الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نظرة تاريخية مكثفةالى واقعنا الفكري

عادل أحمد

2004 / 9 / 15
اليسار والقوى العلمانية و الديمقراطية في العالم العربي - اسباب الضعف و التشتت


" لا أدعي أنني باحث في الفكر أو التاريخ ،ولذا فإني بادئ ذي بدء أعتذر عن التقصير الذي يمكن أن يظهر للقارئ الكريم ،واني اذ توسلت الاختصار والتكثيف فلكي أجنبه العناء وأترك له حرية استنباط الحلول والوسائل الكفيلة بتحقيقها ."
- 1 -
منذ فجر التاريخ وتكون المجتمعات البشرية الأولى وخصوصا بعد التحول أو الانتقال الذي حصل من مجتمع المشاعية الأمومي إلى المجتمع البطريركي الأبوي ، كانت العلاقة الإنسانية بين البشر علاقة تصادمية إقصائية الغائية !..
إن كل المعارك والحروب بين التجمعات البشرية والتي كان القصد منها الاستحواذ على مصادر الحياة وتأمين الاستمرارية ، تحولت لتصبح حروبا يسود على إثرها القوي على الضعيف ويجرده من كل شيء. فكرة السيادة هذه أخذت تنمو وتتعمق لتصبح اللواء الذي يرفعه كل مجتمع بل وكل مقاتل فيه !...
وإذا كانت فكرة السيادة هذه قد اعتمدت في بداية الأمر على القوة البدنية والعددية والمهارات الفردية والجماعية فإنها أخذت تكتسب أسلحة جديدة أهمها القوة المادية – الاقتصادية التي سرعان ما أخذت تطور نفسها ويطورها الإنسان نفسه ويرفدها بوسائل وأسلحة جديدة وجيوش جرارة لتتحول إلى مفهوم يمكن أن نطلق عليه مفهوم – السلطة – والذي يشكل تركيزا مكثفا وشاملا تقريبا للقوة والسيادة ، وسرعان ما أخذت – السلطة- تبحث عن رداء تلبسه ، أو قناع تختفي وراءه ، فكان مفهوم " الدولة " ... ولن نتحدث عن مفاهيم الحق والقانون وبقية المفاهيم التي أخذت تظهر تباعا ....
وإذ كان الصراع – ولا يزال - بين الحرية والاستبداد ، بين الإنسان الباحث عن ذاته وبين السلطة ، بكل ما فيها من قهر واستغلال واستلاب ، هو الناظم لمسيرة الإنسان حتى يومنا هذا ؛ ولما كانت الدولة – بما هي تجسيد لسلطة الأقوى ماديا وتنظيميا – هي أداة هذا القهر والتسلط، كانت بالتالي هي الهدف الذي يتوجه الناس إلى تغييره والخلاص منه .
وإذا عدنا ألي القول بأن الحق هو قانون الطبقة المسيطرة ، وأن الدولة تجسيد لهذه الطبقة وحامية وخادمة لها في نفس الوقت ، فلن نستغرب أو ندهش ، كيف أن الدولة على مر العصور ، كانت تتلقف الجديد في ميادين الفكر والسياسة والاجتماع وتتبناه بعد أن تخضعه لارادتها وتلوي عنقه بما يخدم مصالحها ، بعد أن تكون قد قاومته طويلا ، لم يسلم من ذلك ، ولم يخرج عن هذه القاعدة ، فكر أو دين أو منهج...اليهودية ، المسيحية ، الإسلام ، فكر عصر النهضة والأنوار .أبرز مثال على ذلك روما في العصر القديم ، وكذلك الدولة الإسلامية حتى القرن الثامن للميلاد.
