الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدكتور عبد الحكم العلامي يكتب عن ديوان الواحدون للشاعر السمّاح عبد الله

السمّاح عبد الله
شاعر

(Alsammah Abdollah)

2010 / 11 / 12
الادب والفن


الحضور الصوفي في كتاب "الواحدون" للشاعر السمّاح عبد الله
د.عبد الحكم العلامي
يسعيذ "السماح عبد الله" في كتاب "الواحدون"(1) ، بأسلافه السابقين في محاولاته الاحتماء بالتجربة الصوفية كصلاح عبد الصبور ، ومحمد عفيفي مطر وغيرهما، من كبار شعراء العربية المحدثين، الذين حاولوا استيطان التجربة الصوفية بعوالمها الرامزة، بغية إفساح مجال أوسع للرؤية يحاولون من خلاله إدراك وجودهم الحق، فقد عاد هؤلاء الشعراء إلى متصوفيهم القدامى يستلهمون عوالمهم الغنية والمغلفة بهالات كثيرة من الغموض، مثل عوالم "النفري والحلاج" وغيرهما من كبار المتصوفة .

والحضور الصوفي في كتاب الواحدون "للسماح عبد الله" الذي تحاول هذه الدراسة أن تتلمس فضاءاته وطقوسه إنما يتشكل في منحيين يسيران متجاورين، منحى يتجه إلى الإفضاء المباشر عن طريق شخوص صوفية محددة بالاسم، ومنحى يتجه إلى البث الخفي من خلال لغة الدراسة – من خلال قراءة المنحى الأول – ما يمكِّن هذه اللغة من إحداث تجاور منتج، يهيب بها إلى اتصافات عرفانية واجبة، وهذا التجاور مهابٌ به في تلك اللحظة العاجلة ففي قصيدة "النفري"(2)، يحاول "السماح عبد الله" إحداث طقس لغوي دال مستنسخ مباشرة من فضاءات الطقوس النفرية في تجليات مواقفه ومخاطباته، يقول السماح عبد الله:

أول القول مشتجر في دمي
وأواخره تعب
، فلماذا
، أشد العبارة محتمياً بالهزيع الأخير
، كأني قتيل
يعذبه عشق قاتهله
، أو عشيق
، يؤجل أفراحه لغد
وغد يتسرب
آه
أنا
سيد العارفين
يعذبني
تعبي
في الكلام .

فالموقف الشعري – على هذا النحو – ينذر بإستعاذة فبلية بمقولة "النفري" الشهيرة : ".... كلما اتسعت الرؤية .... ضاقت العبارة ...." تلك الاستعاذة التي تجيء محددة لمسارات البني التشكيلية في القصيدة، وتجيء كاشفة لخططها البنائية البعدية، فالتماس التناسخي واقع ومشخص تماماً لملامح المشابهة، التي تنتج اشتباك الشاعر بعذابات القول مناسبة لتلبس حالات الفيض الرؤيوي الآخذ في التمدد، في مواجهة تلك المقاسات الأخذة في التآكل والضمور مما يعني أننا بصدد انفجار مدمر يعد نفسه لساعة الحضور الصوفية :

كأني قتيل
يعذبه عشق قاتله
أو عشيق
يؤجل أفراحه .

إن فرضية توخي المعرفة القائمة على الذوق تشكل هنا واقع المشابهة بين تجربة الشاعر المستعيذ، والصوفي المستعاذ به، والمعرفة لا تتم عند الصوفية إلا في اللحظة التي تتحقق فيها المساكنة المرتجاه بين الذات وموضوع المعرفة، بحيث يصير اللقاء المباشر بين الذات العارفة، وموضوع المعرفة هما المائدة الواحدة التي يتقاسم عليها الصوفي والشاعر خبز الكلام، الكلام محرفة الوجد، يقترب الصوفي والشاعر منها طواعية في محاولة لاحتضان توقدها الزاكي إقبالاً وإعراضاً في سعي حثيث لإنها نقص العالم، وبين حالتي الإقبال والأعراض تختل الإتزانات الأنوية لدى كل منهما وتتهشم البني المُبْصَرَة، ليظل الصوفي والشاعر مشرفين على صياغة عالم يستلذان معًا بعذابات تشكله، سيدين محكمين مكتملين، عندئذ يتكلم الصوت المكتمل بغيره قائلاً :

أنا
سيد العافين
يعذبني
تعبي
في الكلام .

عبى أن هذه العذابات التي يتم اقتسامها على مائدة واحدة بين الشاعر والصوفي هنا، قد يجيء وقعها مدمراً في أحايين كثيرة، ولا يكون أمام الشاعر والصوفي صاحبي القضية الذين هيئا وقتهما في محاولة لإزاحة النفايات، ونبذ الركود، لا يكون أمامهما عندئذ سوى إفشاء الرغبة في إدراك الخلاص الذي ينوب إعداؤهما عنهما في إتمامه بإقصاء البدن، ظانين – على جهل – أنهم قادرون على إخماد الشعلة المباركة، التي لا تفتأ أخذه في التوقد، إن رهان "السهروردي" القتيل(3)، الذي آثر أن يقوم وحيداً :

يشبك خيل القبائل في شجرة
ويقوم وحيداً
كأن لم تكن في الهواء
مؤامرة
وكأن
لم يكن يشتهي .

لم يكن من مغرم "للسهروردي" غير أنه خرج على النسق المعروف لحوادث الليل والنهار التي يرتادها النمطيون من البشر، هو فقط أراد أن يفتح كوة أخرى مغايرة في الجدار العتيقة، غير أنه أرادها مخالفة للمقاسات المعدة سلفاً . فعل ذلك وحده، هل كان فرحاً؟ أو ربما كان قلقاً، غير أنه وحده كان يمارس هذه اللعبة المشتهاة، غير مكترث وكأن الزمن الذي ينتويه غير مسجل في معجم اللحظات السلفية المتوارثة، يصحو هكذا كالمؤرق المأخوذ متسائلاً : إنه لم يفعل سوى أن المستحيل الذي رأوه فيه كان قابضاً وحده بيديه عليه، وكان محتفياً به:

كأن لم تكن في الهواء
مؤامرة
وكأن
لم يكن يشتهي .

ويستثمر "السماح عبد الله" هذه العذابات استثماراً منتجًا في كتاب "الواحدون" عندما يعقد صفقة أخرى رابحة مع الحلاج، صفقة يتم التنازل فيها تماماً للطرف الأول فتعتري الطرف الثاني حالة تلبس تامة لحركات وسواكن الطرف الطرف الأول في مكاشفة إنمحائية يصبح الطرف الأول حيالها مستلباً ومختطفاً يقول "السماح عبد الله" في قصيدة الحلاج(4) :

وخطفني الخطاف .

فالفعل خطف بما يحمله من دلالات يشي هنا بحال من الاستلاب المفاجيء، حالة غير ممهد لها تنذر بتلبس الشاعر لهذه الحالة، فنحسه معها، مأحوذاً ومستلباً أيضاً ابتداء القصيدة بواو العطف بحضور طاغ للمعطوف يجعل إحساساً قوياً يسيطر على مشاعرنا بغياب كثيف لرحلة موغلة في السفر سبقت هذه الحضور الطاغي للمعطوف يمثلها غياب المعطوف عليه، ليثبت – رغم غيابه – حضوراً مهيمناً يكاد يستغرق التجربة كاملة فالحضور هنا محصلة أمينة للغياب، ثم عن طريق الاسترجاع والعودة إلى الماضي، ندخل في تفاصيل أخرى لمسببات هذا الانخطاف المفاجيء :

أنا كنت أعاتبه عن شيء ضايقني
منه، وهو
انتهز الفرصة بين عتابي وتسلل لي
وخطفني قبل استكمالي لكلامي
صرت أنا المخطوف المأخوذ
خطفني مني وتسكنني .

إذن كان الانخطاف حالة ما بين العتاب، وما قبل استكمال الكلام بين المحبوب والمحب الذي يبدو فرحاً بهذا الانخطاف "صرت أنا المخطوف المأخوذ" والذي يبدو كذلك مستلبًا في حضرة هذا الانخطاف "خطغني مني ...." وقوله : "وتسكنني" ينذر بحالة من التوحد بين المحب والمحبوب تلك الحالة التي تنبني على إقصاء الذات العاشقة عن مدركات الحواس في العرفانية الصوفية لتحل هانئة في الذات الكلية وتتوحد بها :

شوّقني لروائحه
، وأنا في حضرته
أسقاني الحب
، وزود في عطشي
، ملأ يدي بأعطاف خوالجه
، وما مكنني منه
، مسكون بالمحبوب ولكني صرت أناديه
لكأنْ مبتعدٌ عنه أنا
، أو لكأنْ هو غياب .

إننا مع الموقف الشعري هنا نكون في حالة من المنح والمنع يمارسها المحبوب تجاه المحب، حتى يضمن تعلقه به، وانخطافه إليه "شوقني وأنا في حضرته"، "أسقاني .. وزود في عطشيش، "ملأ يدي .. وما مكنني منه" إنها رغبة المحبوب في أن يظل المحب مشدوداً إليه، فلا هو مكنه منه بالكلية، ولا تركه بالكلية والموقف على هذا يطرح علاقة جديدة بين المحب والمحبوب نشهد فيها تبادلاً للمواقع بينهما، فالمعروف لدينا – في مثل هذا الموقف – أن المحب هو الذي يظل في حرص دائب ودائم على تنمية علاقته بالمحبوب وصولاً بها إلى مقام الأنس والجوار، غير أن الموقف هنا يجري على غير ذلك فالمحبوب هو الذي يقوم بدور المحب في تبادل مشروع للمواقع :

وغافلني المحبوب
ولم أكن أبغي، أن أبكي أو أضحك أو استغفر
ضللني فيه، تخلل أطيافي
شابهني في أوصافي
أو شبهني بحلاوته حتى بعدني عني أو قربني
مني ... انتهز الفرصة بين عتابي
وتسلل لي
، قبل استكمالي كلامي
سموني يا ناس المخطوف

يبدو أن حالة الانخطاف التي استولت على المحب، وسرقته منه، جاءت على غير انتظار منه، فأحدثت به ارتباكاً أفقده السيطرة على هوية ما أصابه من حال

لم أك أبغي أن أبكي
، أو أضحك
، أو استغفر .

غير أن المحبوب لم يكن ليضل طريقه إلى المحب " تخلل أطيافي " والمحب – مع جلال موقف الانخطاف لم يكن ليحدد – وهو على هذه الحال – إن كان مقربًا أو مبعدا، إنه يبدو كالمأخوذ المستلب ، فقط يتذكر أن هذه الحالة أخذته وهو كائن ما بين العتاب وقبل استكمال الكلام ، لتصبح حالة الانخطاف نعتاً له:
سموني ... يا ناس المخطوف .

إن مثل هذا الاستثمار المنتج للتجربة الصوفية في شعرنا العربي الحديث، وفي كتاب "الواحدون" على أحقية القصد، ليكشف عن مدى حركية هذه التجربة وقدرتها على فتح منافذ جديدة أمام الشاعر، بوصفها استبطاناً منظماً لحقيقة الوجود، وبوصفها حلاً مندوباً – كذلك – لا شكاليته الوجودية التي تتمثل في رغبته في الإحساس بفرديته، وفي توق نفسه المعذبه إلى الغبطة والتحرر، ذلك الإحساس يقترب به شيئاً فشيئاً من إدراك وجوده الحق، بعيداً عن أطر جوده المشروط مع الغير . إذن ما الذي في يقينك أيها الرائي؟ نجمة تتصيدها – لك منها السؤال الخفي، وللفقراء، البريق .


المراجع والهوامش:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أنظر / السماح عبد الله، ديوان "الواحدون" الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 1، 1998م.
(2) النفري : هو محمد بن عبد الجبار بن حسن بن أحمد النفري الصوفي البصري، أحد أعلام مدرسة الحلاج الكبرى، توفي سنة 354هـ .
يراجع في هذا : المواقف والمخاطبات، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1985م .
(3) السهروردي : هو شهاب الدين السهروردي، صاحب نظرية الإشراف، الصوفي الذي ولد في منتصف القرن السادس الهجري بين سنتي 545/549 هـ في قرية "سهرورد" في أعالي جبال فارس ... فيما يتعلق بالسهروردي يراجع سامي الكيالي : السهروردي، - دار المعارف 1955م .
(4) الحلاج هو أبو المغيث الحسين بن منصور الحلاج، كان من الغارقين في حقائق التصوف ولد في بلدة تور في الشمال الشرقي من مدينة البيضاء بفارس في مطلع عام 244 هـ/858م، وفي السادس والعشرين من ذي القعدة سنة 309هـ/922م، لقى مصرعه ببغداد .
. فيما يتعلق بالحلاج يراجع : كشف المحجوب للهجويري .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - اشادة
محمدجلد سليمان ( 2012 / 5 / 27 - 12:11 )
ابن عمي العزيز
الدكتور عبد الحكم
ارسل اليك تهنئة معبرة عما طرحتة وكتبتة
بارك الله فيك ولك يا من ترفع اسم العائلة
والبلدة جميعا
وفقك الله وسدد خطاك
ربي يسعدك دائما
دمت بحفظ الرحمن
ابن عمك محمد جاد سليمان

اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل