونوجّه السلاح نحو صدور أصحاب القضية.. نشتم العدو ونغذّي مموليه بالحياة والوقود ونفتح أسواقنا لإنتاجهم" 25/6/1970.
تمتد حيرته إلى خياراته في مجال الثقافة فتؤرقه دوماً تساؤلات من قبيل إن كان عليه أن يقرأ أو يكتب. وماذا يقرأ وماذا يكتب؟ وما المنهج الذي يجب إتباعه في الحالين؟ "لماذا لا أبدأ بغالي شكري أو نجيب محفوظ أو السباعي أو بإحدى القضايا المهمة في حياتنا كقضية اليسار أو الصراع الأدبي"!.
تواصله في كتابة اليوميات وكفـِّه عنها في فترات تطول أو تقصر يعكس جانباً من تغيرات مزاجه النفسي وظرفه الاجتماعي، وأيضاً تقلبات الوضع السياسي من حوله. لنأخذ مثالاً ذا دلالة لا تُخفى حول انقطاعه عن تدوين يومياته ( من 27/2/1971 إلى 8/8/1978 ) وهي الفاصلة التي شهدت طرح شعارات الجبهة الوطنية وولادتها ومن ثم اضمحلالها. وسيكون صريحاً جداً فيما يتعلق بالحصار المفروض، الآن، على من هم مثله، حيث لا يستطيع أن يتخذ موقفاً "وهل يستطيع أحد أن يقرر؟ وهل بمستطاع أحد في بلادنا أن يقرر لنفسه موقفاً؟" 6/1/1979. وبعد خمسة أيام يكتب؛ "أخيراً وقع المحذور، جاء أحد ( زوار الفجر ) واقتادني من الدائرة إلى المركز ومنه إلى المقر حيث مات الذي أحكي لك قصته وخرج من عنق الزجاجة شخص آخر مخذولاً.." 11/1/1979. هكذا سيكون له ماضٍ مسطّر في تقارير وملفات أمنية، يلاحقه في عمله ويحول دون إكماله لدراسته العلمية.
خلال الحرب العراقية الإيرانية سيعاود الكتابة بلغة مواربة حذرة. ويشرع بسرد تفاصيل عن تجربته العسكرية: عن همومه اليومية الاعتيادية في الجبهة، عن علاقاته بزملائه، عن قراءاته هناك، عن أشواقه وأحزانه وتمزقات روحه. ولن يختلف الأمر مع الحوادث الجسيمة اللاحقة؛ احتلال الكويت وحرب الخليج الثانية والحصار الاقتصادي ومن ثم احتلال العراق.
إن قراءة نقدية متأنية لهذه اليوميات ستكشف عن تطور أسلوب الكاتب ولغته، والكيفية التي بها يؤسس سرديته الخاصة. وعلى الرغم من غلبة الطابع الإنشائي على صفحات كثيرة إلاّ أننا لا نعدم متعة قراءتها لاسيما وأن قاسم ينقل قصته ( وقصتنا ) مع السياسة والسلطة والحرب والحب والأوجاع والخيبات والآمال الكبيرة. وأعتقد أن الفصل الأول الذي تضمن رسالة طويلة كتبها لأخيه في 1/11/1995 ومقالة بعنوان ( تجربتي مع الصحافة ) كتبها في العام 2000 لا يقل إثارة عن يومياته وربما يفوقها درجات في المنظور الإبداعي. فالرسالة مفرطة الصدق كتبت بعفوية، كما لو على لسان طفل، وفيها يحكي عن طفولته، وعلاقته بأبيه وعائلته، عن مدرسته ومعلميه. وعن أول تعرّفه على عوالم الثقافة والسياسة تلك التي ستغريه بولوجها ليدفع ثمن ذلك، فيما بعد، غالياً؛ حياته. فبيننا من ( ينحر أقمارنا المضيئة ) على حد تعبير د. نادية العزاوي في إهدائها الخاص لي لهذا الكتاب الذي لابد لكل مثقف عراقي أن يقرأه بعقل منفتح وحس تاريخي يقظ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - المحترم سعد محمد رحيم
عبد الرضا حمد جاسم ( 2010 / 11 / 4 - 19:06 )
تحيه وتقدير
لم أنساه ولن...ولكن ما كتبت أعادني الى عام 1973 عندما تعرفت عليه وهو يدرس الماجستير في كلية الزراعه..كان أباربيع ربيع دائم في التفكير والفكر وفي الأبسامه والدماثه وفي الجد واللهو وفي الحب..كان لايعرف الكره واغدر والتملق كان رقيقاً برقه الحديد الصلب وكان صلباً بصلابة الرازقي
أبا ربيع...لااعتقد ان الموت يعرف من يختار ولكن الجبن والبداوه واغباء هي من أختارت
في استضافة السيده خيريه حبيب له في برنامجها الأسبوعي(لا اتذكر اسمه)ولكنه عن السينما..انقطعت هذه الأستضافه وعند استفسارنا منه عن ذلك قال:
ان المسؤول عن الأذاعه والتلفزيون وأعتقد أنه محمد سعيد الصحاف قال له انت ناقد
تلفزيوني او فني أبتعد عن الجمل السياسيه التي تقوم بتعبيرها من خلال نقدك ..فانقطع
عن ذلك وكان الصحاف قد ربط بين تاريخ الجميله خيريه حبيب السياسي العائلي وبين فكر أباربيع
كانت خيريه حبيب بنت من قالوا عنه
ماكو شيوعي بالكَاع أله حبيب الركَاع
ولنا عوده الى ذلك
تحيه الى أبا ربيع الخالد والخزي لكل من نغص عليه اجواء الكتابه والتي حرِمت منها الناس
وبعد احداث 1978م1979 بكثير زرته في دار سكنه في مشروع


2 - المحترم سعد محمد رحيم
عبد الرضا حمد جاسم ( 2010 / 11 / 4 - 19:12 )
زرت ابا ربيع في سكنه في مشروع المسيب الكبير..مع رفاق وجدناه كما هو مبتسم دقيق اليف جميل ولكن ممتنع عن الكتابه ومعتكف منتضر في اي لحظه زوار الليل وفي وقتها صار لا فرق بينهم وزوار النهار
كان كما هو حالم بعقل سياسي محترف وكاتب متامل ورجل وظيفه متنور
لليوم لا اعتقد انه كان المستهدف لأنني على يقين لم ولن يفكر احد مهما كان موغلاً بالأجرام من إيذاء الشفاف ابا ربيع

اخر الافلام

.. ولي العهد السعودي بحث مع سوليفان الصيغة شبه النهائية لمشروعا


.. سوليفان يبحث في تل أبيب تطورات الحرب في غزة ومواقف حكومة نتن




.. تسيير سفن مساعدات من لارنكا إلى غزة بعد تدشين الرصيف الأميرك


.. تقدم- و -حركة تحرير السودان- توقعان إعلاناً يدعو لوقف الحرب




.. حدة الخلافات تتصاعد داخل حكومة الحرب الإسرائيلية وغانتس يهدد