ما يدعو إلى التأمل أن الفكر "الثوري" أو" التقدمي" كان ينطلق من المناطق الطرفية البعيدة عن مركز الثقل الدولي . ربما لا تشكل هذه الفكرة قاعدة مطلقة ولكنها الفكرة الغالبة في كل الأحوال . وحتى مع نشوء الفكر الغربي الحديث والتقدم العلمي الملفت الذي رافقه ، هذا الفكر الذي أعاد الاعتبار للعقل واعتباره السيد في النظر إلى الأمور وتحليلها واتخاذ المواقف منها ... فان الفكر لم يشذ عن القاعدة إذ نلاحظ أنه – ومع أن الفكر الحديث انطلق وتمركز في أوروبا- بإمكاننا القول أن الفلسفة أحد أهم ميادين الفكر قد انطلقت من ونمت في ألمانيا- التي وان كانت هي الوسط أو المركز في أوروبا – إلا أنها كانت الأقل تطورا قياسا إلى إنكلترا وفرنسا في حينه.
ما يميز الفكر في العصور الحديثة عموما ، هو ذلك الصراع الذي – وان كان موجودا تاريخيا – اشتد ووصل إلى أقصى مدى بين جانبيه المادي والمثالي، لقد كان للعقل الدور الأكبر في العملية النقدية للفكر، وهذا ما يميز سيرورته وبالتالي صيرورته والمآلات التي انتهى إليها عن سيرورة وصيرورة الفكر الذي نشأ في المراكز الأخرى من العالم كمناطق الشرق الأوسط القديم والصين والهند ...حيث نرى أن دور العقل كان مركزا جدا في استنباط واكتشاف أساليب جديدة لدحض الرأي الآخر وإقصائه بدلا من أن تكون عملية نقدية تطال أسس الفكر السائد على الرغم من وجود هذه الحالة في بعض مراحل هذا الفكر . وهذا مما أدى ربما ، على مدار تاريخ هذا الفكر ، إلى أن الأفكار أو العقائد الجديدة كانت تجب الأفكار القديمة جبا ، أي أنها تلغيها وتبعدها، علما أن تلك القديمة كانت تستمر ولكن في لبوس جديد .
هذا التاريخ من الإلغاء والإقصاء للآخر كان سمة جوهرية في مسيرة الفكر، وإذا كنا نريد أمثلة فيكفي أن نذكر الموقف من ديانة أخناتون الفرعوني ، وتلك الصحائف التي وجدها الخليفة الثاني عمر بن الخطاب والتي أمره النبي (ص) بإحراقها فورا...، أو المحرقة التي استمرت طويلا للفكر وللإنسان وللكلمة في أوروبا العصور الوسطى .
وإذن... فان الدولة – السلطة كممثلة لمصالح الطبقة المسيطرة في مواجهة الطبقات المسحوقة ، هو الخط الذي يسم تاريخ المجتمعات ومنها مجتمعاتنا الشرقية ، التي يمكن أن نضيف إليها سمة مميزة أخرى وهي روحانيتها المفرطة وتعلقها بالماورائيات، وتجذر فكرة الإيمان بالبعث والعالم الآخر، الجنة والنار، هذه السمة التي لعبت دورا إضافيا في تهميش بل وإلغاء دور الإنسان في التغيير ، واستبعاد العقل لصالح النقل أو الموروث.
من هنا / وبسبب من فقدان التطور الاقتصادي والصناعي والعلمي / يمكن أن نفهم لماذا هذا الفارق في مستوى التطور الفردي والمجتمعي بين عالمين ، عالم تسود فيه أفكار الحرية والقانون والتعددية ، عالم وصل الذروة في ميدان العلم والتطور التقني ، وعالم يفتقد كل هذه المواصفات.

- 2 –

بسقوط آخر الممالك العربية في الأندلس أخذت المجتمعات في العالم الإسلامي ، والعربي منه بخاصة ، تعيش في حالة من الثبات والجمود على كافة الصعد الاقتصادية والاجتماعية والفكرية ، بحيث لم يطرأ أي تطور أو تغيير على أي من هذه المناحي ولفترة طويلة جدا استمرت قرونا وقرون .
بقدوم أولى الجيوش الغازية والتابعة للدول الاستعمارية إلى المنطقة بدأ أول صدام حقيقي بين هذه المجتمعات / ثقافة وفكرا وسلوكا ، عسكريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا / وبين المجتمع الغربي في العصر الحديث .
انكشف المجتمع العربي الإسلامي على حقيقته ، فبان التأخر والتخلف والجهل والجمود والفقر والضعف على أكمل صورة . وتمر سنوات طويلة من الاستعمار إلى أن بدأت أولى ملامح المقاومة الحقة تتحدد وتتبلور ، ويعود الفضل في ذلك إلى أولئك الذين تعرفوا على الفكر والثقافة العالميين ، وعاشوا ردحا من الزمن داخل المجتمعات الغربية حيث أدركوا سر التباين الهائل بين المجتمعين ، فكان أن أعملوا تفكيرهم - بعد عودتهم إلى الأوطان – في البحث عن سبل المقاومة والتطور والتقدم .
ولكن ، ومنذ انطلاق أفكار النهضة والإصلاح الأولى التي عرفها العالم العربي في حينه وبدءا من خير الدين التونسي والطهطاوي وحتى عبد الرحمن الكواكبي السوري ، يمكن أن نلاحظ ضياع الموقف النقدي الجريء من الثقافة السائدة والفكر الرسمي والديني بخاصة . هذا لا يعني أنه لم تكن هناك محاولات واشراقات ، إذ أنها وجدت بالفعل لكنها كانت جنينية وخجولة ولم تذهب إلى العمق ، إضافة إلى أنها لاقت مقاومة كبيرة ، ومع ذلك ونظرا لأهمية ما طرحته من أفكار وموضوعات ومحاولات تأسيس لانطلاقة فكرية جديدة ، شكلت ما اصطلح على تسميته مشروع النهضة للعصر الحديث الذي كان من بين أعلامه جمال الدين الأفغاني ، محمد عبده ، الشيخ علي عبد الرازق ، قاسم أمين وعميد الأدب العربي طه حسين وغيرهم ممن لم نذكرهم الكثير .
هؤلاء الرواد والأعلام لم ينتجوا فكرا نظريا ، لم يقدموا مشاريع لفكر جديد ، وإنما هم ، واعتمادا على مخزون الثقافة الإسلامية التي سادت المجتمع ، وتأثرا بالأفكار والنظريات الجديدة التي درسوها وتعرفوا عليها خلال إقامتهم في الغرب ،قدموا إضاءات ومساهمات فكرية وثقافية اتسمت في جانب كبير منها بالتوفيقية أو التلفيقية أو الانتقائية ، ومع ذلك اصطدمت بالجدار الصلب والسميك للمجتمع المتخلف وللفكر المتزمت ، وهكذا لم تستطع أن تسقط أو تزيح مملكة الثقافة السائدة الساكنة الراكدة، ولا أن تنزع سلطة أصحاب العمائم واللحى ، بل ظل لهؤلاء على جهلهم وفقرهم الثقافي والفكري والسياسي الكلمة الطولى في التأثير على الناس والمجتمع ككل .

- 3 –

تمتع النص القرآني بهالة مطلقة من القدسية أكسبته بالتالي سلطة لا حد لها من القوة والتأثير بحيث بات التعارض معها حتى من حيث الشكل يقود صاحبه إلى واحد من اثنين إما المروق / الخروج عن الدين / وإما الكفر وكلاهما يعني الموت أو القتل شرعا . ولما كان القرآن حما ل أوجه كما وصفه الخليفة الرابع علي بن أبي طالب فان الباب قد انفتح على مصراعيه أمام نشوء الاختلاف والفتن وبالتالي الاقتتال بين المختلفين شيعة وسنة ، طوائف ومذاهب ،دعم هذا الاتجاه القدسية التي سحبت على كل ما قاله النبي محمد (ص) أو فعله ، وإذ أن ( وما محمد إلا بشر مثلكم ) أي أنه إنسان ، وكل إنسان خطاء ، لنا أن نتخيل ما الذي جره هذا التقديس لكل ما قال وما فعل على المسلمين وفكرهم .وإذا تذكرنا أن هذه القدسية طالت والى حد كبير جيل الصحابة والتابعين وأئمة الحديث والمذاهب فلنا أن نذهب في التخيل أبعد فأبعد لندرك حجم الهوة العميقة التي وقع فيها الفكر الإسلامي وبالتالي العربي . ويكفي هنا أن نذكر الكم الهائل من التشويه والزيادة والوضع والدس الذي قام به نفر ليس بقليل من مسلمي القرن الأول والذي طال الحديث والأدب والتاريخ والوقائع .
هذا هو ما طبع تاريخنا وأثر عليه بحيث بات تاريخا من الفتن والاقتتال والتشرذم ، وهو ما سلب من انساننا حريته الفردية والفكرية وجعله واحدا من آلاف أو ملايين الرعايا، تابعا لا حول له ولا قوة ن وهو ذاته ما جعل من مجتمعاتنا مجتمعات متخلفة مقهورة مستلبة مستكينة جراء ما عانته من عسف وطغيان وظلم وتقييد بحيث جعله خارج الزمن والتاريخ وحوّل تاريخنا إلى تاريخ خلفاء وملوك وأمراء وطوائف .
هذه القداسة ، وتلك الوحدة العضوية بين الدين والسياسة وبين الدين والمجتمع وبين الدين والفكر، واللتين سادتا تاريخنا ، كانتا وراء ما وصلت إليه مجتمعاتنا وفكرنا وحياتنا .

– 5 -

بالاحتكاك والعلاقة –التصادمية- مع الغرب ، وعلى أرضية الكفاح ضد الاستعمار اقتحمت منطقتنا أفكار الحرية والمساواة وحق الأمم في تقرير المصير ، وتعرف روادنا من المفكرين عليها في الأوطان التي نشأت فيها ، بدأت هذه الأفكار تنمو في مجتمعاتنا ولكن في تربة غير تربتها وفي ظل شروط مختلفة عن الشروط التي أنتجتها ، ونشأت لدينا تيارات اليسار والعلمانية، الليبرالية والقومية ، ومع أنها استمدت قوة دفع كبيرة من أفكار الثورة الفرنسية ومن ثم من أفكار الثورة الروسية عام 1917 ، ومع أنها جمعت من حولها كثيرا من الناس وخاصة المثقفين ،ومع استفادتها القصوى من موجة التحرر الوطني والقومي مع انتهاء الحرب العالمية الثانية وتشكل المعسكر الاشتراكي ونشوء حركة عدم الانحياز ، ومع بعض بوادر النجاح التي شهدها المد القومي ، وبعض القبول الذي لاقته الماركسية واليسار، إلا أن هذه القوى ظلت عاجزة عن إنتاج فكر جمعي للأمة وبالتالي كان مصيرها الفشل الذريع في محاولة تصديها لإنتاج مشروع فكري سياسي نهضوي في عالمنا الذي نتحدث عنه .
إن التحرر من الارتهان للفكر السائد والقطيعة مع الفكر السلفي ونزع القداسة عن النصوص بالاقتران مع فصل الدين عن الدولة والسياسة عن الدين ومحاولة بناء الدولة الوطنية المكونة من والقائمة على الإنسان ، المواطن الحر، والمحكومة بدستور يقره الشعب الممتلكة لقضاء مستقل ، دولة تعددية ديموقراطية تملك سلطات تشريعية وقضائية وتنفيذية منفصلة بعضها عن بعض ، وبرلمانا منتخبا ، هو ما يشكل البداية الفعلية لتحويل المجتمع إلى مجتمع حديث وعصري ، ويتيح لقوى اليسار والعلمانية والديموقراطية أن تنمو وتزهر وتطلق مشروع النهضة الحديث .
وهنا يجدر بنا أن نتذكر الفكرة الخلدونية / نسبة إلى ابن خلدون / حول حياة الدولة وأطوارها التي تمر بها من الطفولة إلى الشيخوخة التي أثبت التاريخ صحتها في كثير من الحالات ، ونؤكد على ما جاء فيها من إعطاء الأهمية القصوى للفكر والثقافة والأخلاق في بناء الدولة .

هذه هي خلاصة مكثفة لبعض أو جزء من تاريخنا الفكري وما يتعلق به ، وهي إذ تدعي بأنها تلقي بعض الضوء ، وتدل بوضوح على مفاصل الخلل فهي تبرز بين ثناياها بعض الحلول أو المواقف أو الوسائل التي من شأنها أن تغير في هذا الوضع المؤسي وتدفع به نحو آفاق جديدة قوامها الإنسان وحريته وكينونته .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السباق إلى البيت الأبيض... إلى أي مرشح يميل مزاج عرب أمريكا؟


.. زيلينسكي: 11 ألف جندي كوري شمالي نُشروا في منطقة كورسك الروس




.. ما تأثير الدعاية للفوز بالانتخابات الرئاسية الأمريكية.. وهل


.. استعدادات أمنية خاصة في أريزونا الأمريكية قبل التصويت




.. الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض صاروخين من جنوب لبنان