الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


متى ستستريح هذه المعبودة ، الأم العراقية ؟

عوني الداوودي

2004 / 9 / 16
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


خمسون عاماً والدماء تجري في شوارع وأزقة العراق
خمسون عاماً لا أخبار غير ثكل الأمهات
خمسون عاماً وألبستنا مصبوغة بالدم
وخبزنا مغمس بالدم، وشرابنا الذي نشربه هو من لون الدم
صرخ السياب بعد هذا التاريخ " ما مر عام على العراق وليس فيه جوع "
والضمائر تصرخ ما مر عاماً على العراق وليس فيه إرهاب
وإرهاب الدولة العراقية كان اشد فتكاً من أي إرهاب مر بتاريخ البشرية .
وعندما خرج الشاعر العراقي مظفر النواب من قاعة المحكمة محملاً بحكم يقضي فيه بقية عمره في السجن، كانت أمه ونساء المحلة وغيرهن خارج المحكمة يزغردن بعد سماع الحكم، لأن الشاعر خرج ورأسه على أكتافه، ولم يأمر، الحاكم بأمره، بإرسال رأسه للسلطان محشواً بالتبن .
في عز تموز صيف العراق وآبه ، وبرد شتائه القارص في كانون الأول، وقفت هذه المخلوقة، الأم العراقية على أعتاب أبواب السجون الكثيرة التي تملأ العراق ملتحفة بعبائتها السوداء التي أصبحت شارة لها وللمرأة العراقية من دون نساء العالم، تنتظر لساعات طوال، وكل دقيقة منها تمر كالدهر، لإشارة من السجان بموعد الزيارة، هناك نساء في العراق لم يرتدين ثياب بألوان أخرى غير اللون الأسود المشؤوم على طوال ثلاثون أو أربعون سنة أو أكثر، والكثير منهن خلعن هذا اللون فقط عند ارتداء الكفن . أعدامات، تعذيب إلى حد الموت، كيمياوي، تنظيف السجون بالغازات السامة، أنفالات، رمي بالرصاص أمام المنازل، بل أمام أعين الأمهات وأجبار العائلة لدفع فاتورة الرصاص الذي ذهب هدراً ، الإعاقات الدائمة نتيجة التعذيب الوحشي في السراديب والسجون المخفية تحت المستشفيات ودوائر الطابو والعقار والمصارف وتحت الاسواق المركزية والفنادق الفخمة والمراقص . كانت الضحية في السجون العراقية تدفع ضريبة أختيارها قول كلمة ـلاـ للسلطان الجائر ، وكانت الأمهات تدفعن ضريبة من نوع آخر، لا أحد يعي ويحس آلامه غير الأم ، ولأنهن فكرن في يوم ما أن يصبحن أمهات في العراق، لم تفكر هذه الأم أو تلك ولو للحظة حين حلمت على أن يكون لها ولد في بداية حياتها الزوجية ، بأن جربوع سيطرق عليها الباب ذات يوم بعد منتصف الليل ويسلمها شوال عتيق فيه مجموعة من العظام واللحم والدماء، ويبلغها بأن هذا هو أبنك، وممنوع التعزية والفاتحة، وعليكم دفن هذه العظام ليلاً دون ان يراكم أحداً .
ولم تفكر قط بأن أبنتها التي رعتها، وحلمت بيوم عرسها . كيف سيكون ؟ بأن يأتي يوم لتنهش الذئاب البشرية جسدها في دوائر الأمن والمخابرات .
خمسون عاماً ومسلسل القتل والتعذيب والسحل وفقئ العيون وبتر الأوصال ووشم الجباه بكلمة جبان وقطع الآذان، وسقي الثاليوم، وحقن الفيروسات والميكروبات القاتلة في أوردة وشرايين المعتقلين السياسيين، وأهدار كرامتهم بالتواقيع الإجبارية على عدم الإنضمام إلى إحزاب خرافية لا توجد إلا في مخيلة الجرابيع والجرذان الذين يتخذون من الجحور المظلمة مكاناً آمناً، أو عدم العودة لحزب معارض لم ينتمي له في حياته ، لكن التعذيب والإساليب الرهيبة التي توصلت لها هذه المخلوقات الشاذة في اهدار كرامة الإنسان العراقي من " البطل ـ القنينة " التي يجبر المعتقل على الجلوس عليها عارياً لتمزق مؤخرته، إلى آخر مبتكرات الكلمات البذيئة التي تمس ليس خلقه وحسب بل أمه وأخواته أو زوجته وحبيبته، والخطف والإبادة الجماعية، والذل، وأنتظار رفات الأبناء القادمة من نزوات حروب السلطان ، كان هو المسلسل الوحيد الذي شاهدته الأم العراقية.
واليوم وبعد الخلاص من السلطان وفرماناته الجائرة والقرقوشية، يعود المسلسل ذاته بحلقاته الجديدة وكأن قدر الأم العراقية أن لا ترى ولو ليوم واحد فقط البسمة منعكسة من المرآة على محياها، وتستمر لقطات مسلسل الموت والذبح والقتل والدماء وفرم اللحوم البشرية وتتطاير أشلاء الأجساد الطرية لتلتصق بالسقوف وأعمدة الكهرباء وعلى الجدران والأشجار ، ما بين السيارات المفخخة، الإرهاب الجديد والدخيل على العراق، وبين رصاص وقنابل الأمريكان وقوات ما يسمى بقوات المتعددة الجنسيات، وبين هذا وذاك تبقى الأم العراقية صامدة وشامخة كقامات النخيل وشموخ الجبال، ولكنها تذرف الدماء بدل الدموع بصمت عجيب فيه شموخ وكبرياء، وبصبر أسطوري.
أيه أيتها الأم العراقية متى سترتاحين يوماً ، ساعة، دقيقة، لا بل ثانية .
يحتفل العالم في عيد الأم من كل عام بتقديم وردة أو ماسة ثمينة أو رغيف خبز لها في هذا اليوم ، أما نحن فنقدم لهن أجساد مضرجة بالدماء .
أقف خجلاً وعارياً بعد مماتي مطأطأ الرأس لا أجروء النظر في عينيها، كطفل سرق شيئاً ما من المنزل ، أرجوك المعذرة ، أرجوك السماح ، فأنت نشيد الروح، وموهِبة الحياة ، مصيرنا هو الموت والنسيان والجحيم ، أما أنت فمصيرك الخلود في الأعالي حيث الانبياء والأولياء والأتقياء الصالحين بجوار الله .
سنصوغ لك تمثالاً من الماس والياقوت والأحجار الكريمة يرتفع من بين أمواج دجلة لتكن مزاراً لكل نساء العالم، ولكل طفل عاق على شاكلتنا ، وسيأتي السلاطين الذين ثكلوك راكعين أذلاء ومن خلفهم طوابير الجرابيع والجرذان يطلبون الرحمة والغفران، وسندّون تحت قدميك بدموع الندم لأجيالنا القادمة قصة حماقاتنا ..

عوني الداوودي ـ السويد








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -