الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رسائل اليبرالي الجميل

بديع الآلوسي

2010 / 11 / 4
الادب والفن


الى/ الشهيد كفاح فخري

اربعون يوما ًمن الحداد الواجم قد إنتهت ، نوبات العويل هدأت ، تفكك الزمن الفائت ، إضطرب ، عاود الإنسياب في مساره الحافل .
قلت : حسنا ً، بماذا ستفيض أرواحنا لو مرة واحدة أديت الواجب وخصصته بالزيارة ؟.
بغتة ًخُسفت بنبأ مفزع : محترف الألغام مات بسيارة إرهابية مفخخة .
ما يثيرني حقا ً ، هو إحجام رفيقي ابا الندى عن الجهر بالوعكات الروحية التي عكرت حياته وقلبتها راسا ً على عقب .
واأسفاه ....وا أسفاة لو... .
اغتياله البربري ، مصيبة ثكلتني ، هكذا إذن و بلمح البصر ، توارى عنا هذا الليبرالي المؤدب مكرها ً، مبتعدا ً ، مبتعدا ً عن مشهد حياتنا المضطربة .
تساءلت بحسرة وإحتجاج : يا خالقي لِم َ خطفت صاحبي ؟ .
********************************************

نعم ، بعد منتصف الليل البارد باغتني ابو الندى الليبرالي من خلال الأنجيل ، حينها كنت امعن النظرفي الرفوف باحثا ً عن وصف للقيامة في الكتاب السماوي، تهاوت رسائله الجبلية العشر والتي هجعت حبيسة برفقة الأنبياء .
كثافة هذه الأسرار شحنت المكان بحدث مضاد وغير متوقع ، توهج عقلي بالمفاجأة ، انصرفت اتصفح الوريقات كأني اراها للمرة الأولى، وهي تتعالى على الموت حقيقة تدنو وتغيب .
هي الحيرة اولا ً ......تطاول نرجسي ان نتصفح مشاعر من غادرونا ، لما تخفي بين طياتها من علامات بريئة محملة بالشهادات.
قلت : الأفضل أن أعيد ترتيب المكتوب ، لكي لا نموت .
لم يفسد الوقت الدوار بريق رسائله النزيهة التي تنأى الى ربع قرن، بينما كنت ارنوالى اناقتها الموغلة في دروب الغربة والمشقة ، طالني الإستغراب لكثرة النجوم او الورود التي احتوتها .
يسألني في اغلب المكاتيب : متى واين سنلتقي ؟
لم ارتب حالي حيئذ لرؤيته قلت : ان نفعل ما نشاء ومتى نشاء ليس بالأمر الهين .
تذكر خواطره شؤونا ً عن رحلته :(( مخيلتي تحاصرها نساء روسيا الطيبات الى حد السذاجة المفرطة ، لا ...ادري لو ... )) .
يتوارثني حزن مشوش محفوف برائحة الندم الخائب ، لماذا لم اجهد نفسي او احسم أمري للالتقاء به ؟.
هكذا اذن ، حظنا إقتصر على سلوى المراسلات المشاكسة ، المترعة بالمتعة والمناصرة والتي ساعدتنا حتما ً على تخطي محنتنا اوالتسامي على الأخطاء الآدمية الفجة ؟.
كنت اتطلع أن يبين لي الفرق بين الإحباط المفاجيء والإيمان بغد أفضل ، لكن لا ادري لماذا وكيف كان يتحاشى الأمر ؟
الحياة بمنعطفاتها لم تتح لنا الفرصة ولو بلقاء عابر، نتكاشف او نتشاجرمن خلاله، هذا عزاؤنا اللامرئي .
توقفت متنفسا ً هفيف الإنثيالات التي عصفت بنا ، نعم تكالبت علينا الأحداث ، شغلنا بحروب جبلية متناثرة ، سحقنا بإحباطات المنفى فيما بعد، عندها إفترق ابو الندى الليبرالي عني وعن خصوصيات الاستأناس بما هو مبهج.
حين يسألونني : كيف عرفته ؟
أرد بإيجاز: في جبل متين كانت المصادفة .
مذهلة هي الذكريات ،حنان رسائله المتحدية تشحن ذاكرتي برفض الموت ، اكتشف من جديد إن لكل منها حدث خاص يعنيننا ، وموقف نتوحد به، كذلك رغبة ترصد التحولات ، بالإضافة الى كونها حلم متفائل ينتظر إجابة منعشة .
يهمس لي بأدب (( لقد مارست طقوسي ...لكن اعتقد إن تأمل حواسنا بعناية حالة مخيفة ومتعبة رغم بساطتها ، وقد أكون ......................... )).
نافذة الرسائل هرعت بي لكي ألامس عصب الغياب وجدوى الحضور ، إمتلأنا بأشياء كثيرة حينما كنا معا ً نمتهن لعبة حرب العصابات المنهكة ، انتظرنا أمل الخلاص بصبر، نعم سعدنا بتراقص النار ، بترف التعاليل، بنضج الثمار ،، بشهوة الطواف، بنعمة الحرية في ذلك الجيب الآمن*.
مرارا ً الرفاق الذين يعرفونه عن قرب يقولون : أبو الندى وديع ،صموت ،عصامي، ليبرالي ، يفرط بشرب الشاي ويفضل النثر على الشعر.
ها هو يستدرج بشكل ذاتي وصادق محاولا ً الراحة :(( مصيبتنا يا اخي إننا طيبون نغرم بمباهج التفاصيل المهيجة، نحن نُدهش كالأطفال ، مع ذلك يجب أن نكبت حواسنا التي .....))
يا له من ليل سخي، تنتصر فيه الوريقات المسالمة والمسكونة بالافتراضات والحقيقة، إنها وفية لذاكرة الإنتماء والأنصار*، لا بد إنها تتلصص الى وحدتي كما استرق النظر الى جمالها الحي او الى ماضيها الذي يخص عواطفنا المتوجسة ، قناعاتنا المترقبة ، خيباتنا المزعجة ، فراقنا عن من نحب .
ارهف السمع تطاردني بسؤال خاطف : ما الفارق بين لحظة الولادة لحظة الموت ، اليس كلاهما إنتصارا ً لاهوتيا ً بإمتياز ؟ .
يعرف صاحبي ان الشجرة انقذته ، لذلك يتطاول على الوجع ويكاشفها : انا امضي الى الخضراء فهي لا تشي بأحد ، شامخة ، أليفة ، عنيدة ، نَضرة ، معطاء، ظليلة ، إنها ملكة المكان .
صيفا ً ، صرعته ولم تبارحه هواجس الحنين في غفلة ٍوبخشونة ، تمادت بكتريا التيفوئيد وكادت ان تسحقه ، هدت القشعريرة قواه .
ازعجتني ،اربكتني ، هزتني رسالته المعفرة بالهزيمة المنتصرة .
يصرح بائحا ً، نائحا ً :(( بلا إشراقات ،مواجع سوداوية مسكونة بالتأويل ، محنتي الحالية تتعدى كونها خواء يعذبني او يهددني بالأنتحار ، الروتين يتقاذفني من هوس الى جنون ، سأعترف لك يوما ً لكي لا نهزم ، فلكل متاهة بوصلة ،اتظن أننا.... )) .
عرفت انه يواصل وبلا ضجيج مسيرته بين قرى : كردية ، مسيحية ، يزيدية ، مفتونا ً بارض كردستان المحررة ،العصية على الفهم والطاعنة بالبدائية .
يقول مبهورا ً بغموض ما حدث : (( طريق الأنسحاب كان طويلا ً طويلا ً ، فجأة سمعنا هدير الطائرات ، تحول الواقع الى كابوس متجبر، احتمينا بالحجر والشجر ، هتاف الموت قد لامس ارواحنا بالخطر الدامي ، يا له من يوم ملعون ، لكن دفع الله ما كان اعظم، رغم ذلك اتعلق برباطة ال ... )) .
حين استلمت رسالته التي ترصد واقعة المحاصرة تلاشت معنوياتي وولجت في وجع خانق .
شاءت الأقدارالحمقاء أن تنفصل عن عوالمنا ، لكني مذهول الى حد الأن بالسؤال المُلح: ترى كيف ، كيف ايها اليقظ افترستك الذئاب المفخخة ؟.
يغلبني الشعور ذاته منذ اربعين يوما ً : آه... لو إنتبه وسافر و لم يغرق روحه بوحول الوطن المهلكة .
قالوا : قبل الحادثة المشؤومة ، ابو الندى الليبرالي كان متماسكا ضد الجلاد ، منذ شهر دخل منعطف وسأم الضحية .
خرج من كردستان بذراع مشلولة ، حقا ً ، ان الحياة رفسته لكنها امهلته .
هنا حدقت او تلصصت الى تلك البشرى ، بعناد يكتب لي بخط متعثر ، متفائلا ً بتوجس : الجديد ، انا حي ، سأشد الرحال الى ايران لأجراء العملية الجراحية اللازمة ، اللعنة ..بعد هذا اليوم سيكون تواصلنا مستحيلا ً.
لا ادري لماذا ثنائية الخطأ والصواب تختلطان في ذهني ، حين افكر به الان تنتابني الوحشة وتتصارع الهواجس قافزة ً تبحث عن منطق ذي معنى .
يبتكر ويرتجل مصرحا ًفي ورقة اخرى : (( تعلمت صناعة الألغام في بيروت مع الفلسطينين ، وهبتني التجربة ان لا أرتبك، هذه الحرفة لا تحتمل الارتجاف ،الخطأ فيها يعني لسعة الموت، نقتحم المكان في.............. )) .
رسالة وحيدة اثارت انتباهي ربما لتفردها بتلك الرسوم الطفولية المضطربة ، لكن لماذا هذا الجسر الهرم؟ وما معنى العيون التي تتغامز في الفضاء ؟ .
رغم افتتاني بهذة الهواجس التي ارسلت لي حصرا ً، لكني كمن يتمثل جرحا ً قديما يستفزني ويثير في نفسي الشك بكل ما جرى ويجري من عبث لا يوصف تعايشنا اونتعايش معه يوميا ً.
بحنين يحلم ، بلهجة مغرية يستنتج: (( الحياة لعبة ... علينا ان نستنبط متعتها المُجدية و ...........)) .
نعم كان ابو الندى الليبرالي ملمح بأغلب رسائله الى إن ثمة مصادفات تلهب غرائزنا بدماء مشحونة بالتوتر الوجداني، ترهف مخيلتنا بالنضج ، توشم ارواحنا بأسئلة غريبة ونادرة .
على غير عادته يراوغ بمداعبة :(( يوم شتوي ،،اطفال كردستان الحلوين يسألونني عن اسمي فأقول لهم : امي تسميني الشيطان المكتمل ،فيضحكون ..هكذا ارنو الى وجه التشابه بيني و ....................... )) .
رسائله الحميمية تتحرش بالحلم المؤجل ، تحاول رأب الصدع بين الأمل والخيبة، ايضا ً تنبض بالفكاهة ، بالإيمان الحر ، نعم إنه دونها بمزاج رائق و بحس ذي نكهة جبلية رغم قساوة الزمن .
نراه يتخيل اجواء كردستان فيحرر على سجيته : (( نحن نطوف بجنان الفردوس الربانية دون ان ندري، شقائق النعمان السعيدة تملأ السفوح ، الينابيع الناضحة تشق الوديان ولا تكترث البغال هنا بنشيد الموت ال... )).
قلت في خلدي : ابا الندى، يا ابا الندى ، بالله عليك، الى اي كينونة مزاجية تنتمي؟ .
أوقفني مشوار تلك الرسائل التي لم تهزم التي شَغَلتني في عزلتي ، تركتني في طريق مفتوح يفضي الى تساؤله الذي وخزني والمنسوخ بخط احمر : ((لا يعنينا حاليا ًخطأ آدم الفاجر لكن هل الكفاح المسلح خطوة عاقر؟ )).
عند ذلك التقاطع المتداخل بحذر اوالمرتب بارتياب ، ابتسمت منتبها ً الى ما هو متغير وغير روتيني ، الأجمل اني التقيتك ولو متأخرا ً ياصاحبي؟ .
يقولون :عجيب ، بصيص المحبة يقهر جحافل الموت أحيانا ً ، لكني اقول لك الأن : اني اراك ، أراك ، هل تراني ايها الليبرالي الجميل ؟.

28 / 9/ 2010

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*الجيب الآمن : اراضي كردستان المحرر.
* الأنصار :هم البشمركة او الفدائيون الذين خاضوا حرب العصابات ضد سلطة صدام حسين بين عامي 1979 ـ1988.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا