الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جلجلة نبيّ

أنسي الحاج

2010 / 11 / 16
الادب والفن


في الذكرى المئوية لموت الروائي الروسي ليون تولستوي يستعيد المتابع قضيّة الصراع بين نظريتي الكتابة للتأليف الفنّي والكتابة للإصلاح الخلقي والاجتماعي. إنها إحدى المفارقات التي طبعت مسيرة صاحب «الحرب والسلم». فقد أمضى الشطر الأوّل من حياته، وبعد شباب راتع في الملذّات، منصرفاً إلى التأليف القصصي غير الهادف أخلاقيّاً، على الأقلّ بصورة مباشرة، وفجأةً في مستهلّ الخمسين من عمره صعقته صعقاً فكرة الموت، وسيطرت عليه هواجس الفناء ومعنى الحياة وتساؤلات أخلاقيّة ووجوديّة ماديّة أبرزها مساوئ الملكيّة الخاصّة ووحشيّة التفاوت الطبقي وإجرام الحرب المطلق وانحطاط الإنسان المتأتّي عن انجرافه وراء شهواته الحسيّة. وراح يحاول اللحاق بعيش الفقراء فيتزيّا مثلهم ويعمل معهم في الحراثة والقطاف، وأراد أن يوزّع أملاكه، وهو الكونت الثري، على المعوزين فاصطدم بمعارضة زوجته صوفيا كما اصطدم بمعارضتها لنهجه الجديد هذا حتى النهاية، ممّا عكّر عليه بقيّة حياته وحمله آخر المطاف على الهرب من المنزل والمرض والموت.
■ ■ ■
تنامت حركة تولستوي والْتَفَّ حوله المريدون وغاص في كتابات فلسفيّة وتوجيهيّة مرفقاً النظريّة بالممارسة ومؤسّساً نوعاً من حزب يعتبره الشيوعيّون ممهّداً أدبيّاً و«روحيّاً» لثورتهم البولشفيّة فتح لهم فتح الشغف والعاطفة الكثير من الأبواب، كما يعتبره اللاعنفيّون مصدراً من مصادر مقاومتهم السلميّة، وأبرز مثال لها في القرن العشرين كان المهاتما غاندي.
نتوقّف عند التناقض الشائعة صورته بين الخلق الذي يقصد تمام نفسه والخلق الذي يستهدف الإصلاح ونتساءل لماذا يقال إنّ القسم الأوّل من أعماله عظيم لأنه «مجاني» والقسم الثاني (الذي تبنّاه هو في أواخره ضدّ قسمه الأوّل الذي اعتبره «عاطلاً») هذا القسم الثاني ضعيف ورديء لأنّه حمل رسالةً إنسانيّة مباشرة مريداً نفسه مجرّد فاعل خير؟ يقال ذلك لأنّ «القوّة الباردة» التي سندت القسم الأوّل (وأبرزه «الحرب والسلم» و«آنّا كارينينا) تراخت في القسم الثاني لحساب الشفقة. كانت أنانية المؤلف مأخوذة كليّاً بموجبات التأليف، وأصبحت منشطرة بين الصناعة الكتابيّة والتعاطف مع البؤساء، حتّى استحوذ التعاطف على كل شيء وتراجع الهاجس الفنّي كليّاً أمام الدعوة الإنسانيّة.
هل تكون مشكلة زائفة؟ فهذا لا يمنع ذاك. شكسبير برهان. وشاتوبريان وهوغو. فضلاً عن أن هذا موجود في ذاك: غوستاف فلوبير زعيم القصّة الجماليّة حتى الملل أنتج إميل زولا زعيم القصّة الواقعيّة الطبيعيّة حتّى الغثيان. وعند كلٍّ من الاثنين قمم وعند كلٍّ منهما سقطات ذريعة.
لا يفارق المرء طبعه إلّا يتعثّر. في رسائله إلى ذويه يبدو رمبو أقلّ من شخص عادي. وحين أراد طه حسين أن يغازل الكتابة النضاليّة وجد نفسه في كتابه «معذّبون في الأرض» أقلّ من ربع نفسه.
لكلٍّ خطّه. لم يكن تولستوي فنّاناً للفنّ في البداية ولم ينسلخ عن ذاته في النهاية. منذ البدء كان قصّاصاً لمتعة القَصّ وهذا يعني أنه كان يقظاً في الواقع. بل كان هو الواقع. كان دائماً هو نفسه، تطوّر من الأقلّ إلى الأكثر حتى جمح، بشخصيّته الروسيّة الأقصويّة، نحو الذروة من فضائه. لقد انطفأ من وهجه وفي وهجه ولم ينطفئ في رماد.
■ ■ ■
يهمّنا تولستوي بسبب هذا الصدع الذي شقّ حياته نصفين. يكاد يكون الوحيد من نوعه. رمبو قضيّة أخرى، والتوقّف عن الكتابة لم يقتصر عليه. الأسطورة، أسطورة الصمت الباكر، لبسته دون سواه لأهميّة نتاجه ولظروف نشأته وتناقضات مصيره. تولستوي لم يتوقّف بل تابع بشكل تبشيري. كان كاتباً أدبيّاً يروي بدم بارد وفجأةً، في الخمسين، أصابه جنونُ الوعي الأخلاقي.
اكتشف العدم وراء الأشياء. «لم يعد لديّ رغبات. عرفتُ أنه ما من شيء بعد اليوم يستثير الرغبة». صار يشمئزّ من عافيته، ويكره شهيّته الجنسيّة وقابليّة سائر الملذّات، وبات مرامه الحياة البسيطة والتقرّب من الشعب واكتشاف الله، أوّلاً عبر الكنائس القائمة وفي ما بعد، عندما يئس من ملاقاة الله بهذه الوسيلة، تيقَّنَ له أن عقائد الأرثوذكسيّة غير مطابقة لروح الأناجيل، وبدأ يجهد لابتداع ديانة شخصيّة. وسرعان ما يختلط ذات ليلة بالشحّاذين، مغموراً بسعادة فائقة: أخيراً بلغ الهدف! هنا الحقيقة! هنا صدق المعاناة! هنا الجوهر!
... ولم يدم نزوله إلى هذه الجحيم المطهّرة غير ليلة، فسرعان ما انتشر الخبر وهرول الأهل والأصدقاء والمريدون يعيدون الكونت على أترف ما يكون إلى دارته العامرة.
ظلّ مثابراً على عيش دعوته الجديدة بأقصى ما يستطيع من التناغم. لكنّه، مرّة أخرى، بينما كان يبشّر مريديه بالعفّة الجنسيّة والاقتصار على الطعام النباتي كانت زوجته صوفيا تستعدّ لوضع مولودها الثالث عشر... عندئذ قرّر الفرار من هذا البيت «الكثير الرفاهية ومن هذه الزوجة التي تسربله بسلاسل الاعتياد والمتعة، ومن هذه الأسرة الكبيرة العدد التي ـــــ على وصف هنري تَرَويا ـــــ كلّ وجه من وجوه الأولاد فيها يذكّره بخطيئة ليلة من الليالي».
في 28 تشرين الأوّل 1910 نهض ليلاً من سريره وارتدى ملابسه ووضّب حقيبة سريعة وأيقظ طبيبه الخاص وركب وإيّاه عربةَ الخيل إلى محطّة القطار. الفرار. الانعتاق. «إنّ روحي تتوق بكلّ قواها إلى الراحة والعزلة، لكي تعيش بانسجام مع ضميري. أو، إذا تعذَّر ذلك، للإفلات من النشاز الصارخ الحاصل بين حياتي الحاليّة وإيماني...». ولكن مرّة أخرى سرعان ما لحق به جمهوره. وبينما كان فريسةً لحمّى ذات الرئة، ليل الرابع من تشرين الثاني، يتخبّط في سريره كغريق وسط بحر الأهل والصحافيين ومصوّري السينما والمريدين ورجال الدين، استطاع أن يتمتم: «ولكنّ الفلّاحين، كيف يموت الفلّاحون؟». وبعدها بيومين: «دائماً أنا... دائماً هذه التظاهرات... كفى تظاهرات...».
صباح اليوم التالي، 7 تشرين الثاني 1910، في السادسة والدقيقة الخامسة، فاضت روحه.
■ ■ ■
مات تولستوي من تغلّب شقّه الأوّل على شقّه الثاني. بقي الكاتب وانطوى النبيّ. ولا في الأوّل ولا في الأخير استطاع أن يجد اللّه الذي جاع إليه. وحتّى عندما تبنّى روحَ الأناجيل وبالأخص موعظة المسيح على الجبل لم تقترن مسيحيّته بروحانيّة المسيحيّة. ظلّت مسيحيّة اصطناعيّة. و«نزوله» إلى الشعب كان صادراً من فعلِ إرادة عقليّة ورغبة في التشبّه. لا يُنزَل إلى الشعب، يكون المرء ابن الشعب أو لا يكون. الأخوان رحباني أوصلا الروح الشعبيّة إلى الناس لأنّها فيهما ولم يتعلّماها في المدارس. لم يشتهياها بل كاناها. الأدب «الشعبي» الذي كتبه أدباء «من فوق» لم يبقَ منه شيء لأنّه نتاجُ مثقّفين بورجوازيّين وأرستقراطيّين «هاجروا» عقائديّاً إلى ما يظنّونه الشعب ورسموا عنه وله صوراً مفبركة. لم يصمد من هذا الأدب غير ما أنتجه عمالقة في كلّ شيء كهوغو ودوما الأب، خلّاقان لم يلجآ إلى موضوع الشعب كمَطْهَر يكفّرون به عن خطايا الثراء ولقب «الكونت» وامتيازات الإقطاع. خلّاقان موهوبان في التقمّص وخصبا الخيال. الشعور بالذنب لدى الكونت تولستوي واضح ولا ارتياب بصدقه، لكن الشعور بالذنب، مهما اشتدّ، ليس كافياً وحده لتوليد الطهارة ولا للشفاء من الذنب. اندمْ، الندم نبيل، لكنّه لا يُغني عن الينبوع الداخلي الخبيء الذي هو وحده يتدفّق بالإيمان، سواء كان الإيمان بالله أو الإيمان بأيّ شيء آخر.
البساطة الشعبيّة لا تُتَعلَّم، ولا العفويّة، ولا الوداعة، ولا القناعة. الإيمان لا يُسْتَحْدَث بالحساب ولا بالإرادة. رهانُ باسكال (تعالوا نؤمن فماذا نخسر؟ إنْ كان اللّه موجوداً نربح ثوابه وإنْ لم يكن فلا خسارة) يبعث على الاستخفاف لولا شخص باسكال وعبقريّته ومعاناته. تولستوي نفسه أدرك مأسويّة وضعه حين قال واصفاً أحد أبطاله «ليفاين» الذي هو أكثر انعكاساته الروائيّة تعبيراً عنه: «أشخاص مثل ليفاين، مهما عاشوا مع الشعب، لن يصيروا كالشعب. الإرادة، أيّاً تكن، لا تكفي لتحقيق الرغبة بالنزول إلى الشعب».
■ ■ ■
في مقالة له عن تولستوي، يقول ميخائيل نعيمه، وهو الذي عاش مرحلةً من صباه في روسيا وأحبّ شعبها وتشبَّعَ من أدبها، ما معناه أنّ مشكلةَ تولستوي مع دعوته الإصلاحيّة الثوريّة هي أنّه بدأها متأخّراً، ولو بكّر إليها، كما فعل الناصريّ أو بوذا قبله، لكان حظّه من النجاح أوفر.
يضاف إلى هذه الملاحظة أن المشكلة مع صاحب «سوناتا إلى كرويتزر» هي بالأكثر مشكلته مع نفسه. بين تصديق الذات والشكّ بها. بين الذكاء والوحي. بين الشخصيّة الاجتماعيّة الموروثة والشخصيّة العقليّة المترائية في المثال والقابلة للنقل فقط إلى الورق. بين الأنا النهمة التوسعيّة الهائلة الشاسعة التي لا تنام، والنحن الفارضة نفسها أخلاقيّاً على وجدانه والتي تُعذّبه آلامها كما لو كان هو المسؤول عنها.
يقول ستيفان زفايغ في دراسة مسهبة عن تولستوي إنّ «الأنا الأبديّة تلاقت لديه مع النحن الكونيّة في نفحة واحدة وكلّ لحظة (...) لقد أضحى وجوده، الموثّق (في آثاره ومذكّراته وصوره الفوتوغرافيّة) خطوة خطوة، ملخّصاً للبشريّة نفسها». صحيح، شرط أن نُضمّن هذا الكلام لا مؤلفات الرجل وحدها بل تجربته الكيانيّة كلّها بما فيها وخصوصاً منها الشطر غير المعبَّر عنه ولا الموثَّق. لقد سجّل تولستوي أيّامه وساعاته وأحياناً ثوانيه بأمانة المرآة معطياً شبق الإيغو فيه كلّ مداه، وبصدق، أحياناً مذهل، ولكنْ مهما فعل الشاهد والأوتو شاهد سيظلّ ينقص شهادته مناطق مُعتمة لم يَرَها، لم يلتقطها وعيه، رفض أن يراها، وإنْ لحق بنفسه لحاقَ الظلّ بالأصل.
ما بعد كُتُب تولستوي ودعوته ستبقى حكايةُ هذا الصراع الضاري الذي مزّقه وأطفأ موهبته ليشعل محلّها طريق النضال المباشر. صراعُ أصل يناكف ظلّه وظلّ هازئ يناكف أصله. ضمير يمزّقه الندم على التمثيل. طبيعةٌ تكرهُ تصنّعها وتحاول «تنظيفه». تصنُّعٌ يقول للطبيعة: لولايَ لانفضحَتْ عوراتك! لولاي لمتِّ من الخجل! لو عاش تولستوي اليوم لكان أكبر مصوّر فوتوغرافي وأعظم سيناريست في هوليوود ونجماً ساطعاً بين ممثّليها. لا يضاهيه أحد في هوس التفاصيل، في الكدّ الدؤوب لتقصّي المعالِم، في إعادة العمل خمسَ عشرةَ مرّة لتحسينه. وأهمّ صفاته: لا يوازيه أحد في شعوره بذاته ولا في تعطّش هذه الذات إلى الانسحاق والتكفير عن خطاياها.
دَرْسٌ في التطهُّر والأمانة، التطهّر بلا هوادة والأمانة حتّى الموت. لم يكن تولستوي عبقريّاً ملهماً ورائياً كدوستيوفسكي، ومن سخريات المجانسة ذكْرُ الواحد منهما كلّما ذُكِرَ الآخر. لا علاقةَ بينهما غير الشسوع الروسي وغليان طباع البشر هناك. شسوع الطبيعة وحمّى النفس وبروق الغلوّ. ما عدا هذا كلُّ شيء يُباعد بينهما. دوستيوفسكي غاصَ على مسافات الروح وتولستوي طاف بالأرض وصوَّرَ أحداثها. واحدٌ هو الليل وآخرُ هو في شطره الأوّل نهار وفي الثاني غروب، وصراعه كان دوماً ضدّ الليل. لم يدخله ويكشف كنوزه ويروّضه ويدفع ثمنه كما فعل دوستيوفسكي.
وإذ يحتفل العالم هذا الشهر بالمئويّة الأولى لغياب تولستوي في عامه الثالث والثمانين تُستعادُ رواياته والأفلام السينمائيّة التي استُخرجَتْ منها وتُفْرَد الأعداد الخاصّة من المجلّات لدرس نتاجه والتذكير بمراحل حياته ويكاد المرء لا يمرّ بمحطّة تلفزيونيّة أوروبيّة إلّا يقع على برنامج حوله.
خلافاً للواجب، للمألوف والضروري، كاتب هذه السطور لا يبقى في ذهنه من هذا الروسي الهائل إلّا الصدْع الذي صرعه. النقد يُجمع على كون الأزمة التي أصابت تولستوي في منتصف العمر بدّدت موهبته وحرمت التراث الأدبي العالمي روائعَ كان لا بدّ من أن تتوالى بعد «الحرب والسلم». نحن نعتقد أن أعظم روائعه هو هذا التيهُ الجبّار الذي عصف به، وهذا الشغف المجنون الجريح العاجز بالعدل والحقّ والخير والرحمة والشفقة.
لم يستطع أن يغيّر العالم بأدبه فحاولَ تغييره بلسانه وبلحمه وعظمه. وبقدر ما نرى في هذه المحاولة ذروة الاختناق الإبداعيّ نرى فيها ذروة الاستقالة من المجد اللازمني والارتماء الأعمى في مجرى الحياة اليوميّة، وقد تحوّل الكاتب إلى مصارع من نوع «داود» ضدّ جبّار هو «غوليات» الواقع. في كلّ كاتب خيالُ حالم من هذا النوع. شقاءُ تولستوي أنّ خياله فاض على حدود قلمه، وعظمته أنّه عانق هذا الشقاء بقداسة وحشيّة تعجز عن وصفها العبقريّة حتّى لو كانت في حجم عبقريّة دوستيوفسكي.


عن الأخبار اللبنانية
عدد السبت ١٣ تشرين الثاني ٢٠١٠








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الى الاستاذ الرائد الجليل
غازي احمد الموسوي ( 2010 / 11 / 16 - 21:08 )
الان فقط امسيت وانا على بينة من امري حيال هذه المفارقة البالغة الغرابه التي دشن بها النبيل تولستوي الحركة الثقافية للقرن الماضى؟
واذا كان لمشرطك التحليلي الموثق العميق فضل الانارة الكاشفه فان لاخلاصك
الطافح الجسور فضيلة التنوير الذي يبذل الاجابات المضيئة على كل الاسئلة المتراكمه
واني لاظن ظن الموقن ان السطر الاخير من مقالكم النفيس مفعم بالوصف العبقري الذي يتكفل ضمنيا بالاستلهام والالهام وانتم اهل لذلك قال الرب اشكرتني يا عبدي قال نعم يا ربي .. قال لم تشكرني لانك ما )
(شكرت عبدي0
شكرا.....

اخر الافلام

.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا


.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما




.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في