الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العمل الفني الأعظم

صبحي حديدي

2004 / 9 / 14
الادب والفن


سال حبر كثير، وكثيف مشحون ثقيل إذا صحّ القول، في وصف ما جرى يوم 11/9/2001. وهو أمر يسهل فهمه وتفهمه بالطبع، ليس بسبب مأساوية الحدث ذاته وأعداد الأرواح البريئة التي يمكن أن يزهقها الإرهاب الأعمى فحسب، بل أيضاً لأنّ الهزّة لا تخصّ البشر في بوروندي أو بغداد أو بلغراد أو بلفاست (لكي نختار متتاليات حرف الباء فقط!) بل تخصّ عدداً كبيراً من مواطني القوّة الكونية الأعظم، والأوحد. العالم تذكّر ويتذكّر جيداً، ليس دون قشعريرة رهبة، أنّ فظائع هيروشيما وناغازاكي كانت أوّل أثمان استهداف الأمريكي في بيرل هاربر!
وثمة، في ذلك الحبر الذي سال ويسيل اليوم أيضاً، عشرات التصريحات التي ذهبت مذهب المَثَل الشائع أو القول المأثور، حيث تبارى البعض في جعل البلاغة تسير على عواهنها، وفي إطلاق الاستعارة والمجاز والأمثولة بدائل عن حقائق على الأرض، صلبة ودامية وكارثية. وإذا كان الساسة والمعلّقون والصحافيون وكتّاب الخطب قد استأثروا بحصّة الأسد في تلك الحمّى اللفظية، فإنّ أهل الفكر والأدب والفنون أدلوا بدلوهم أيضاً، ومن الإنصاف القول إنّ بعضهم حاز قصب السبق وتفوّق وحلّق!
"روح الإرهاب"، مقالة المفكّر الفرنسي ما بعد الحداثي جان بودريار التي نُشرت في صحيفة "لوموند" الفرنسية بتاريخ 2/11/2001، نموذج كلاسيكي أوّل. صحيح أنّ الرجل عوّدنا على خبطات غير معتادة في قراءة الأحداث النوعية الفاصلة (كما حين كتب مقالة شهيرة بعنوان طحرب الخليج لن تقعط، وذلك قبل اندلاع عمليات "عاصفة الصحراء"؛ ثم كتب مقالة ثانية، ليست أقلّ شهرة، بعنوان "حرب الخليج لم تقع"، وذلك... بعد انتهاء العمليات العسكرية!). إلا أنّ موقفه من هزّة 11/9 كان يذهب أبعد في التحليل كما في الفانتازيا السوداء. ويكفي التذكير بأنّ مقالته تلك تبدأ هكذا: "... خلال التسعينيات الراكدة توفّر ما يشبه الإضراب عن الأحداث، حسب تعبير الكاتب الأرجنتيني ماسيدونيو فرناندي. حسناً، لقد انتهى الإضراب الآن. ولعلّنا، مع الضربات التي نالت من مركز التجارة الدولي ونيويورك، نواجه الحدث المطلق، أمّ الأحداث، الحدث الخالص الذي هو جوهر كلّ الأحداث التي لم تقع".
مواطنه وزميله في الفلسفة، التفكيكي الأشهر جاك دريدا، أثار أسئلة شاقة وبمنأى في الآن ذاته عمّا تطرحه أسئلة التيّار العام السائد: مَن الذي منح الحقّ في تحويل 11/9 إلى اسم وتسمية، وبالتالي إلى فعل لغوي يستحدث تاريخاً، أو يصنع حدثاً غير مسبوق؟ من أين أتى إلينا، وكيف فُرض علينا هذا الأمر، 11/9، الذي يمثّل في حدّ ذاته تهديداً لنا؟ ألسنا بحاجة إلى فكر فلسفي جديد، لكي يتسنى لنا الإستيقاظ من هذا "التنويم العقائدي"؟ ألا يتحوّل شخص أسامة بن لادن إلى اسم مجاز ؟ ما معنى السيادة فعلياً، وما معنى سيادة الولايات المتحدة بالذات؟ ما العولمة؟ وهل حدثت حقاً؟ ما هي حقائق الحرب على الإرهاب...
شخصياً أعتبر أنّ التصريح الأكثر غرابة وخطورة وقدرة على إحداث الصدمة، صدر عن الموسيقيّ الألماني الكبير والشهير كارلهاينز ستوكهاوزن، بعد أسبوع واحد فقط على انهيار برجَي نيويورك. لقد انتهك ستوكهاوزن المحرّم اللفظي والأخلاقي، وهذا صحيح تماماً ربما، لكنه في نهاية المطاف عبّر تماماً عمّا يجول في خاطر الملايين على امتداد العالم. وإذا كانت منعكسات أفكار بودريار ودريدا والعشرات سواهم لم تتجاوز الصدمة أو العجب أو الاستنكار، فإنّ تصريح ستوكهاوزن جلب عليه عواقب وخيمة: إبنته، عازفة البيانو، تخلّت عنه (وكان يومها في الثالثة والسبعين من العمر)، وأعلنت أنها لن تقبل الاقتران بكنية ستوكهاوزن بعد اليوم؛ ومهرجان هامبورغ الموسيقي ألغى حفلات ستوكهاوزن، رغم أنه نجم المهرجان بلا منازع؛ وردود الأفعال العالمية، والأمريكية خصوصاً، كانت شديدة القسوة والعنف و... البذاءة.
ستوكهاوزن بدأ تصريحه، وكان في مستهلّ حفل موسيقي، بالطلب من سائليه عن 11/9 أن "يقلبوا أدمغتهم في استدارة تامّة"، لأنّ ما حدث هو "العمل الفنّي الأعظم حتى اليوم"! وأيضاً: "هؤلاء [الذين نفّذوا الهجوم] استطاعوا أن يحققوا في فعل واحد ما لا تحلم الموسيقي بتحقيقه: أن يتمرّنوا بجنون طيلة عشر سنوات، في هوس تامّ، من أجل حفل موسيقيّ واحد يموتون بعده. هذا هو العمل الفنّي الأعظم على امتداد الكون بأسره. أنا لا أستطيع القيام بهذا. ونحن، مؤلّفي الموسيقي، لا شيء أمام ذلك الفعل". وأخيراً: "بعض الفنّانين يحاولون أيضاً عبور حدود ما هو ممكن أو قابل للتخيّل، كأن يفلحوا في إيقاظنا، أو في فتح عالم جديد أمامنا"!
يبقى التذكير بأنّ الرجل ليس مختلّ العقل، وهو يتمتّع بمقام رفيع في الموسيقي الكلاسيكية، إسوة بموقعه الفريد في الموسيقى الإلكترونية والمعاصرة. وذات يوم، سنة 1969، أصرّ على تنظيم حفل موسيقيّ مشهود في مغارة جعيتا شمال العاصمة اللبنانية. ولست واثقاً أنه، ورغم سحبه التصريح بعد ساعات معدودات واعتذاره من الضحايا، تراجع ـ في دخيلته، بالطبع ــ عن الإيمان بأنّ 11/9 هو العمل الفنّي الأعظم!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يسعدنى إقامة حفلاتى فى مصر.. كاظم الساهر يتحدث عن العاصمة ال


.. كاظم الساهر: العاصمة الإدارية الجديدة مبهرة ويسعدنى إقامة حف




.. صعوبات واجهت الفنان أيمن عبد السلام في تجسيد أدواره


.. الفنان أيمن عبد السلام يتحدث لصباح العربية عن فن الدوبلاج




.. الفنان أيمن عبد السلام يتحدث عن أسباب نجاح شخصية دانيال في ل