الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأندلس في البال، مهما اختلف المجال، وتنوعت الأحوال (صوت فلسطين يتميز في الدورة 7 للأندلسيات الأطلسية)

محمد المدلاوي المنبهي

2010 / 11 / 8
الادب والفن


كانت الأندلس في الماضي واقعا حدثانيا تاريخيا وجغرافيا؛ وهي وإن استمرت اليوم ككيان جغرافي سياسي لأهلها، فإن قيامها مستمر كذلك في الوعي كواقع ذهني وثقافي مؤمثـَل بالنسبة للكثير من غيرهم، واقع مثالي أصبح مستقلا عن الجغرافيا وعن سلالية الإثنيات والملل والسياسات كما تطورت هذه الأبعاد عبر التاريخ وعلى رقعة الجغرافيا. هذا الواقع الذهني والثقافي فضاءٌ يخضع لنفس قوانين التملـّك التي تحكم الفضاءَ بصفة عامة، الذي لا يقبل الفراغ، ولا يصلـُح في وضعية المـشاع، إذ يصدق عليه الحديث القائل "من أحيى أرضا مَواتا فهي له". أتذكر في هذا الباب - وأنا الذي كان لونـَا الموسيقى الأمازيغية، وموسيقى "الميزان" الهواري-المنبهي، أول شكلين موسيقيين تهذبت على طبوعهما فطرةُ أُذني - أن أول ما سمعت الموسيقى الأندلسية كان عبر "الإذاعة" المدرسية بالمعهد الإسلامي بتارودانت في بداية الستينات من القرن العشرين، حيث كانت ثلة من تلاميذ أفـّاقين مثلنا ممن قدموا إلى عاصمة سوس العالمة من الزاوية الناصرية بواحة تامكـروت لتلقي علوم الوقت، كانوا يتحفوننا في فترة الاستراحة، عبر مكبر الصوت المخروطي من خلال تلك الإذاعة المرتجلة بشكل "أرتيزانالي"، بمقطوعات من تلك الموسيقى، ومنها مقطوعة لسان الدين بن الخطيب التي حفظناها بلحنها منذ ذلك الحين والتي تقول:
جادك الغيثُ إذا الغيثُ هَـمَى * يـا زمان الأُنــس بالأندلـسِ
لم يكن وصلك إلا حُـلُـمـا * في الكـَرى أو خِلسة المختلـسِ

لقد كان أولئك التلاميذ الصحراويون، السُمْـر البشرة، والمتوقدو الفطنة والقريحة، حفَظةً مولعين بتلك الموسيقى ويعتبرون أنفسهم وأجدادهم منحدرين من الأندلس، وورثة تراثها الفكري والفني. وقد انتبهتُ، لسينين بعد ذلك، إلى أن حي "درب إندلاس" في نفس تلك المدينة، تارودانت، يجعل من تلك الحاضرةِ المدينةَ المغربية الوحيدة، في حدود علمي، التي تحمل الأسماءُ الشعبية لأحيائها القديمة (وليس الأسماء العالمة للمؤرخين) تسميةَ "حي الأندلسيـين". فكلمة "إندلاس" بالأمازيغية صيغةُ جمعٍ مفردُها "أندلوس"، الذي يعني "الأندلسي"، كما أن فيها "درب أقـّا" (نسبة أهل مدينة أقـّا الصحرواوية حيث نبغ المتصوف اليهودي يعقوب بويفركَان، صاحب كتاب بيراح شوشنيم "زهرة السوسن" الذي حققه حاييم الزعفراني)، و"باب الزركَـان" (نسبة إلى قبائل إزركَـيين "الزراجين" الصحراويين). أوردت كل هذا التقديم كعينة لمستندات ملموسة تدعم ما ذهبت إليه من أن الأندلس، كمثال من المُثل، قد أصبحت زيتونتها المتشعبة الجذور والمترامية الأغصان زيتونةً لا شرقية ولا غربية، يكادُ زيتُها يضيء، "أندلس سماويةً" على غرار ירושלים שבשמים ("القدس السماوية") التي يـتوق إليها التصوف المهدوي (Mystique messianique) اليهودي-المسيحي انطلاقا من رؤيا القديس يوحنا، أي أن لها وجودا وجدانيا وذهنيا في فضاء تقديري مستقل عن إثنيات ومِـلـّيات وجغرافيات الشمال والجنوب والشرق والغرب، وأن لمدنٍ مثل تاصّورت ( = الصويرة)، وتارودانت، وتامكروت وفيكَـيكَـ، ودبدو، غيرها، بناءً على ذلك، نفسَ الحق والواجب الذي لغيرها من الحواضر أو الضواحي، على اختلاف سُلاليات إثنياتها وألسنها، في تملـّك التراث المدني والفكري والفني الأندلسي، ذلك التراث الذي أصبح موضوع شراكةٍ مفتوحة الرأسمال، يحق لكل طرف مؤهل أن يتملك من أسهمه بقدر ما يستـثمر من أجل المحافظة عليه وتنميته عن طريق إدراجه في حيوية وجدلية المكونات الحية للمجتمع الحديث بطموحات مهامه التاريخية وفي ظل إكراهات الحاضر المتحرك.

ففي هذا الإطار الأخير أضع، شخصيا، الدورة السابعة للأندلسيات الأطلسية بالصويرة (28-30 نوفمبر 2010)، التي أسعدني كثيرا أن أشارك في ملتقياتها الفكرية منذ دورتها الأولى التي خُصص ملتقاها الفكري لذكرى روح أحد أبناء المدينة الذي كرس حياته لبعث التراث المغربي الأندلسي بأوجهه المتعددة الإثنيات والملل والنحل، المرحوم حاييم الزعفراني، الذي كانت لي معه قصة فكرية وشخصية طويلة لم ارتح من دينها إلا بعد أن قـُـيضت لي فرصة التكلف بتحرير المادة المتعلقة به في الموسوعة الجديدة (The Encyclopedia of Jews in the Islamic World. Brill, 2008).

وبعيدا عن الدخول في تفاصيل تغطية صحفية لكل فقرات ومواد هذه الدورة بشقيها، الفكري في الصبيحات والفني في الأمسيات، مما تكفلت به الصحافة المهنية التي تحرص على إعلام قرائها، فإني سأقتصر هنا على مجرد الإشارة إلى بعض الأوجه التي تؤكد بأن تلك التظاهرة تنخرط فعلا في أفق إدراج ذلك التراث الفكري والفني في جدلية المكونات الحية للمغرب الحديث، بطموحات مهامه التاريخية في ظل إكراهات الحاضر.
فإلى جانب شخصيات مرموقة من مؤسسات الثقافة والفكر والصحافة وعالم السياسة (مثلا: إيلفيرا سان خيرون، إدغار موران، جاك شانسيل، محمد اليازغي، أحمد خشيشن، خالد الناصري، إدريس اليزمي، محمد برادة، الخ)، تميزت جلسات الملتقى الفكري لهذه السنة بحضور ومشاركة السيدة ليلى شهيد، الممثلة السامية لفلسطين لدى الاتحاد الأوروبي، التي واظبت على المشاركة الفعالة بتدخلاتها في كل جلسات الملتقى، معبـّرة في نفس الوقت عن إعجابها بمنهج المغرب في تصريف الأمور انطلاقا من المبادئ الثابتة، في جدليتها مع إكراهات الواقع المتحرك. صرحت بذلك مرارا بناء على نوعية الخطاب الذي ساد في الجلسات، وعلى نوعية الوقائع الفنية التي شاهدتها واستمعت إليها، خصوصا حينما تقدمت الفرقة التي كونها مؤخرا أحد أبناء تارودانت بالضبط، البروفيسور يوسف شطريت، مشكـّلـَة من هواة الطرب المغربي الأصيل (أندلسي، ملحون، شعبي) من يهودٍ ذوي أصل مغربي موزيعين بين القارات، لتشنف آذان الحضور بمختارات من المطروز العربي-العبراني الذي تختفي معه حدود اللغة وحواجزها ويبقى جوهر الفن مَـعبَـرا مُعبّرا عن جوهـر اللفظ. وأشير بهذه المناسبة إلى أنه قد صدر مؤخرا (2009) للبروفيسور شطريت كتاب ضخم باللغة العبرانية بعنوان معناه "اللغة ومستوياتها؛ اللغة وبنياتها"، وهو ديوان وتحليل للأمثال السائرة بالعربية المغربية المهوَّدة، يضم قسما خاصا بأمثال يهود مسقط رأسه، تارودانت، "بنت الشام"، كما يحلو لخيال الشعبيين من أهلها أن يلقبها.
وإذا كان صوت فلسطين-القضية قد عبّر عن نفسه بصفة غير رسمية وبأشكال مختلفة من خلال تدخلات الكثير من المساهمين في مائدة الملتقى، وبصفة رسمية من خلال تدخلات السيدة ليلى شهيد، فإن صوت فلسطين الفني قد رُفع بدوره عاليا في تألقٍ وامتيازٍ اهتزت له مشاعر الحاضرين على اختلاف لغاتهم ومشاربهم الملية والفكرية. كان ذلك بفضل عطاء الفنان الفلسطيني الكبير، الشاعر والمؤلف الموسيقي المبدع، وعازف العود الماهر، ابن مدينة رفح، الشاب مُنعم عدوان. لقد أهدى هذا الصوت الفريد لجمهور الحاضرين على اختلاف آذانه الموسيقية، ومشاربه الثقافية، روائعَ مغناة من تلحيناته لأشعار الشاعر الفلسطيني الكبير، المرحوم محمود درويش، ومنها على الخصوص قصيدة "إلهي أعِدني، أعُد إلى وطني على ظهر غيمة، على ضوء نجمة"، وقصيدة "بيض النمل لا يلد نسورا". وقد بلغ تأثر الجمهور أوجَه لما التحقت بالشاعر والمطرب الفلسطيني المطربةُ المغرية صاحبة الحنجرة الصوبـرانية، فرانسواز عطلان، المديرة الفنية للمهرجان، ليتبادلا تجاوباتٍ من مطروزات عربية-اسبانية-عبرانية، تجمعها وحدة جوهر الكلم وتناغم الألحان.

وقد أنهى مهرجان الأندلسيات الأطلسية ليلة ما بين السبت والأحد 30-31 أكتوبر 2010 موادَّ دورته السابعة بتوالي سهرتين فنيتين ختاميتين متميزتين. كانت الأولى بفسطاط "باب المنزه"، والثانية بـرياض "دار الصويري".
تميزت الأولى بتقديم صنائع من موسيقى الآلة المغربية-الأندلسية وفن الملحون، ائتلفت فرقتان موسيقيتان في أداء جماعي لفقراتها، المطروزةِ كلماتـُها بألوان خيوط رفيعة من فصيح العربي، ومزمور العبراني، وشعبي الزجل: فرقةٌ مشكلة من مشاركة أجواق فاس وطنجة ومكناس، برئاسة الفنان الكبير محمد بريول، وفرقةُ "حيـبرات دافيد هاميليخ" ("مجموعة الملك داود") التي قدِمت من ستراسبورغ. وكما هي عادة أداء الموسيقى المغربية-الأندلسية، أدى هذا الائتلاف الفريد المشكّـل من حوالي خمسين فنانا من آفاق مختلفة تلك الفقرات بدون إشارات مايسترو لضبط الإيقاع وتوزيع الأدوار وضبط الانتقال عبر الفقرات، وبلا مستندات للنصوص والتلحينات مكتوبة أمام العازفين والمغنين، كما لو أن الأمر يتعلق بمجموعة حيّ من الأحياء المغربية، وذلك أمام جمهور اختـلط فيه الرسمي بالعادي، والمدعو بابن المدينة وعابر السبيل والسائح، جمهورٌ لا يجمع بين أفراده من مختلف الأجيال والأصول إلا مشاطرة غالبيته للجوق في الطرب، وذلك من خلال حيوية مشاركته الاحتفالية في ترديد المسالك السائرة من الريـبيـرتوار، في تجاوب حميمي رائع ومنسجم مع أداء ذلك الجوق المركب من الجهات الأربع للبلاد وللمعمور. وقد وتناوبت خلال كل ذلك صادحةً، وتجاوبتْ تجاوبَ المؤذّنين والأجراس، أصواتٌ بديعةٌ نادرة لكل من عبد الرحيم الصويري، وحاييم لوك، وعبد الرحيم عبد المومن، ونور الدين الطاهري. ثم انتهت تلك السهرة الختامية الأولى بتوزيع "أيلان"، "الجائزة الكبرى الأولى للمطروز"، على كل من الفنانِين البارزين: محمد بريول، حاييم لوك، موريس المديوني، فرانسواز عطلان، ريموند البيضاوية، والباحثَـين: يوسف شطريت ومحمد المدلاوي، تقديرا لإسهاماتهم المختلفة والمتنوعة في ميدان المحافظة على التراث المويسقي المغربي-الأندلسي، أداء فنيا، وبحثا علميا.
أما السهرة الختامية الثانية، التي أحيتها مباشرة بعد ذلك المطربة ريموند البيضاوية، المعروفة كمعين ثرّ للأغنية الشعبية المغربية الاحتفالية، فقد تميزت، بعد التحاق عبد الرحيم الصويري بتلك المطربة، بإلهاب الجمهور المتعدد الجنسيات والملل والأجيال، الذي كان من ضمنه مسؤولون حكوميون تخلوا عن صفاتهم وإكراهاتهم الرسمية والبروتوكولية، والذي أخلى في نهاية الحفل مقاعده، بالنسبة لمن كان قد أفلح في الحصول على مقعد، فقام الجميع يردد مع الفنانَين، وعلى خلفية الزغاريد والهتاف، أغنيتي "صوت لحاسان ينادي بلسانك يا صحرا" و"لعيون عينيا، والساكَـيا لحمرة ليا، ولواد وادي"، وهما النوطتان الرمزيتان اللتان انتهت بهما سانفونية الدورة السابعة للأندلسيات الأطلسية على الساعة الثانية صباحا من يوم الأحد؛ ولعل هذا المنحى التلقائي للجمهور إشارة رمزية عفوية إلى أن المغرب يضطلع بمهامه المبدئية في التعامل مع فضاءات انتماءاته المتعددة، انطلاقا من صميم مركزيته الوطنية السيادية التي تعلو ولا يُعلى عليها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث