الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دائرة الممكن، عمودية الإستعارة وبرج بابل لا يسقط في الآنية

روجيه عوطة

2010 / 11 / 9
الادب والفن


بقعة شاسعة مسكونة بأناس أرادوا لبرجهم أن يختصر الأفق، فخلقوا نمطهم العمراني الخاص، الذي يسمح لهم بالتحرر من الإسم المسجونين فيه، ليعيدوا تسمية مكانهم كما يريدون، فكان برج بابل يجمعهم في تمرد على اللغة الأولى، ولسان الأصل. لكنه تمرد ناقص، فالبرج كان قد بنيَّ على الأرض، في أفق تاريخي مقفل، فوقع، وبُدِدَ سكانه، الذين عادوا الى أرضهم اللغوية الأولى، ونسوا أن بين الأرض وبرجهم فعل آخر، يجمع الإثنين بطبيعة جديدة، فيشعرون بحريتهم، بتعاضدهم، قبل أن يحل آوان التبديد، ويضحون جثث هامدة، كانت قد بنت، وأبدعت في وقتٍ سابق ٍ. هؤلاء نسيوا فعل الكتابة.
اللغة طبيعة مقفلة، أفق يشكل مأمنا ً للإنسان بحدوده الهندسية الدائرية، طريق من طرقات الأساطير القديمة، تجبر كل واحد منا على اجتيازها فيلزم مكانه، ويندمج مع آخرين مثله، سجناء دائرة الممكن. داخل هذا القيد يتشكل الفكر الأفقي، اذ كل مكون من مكوناته، تتشابه ولا تختلف، الا في بعض الحالات، التي توصف بأنها منحرفة، تعاني من شذوذ لغوي ما، فقد تكون حالة من تخطي حدود الإمكان والتماثل.
إذن اللغة مسكن مغلق، شُيّدت حوله خطوطا ً هندسية مختومة بألفة الفكر واندماجه.
ولكن هل تتصدع ثوابت هذا المسكن، فيهجره المقيمون فيه أو بعضهم على الأقل؟
يقف الفكر، الناشئ في هكذا مسكن، عند حد الأفق المغلق، وبفعل الاندماج المضطرب، الجبري، يتم الاحتكاك بينه وبين الآخرين، فيحاول كل واحد من هؤلاء صنع بُعده الخاص، خطاً يجمع بين جبرية الممكن والتفلت منه داخل هذا الأفق، فيكون لكل واحد بعده العمودي، لكل واحد أسلوبه.
الأسلوب بعد ُ الفكر العمودي والمنفرد الحر، فبتكونه يُخلق الكاتب، الذي يشكل، بفعل بيولوجيته وماضيه، وحدته، أشياءه، تألقه، وسجنه الخاص، فيصنع تفلته الإجتماعي، اللغوي، المكوّن لطقسه الشخصي، الخارج من أعماقه الأسطورية والجسدية، فالأسلوب هو صوت يزيّن جسد مجهول وسري بأمزجة غير مألوفة.
الأسلوب ليس سوى بعد عمودي، منغرز في ذاكرة الكاتب، يصنع غشاوته من خلال التصادم الحاصل بين الكاتب والمادة، فيجمع الأسلوب تجربة الكاتب الصادرة عن تجاذب بين مقصده وبنيته البدنية، ويكون بذلك نوع من أنواع الإستعارة كسِر، لا يفك رموزه إلا حامله، إذ ليس بإمكان الطبيعة المقفلة- اللغة- كشفه، لأنه خارج عنها، محبوس في جسد الكاتب.
هذه العمودية السرية ليست كالكلام، أي ليست تمظهرا ً أفقيا ً سريع، بفعل العادة، ولكنها تمظهرا ً كثيف، تزداد كثافته كلما تراكم الحطام الغريب عن اللغة وتخومها في جسد الكاتب وكلما تبلورت غايته بشكل أوضح.
بمصدره الجسدي، يقع الأسلوب خارج الفن، كمفهوم يدل على الميثاق المعقود بين الكاتب والمجتمع، فهذا الأخير ليس سوى الشكل الآمن للأفق اللغوي الإجتماعي، وعند الخروج منه، بالأسلوب، يشعر الكاتب بالإنسلاخ عن طمأنينته، عن الرحم اللغوي الساكن، وهذا ما يحدث لديه نوع من الرهبة والوحدة الإجتماعية واللغوية، الذي يزيد من أسلوبه حدة وقوة، إن استمر بعزلته العمودية، وتتقلص عموديته، ويندمج بأفقيته، إن فضَّل َ طمأنينة الفن على عزلته العمودية تلك. لكن هذا لا يعني أن الأسلوب يدمر اللغة، بل يخرقها فقط بحريته المعزولة، لأنهما، فيما بعد، يشكلان طبيعة جديدة للكاتب، حيث لا يتمكن من الإختيار بينهما، بين عزلته التامة، واندماجه الكامل.
اللغة بجوهرها النافي تخط الحد الأساسي للإمكان، والأسلوب يكوّن الضرورة التي تربط أمزجة الكاتب بلغته، فتكون طبيعته الجديدة نوع من المزاج الأفقي والممكن العمودي.
داخل هذه الطبيعة، بإمكان الكاتب أن يجد نفسه على مسافة قريبة من طمأنينته الأفقية وعزلته العمودية، إذ يميل في بعض الأحيان الى واحدة أكثر من الأخرى، ويقترب أكثر من واحدة دون أخرى، لكنه يبقى على علاقة بالإثنين، لأنه ليس بإمكانه أبدا ً أن يختار بحرية تتخطى سر الأسلوب و رحم الإمكان اللغوي.
في علاقته هذه، يبقى الكاتب رهينة الشكل، إذ أن أفقيته وعموديته ليسا سوى أشكال وبالتالي قيمة شكلية لخرق أبعاده العمياء. ولكن بين اللغة والأسلوب تكمن حقيقة شكلية يلتزم بها الكاتب، وتتكون فرديته من خلالها، فالكتابة تُبدع كاتبها.
في هذا البعد الثالث، الغير هندسي، تظهر هوية الكاتب بشكلها المستقل عن المعايير اللغوية الأفقية، وعن الثوابت العمودية، فيتبيّن للكاتب أن عليه التمتع بعلامات مستقلة عن "براءة اللغة" ومستفيدة منها في الوقت نفسه من أجل الوصول الى إختيار هدفها الإنساني الحر، والإقتراب أكثر من مساحات الآخر التاريخية، الذي عاش، أو يعيش، في الظرف التاريخي نفسه. فالكتابة، كما يقول بارت، "فعل تكاتف تاريخي"، إذ يربط فعل الخلق بالمجتمع، ويكون فعل حر، يطمح حامله لتغيير أبعاده وتحويلها لتصبح أكثر تناسقا ً مع غاية الكتابة كتدليل على الحرية المرتبطة بالنيّة الإنسانية وتصدعات التاريخ الكثيرة.
هل يهجر الكاتب، بفعل الكتابة هذه، مسكنه الأفقي ويعلن لاضرورة عموديته؟
بعد إلتحام الكاتب بكتابته، يُقرر تحديد ماهية الطبيعة، التي كانت قد شكلتها لغته وأسلوبه معا ً، فيختار الكاتب أخلاقية بعده الجديد، بتحديد بعداه، الأفقي والعمودي، في الخارج الإجتماعي. لكنه ليس بتحديد فاعل، أي أن الكاتب لا يحدد الجماعة التي يتوجه لها بكتابته، بل أنه تحديد فكري واعي فقط، أي كما يقول ساتر، "أحاول أن أتخيل نفسي بأنني قارئي الخاص-كل الكتّاب يقومون بذلك- [الكتابة] تطلب منا التسرب، مثالياً ونقدياً في جسد الآخر، القارئ، الذي، في العمق، يضع يده بشكل كامل على الموضوع، والذي يصبح هو الخلاق"، فعل الخلق هذا قائمٌ على استعمال لغة الكاتب الخاصة، المرتبطة تراكميا ً بأفقيته وعموديته، والملتصقة أيضا ً بهذا الإجتماعي الذي كان قد تشكل بفعل التفكير اللغوي الأفقي، وبالتالي نقع في نوع من الغموض، فنتساءل عن حرية الكاتب وعمله باتجاه المسكن الآمن الذي انطلق منه في رحلته الشاقة تلك، رحلة الكتابة.
نجد أن الكاتب، رغم تفلته العمودي الأول، ورغم تهربه في بعده الثالث-الكتابة، ما يزال سجين مسكنه الآمن، وبالتالي نشعر بإلتباس حول رحلته الشاقة هذه، فهو من ناحية يصطدم بالأفق اللغوي الإجتماعي، ويبتعد عنه، ومن ناحية أخرى، يحاول الكاتب تحديد مساحته الأخلاقية داخل هذا الأفق، وكأنه يبحث عن حريته داخل سجنه، أو أنه يكوّن سجنه أو مسكنه الخاص.
الكاتب يخرج من لغة الأفق، ويصنع لغته الممكنة، الممتدة في تاريخه الأفقي، والمتعلقة بإستعارته العمودية الشخصية، وهذا ما نراه في كثير من النصوص الادبية، التي يخلق كتّابها لغتهم الخاصة، كأنهم بذلك يسبكون مفتاح سجنهم، فيتحررون منه ليدخلون سجنهم الخاص، الأكثر آمانا ً، والأكثر إحتواءا ً لعموديتهم، وبالتالي الأكثر إستيعابا ً للكتابة.
يرحل الكاتب عن مسكنه الأول، بعد زعزعة ثوابته الأفقية بعموديته، ويبني مسكنه الجديد، خارج اللغة الأولى أو داخلها ولكن بنوع من الحرية الآنية، التي يحياها الكاتب بمسؤولية، ناتجة عن إختياره للغته. وهذا ما عبر عنه الشاعر المغربي عبداللطيف اللعبي بقوله: "الآن- أبحث لقومي- عن لغة"، فاللعبي كان يفتش عن لغة ثورية جديدة متحررة من بربرية ظرفه التاريخي، وتُحرر جسده من سجنه الداخلي، فحرية الكتابة مرتبطة بثقل تاريخ حاملها، وبذاكرة مدلولات الكلمات، فـ"للكلمات ذاكرتها"، التي تلعب دوراً في اختيار الكاتب لها.
إختيار الكاتب للغته الجديدة، يجعله سجين هذه اللغة وكلماتها، كما كان سجين الأفق الذي انطلق منه، وما زالت مفاعيله مستمرة حتى عتبة سجنه الأفقي الجديد.
هذا لا يعني أن الكاتب لم يتمتع يوماً بحرية تامة، رغم كل هذه الرحلة الخطيرة، بل بمجرد إختياره، يلحظ حريته، فلو كان لسكان برج بابل كتابتهم، لما سقط البرج إلا بعد لحظة حريتهم الآنية.
في خضم الكتابة يحيا الكاتب وحدته وحريته للحظة، ويشعر، كما يقول ميشال بوتور، بأنه أصبح لديه "عاموده الفقري" الخاص به، فجسد الكاتب له دوره في رحلة الكتابة، لأنه هو أيضا ً جزءٌ من اللغة، من الأفقية، والعمودية، وتقكيرهما.
رحلة الكتابة، رحلة شاقة، شبيهة بفيلم سينمائي مرعب ،غريب المعالم، عنيف المشاهد. ففي مسكن مقفل الأبواب، بلا نوافذ، تحس الشخصية الرئيسية بذعرها، وتبحث عن منفذ بعد اختتاقها بطمأنينة الأفق المزيفة، فتفكر بهدم أسس اللغة، لكن لا قدرة لها على ذلك، وإن قدرت فلا تتحمل انفصامها عن ذاتها، فرعبها سيتضاعف لأن ذئاب العزلة تتربص بجسدها، فيصنع ذعرها ووحدتها الكتابة كفكرة هدامة، تريد لإستعارتها أن تحيط بإمكانها للحظة، لبرهة من الحرية التي لا تنتهي إلا الى أن يكتشف الكاتب بأنه جثة، أنه جثتها، جثة الكتابة نفسها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج كريم السبكي- جمعتني كمياء بالمو?لف وسام صبري في فيلم


.. صباح العربية | بمشاركة نجوم عالميين.. زرقاء اليمامة: أول أوب




.. -صباح العربية- يلتقي فنانة الأوبرا السعودية سوسن البهيتي


.. الممثل الأميركي مارك هامل يروي موقفا طريفا أثناء زيارته لمكت




.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري