الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اصفهان: العمارة، وجنائنها المصممة

خالد السلطاني

2010 / 11 / 16
الادب والفن


عندما يذكر منجز العمارة الاسلامية، تحضر ، بامثلتها المعمارية والتخطيطية المميزة، هي التى منحت صفة البهاء المثير للدهشة، الى ذلك المنجز الحصيف، الذي اثرى خطاب الثقافة الانسانية ومشهدها بروائع لا تزال مثار اهتمام كثر، ومجال لقراءات ثانية تستبطن في داخلها مصادر عديدة للايحاء والالهام. و"اصفهان" وفق منظمة اليونسكو، هي ضمن قائمة "المدينة التراث" الواجبة الحفاظ على ارثها المادي وخصوصا المعماري، كارث لمنجز انساني جدير بالاهتمام والتعلم. ولعل كتاب المعمار، والمؤلف والمصور السويسري "فيرنير بلاسير" Werner Blaser المعنون " في حدائق اصفهان"، والصادر حديثا (2010)، في زرويخ بسويسرا، بصوره الفوتغرافية عالية الجودة، واختياراته الموفقة لنماذج بيئتها المبنية، لهو بالواقع ايماءة احترام وتمجيد، لتلك المدينة الساحرة، التى يدعوها الايرانيون بفخر واضح، بانها: "نيمي از جهيان!" اي "نصف الدنيا!" فالنصف الآخر، طبقا لرؤاهم، هو العالم المتبقي ...كله!.
بالطبع ثمة مبالغة كلامية في وصف اصفهان، بتلك الصورة التى تباهي الايرانيون في رسمها لمدينتهم. لكن من غير المبالغ فيه، قيمة المنتج المعماري والعمراني المتحقق في هذه المدينة، هي التى يقسمها نهر "زاينده" الى قسمين، بيد انهما تظلان متصلتين عبر جسورها الرائعة ذات الاشكال المميزة، وعديد النوافع التى تقدمها.
عنما قرر الشاه عباس الاول، ان يتخذ اصفهان عاصمة لمملكته عام 1597، كان ذلك ايذاناً لاضافات عمرانية جد مهمة، وجد مميزة الى نسيج بيئة المدينة العريقة. وهذه الاضافات، هي التى اسست "لاسطورة" ، وجعلتها، نظرا لروائعها واصطفاء مقياسها الضخم غير العادي، قابلة .. للتصديق!. اذ إن ما سوف يشيد طيلة فترة الحكم الصفوي، من نماذج تصميمية فاتنة، شديدة الخصوصية ومتقنة تكوينياً حد الكمال، سيعتبر لاحقا من كنوز العمارة الاسلامية.
يقترن ميدان " نقش جيهان" اقتراناً عضوياً بمدينة اصفهان. اذ من الصعب تصور المدينة من دون هذه المفردة التخطيطية الهامة. فالميدان، في معنى من المعاني، "ايقونة" اصفهان و"اميجها" الحضري. ليس فقط لانه يمتلك ابعادا قياسية لم يكن لها مثيلا في عموم ساحات مدن العالم الآخرى وقتذاك، (تقدر ابعاد شكله الهندسي المنتظم بحوالي 165× 510 مترا)؛ بل وايضاً جراء عديد الانشطة التى يؤديها، مثل الانشطة التجارية والرسمية والدينية والترفيهية. والنشاط الاخير رياضي وتفاعلي في آن، وهو لهذا نشاط حضري بامتياز؛ اسست له "نقش جيهان"، جاعلة منه الفعالية الاكثر حضوراً في فضاء الحاضرة الاسلامية. ويدلل مثل هذا التعاطي مع مهمات التخطيط العمراني للمدينة، على رفاه سكانها وارتفاع مستوى المعيشة فيها. لكن الاهم في دلالة ذلك، يبقى حدث تخصيص حيز ما لفعالية ترفيهية في مدينة قروسطية، الذي اعتبر دوما حالة جديدة في مفردات تخطيط المدن آنذاك. بيد إن واقعة تحديد فضاء فسيح بابعاد قياسية، عدت بالاضافة الى ذلك سابقة لافته ومثيرة واستثنائية. فـ "ميدان نقش جيهان"، وتعني "ساحة صورة العالم"، كان في جزء كبير منه مخصص لممارسة لعبة رياضة "البولو"، واستيعاب عديد مشاهديها، اي انه كان، في الواقع، يقوم بمقام <ملعب رياضي> في مدينة معاصرة!. هذا اضافة بان الميدان كان ايضا فضاءا اثيراً لدى الاصفهانيين وزوارهم لممارسة التمشي والتسوق. "فكتلة " الجدار المحيط به معظمها اسواق ذات دكاكيين بطابقين.
يطل على الميدان من جهته الجنوبية "مسجد امام" < مسجد شاه، سابقا>، المشيد ما بين 1611- 1638 . وترتفع مآذنه الى علو حوالي 42 مترا، في حين يصل ارتفاع قبته الضخمة ذات القرميد الملون الى 52 مترا. انه، وفق رأي كثر من نقاد العمارة، احد الانجازات المميزة في منتج العمارة الاسلامية. وتكتسي طريقة توقيع المسجد ضمن مفردات التخطيط العام لمجمع "نقش جيهان" أهمية خاصة. اذ ثمة انزياح تخطيطي في تسقيط كتل المسجد بمقدار 45 درجة عن الضلع الجنوبي لمستطيل الميدان. (والشئ ذاته سنراه لاحقا عند مسجد الشيخ لطف الله، الواقع ايضا في الجهة الشرقية من الميدان اياه). وهذا الانزياح في مخطط المسجد، وان برر حدوثه لاجل تثبيت اتجاه المحراب نحو الكعبة في مكة، فانه اكسب المبنى مشهدا بانورامياً معبرا، مكنه لان يُرى من جميع نقاط نظر المشاهد الواقف في الميدان. وبهذا الاجراء فقد جمع معماريو المسجد وبناته، مزايا استحقاق تكوينات الصيغة التماثلية وجلالها، مع امكانية اتساع الرؤية المنظورية. وهي حالة اغنت التخطيط المبتدع لريادتها، مسهمة في تفرد عمارة المسجد في عموم الممارسة المعمارية العالمية. ولقد اثار هذا الانزياح كحدث تصميمي مبدع وجاد اهتمام كثر من المعماريين والدارسيين وتحليلهم وقراءتهم له قراءة خاصة. وتحضر هنا محاولة "لويس كان" Lois Kahn المعبرة والمليئة بالدلالات، في تأكيده على انحراف كتلة مبنى المسجد عن الكتل الآخرى، اثناء اشتغاله على تصاميم مفردات التكوين الخاص بمجمع برلمان بنغالادش في دكا (1971). وقد ُقيّم ذلك الاستدعاء، كايماءة احترام شديدة الوضوح لذلك الحل التصميمي الفريد الذي اجترح يوما في اصفهان!.
تغتني اللغة المعمارية لمجمع ميدان" نقش جيهان" بمبنٍ آخر، يقع في الجهة الغربية منه، وهو قصر "عالي قابو" < الباب العالي>، الذي تم تشييده ايضا اثناء الفترة الصفوية. والمبنى مخصص للسكن ولاستقبال السفراء والوفود الرسمية من الدول الآخرى، كما ان شرفته العالية في الطابق الثالث، مكان مفضل للحاكم وضيوفه وحاشيته لرؤية الفعاليات والانشطة المختلفة التى تجرى في الميدان. وصياغة مفردات واجهات المبنى الخارجية، وان بدت ذات اشكال مألوفة وشائعة في منتج العمارة الاسلامية، الا ان اسلوب تجميع تلك المفردات، هو الذي يمنح عمارة المبنى خصوصيتها المميزة. وهذه الخصوصية تتمظهر عبر تعارض فراغي جلي، بين القسم الاعلى المشغول بشرفة مفرغة عالية محمولة باعمدة خشبية دقيقة، وبين القسم الاسفل الصلد "المحفور" في واجهته المطلة على الميدان، بايوان عالٍ وعميق، تحف به من الجهتين شبابيك ذات تربيعات خشبية، هيئآتها التى تعيد رسم شكل عقد الايوان الرئيس المجاور. لكن الامر المثير في عمارة المبنى ليس هنا: ليس في الخارج، وانما في الداخل؛ وخصوصا في داخل احياز الطابق الاعلى: السادس، المسمى "قاعة الموسيقى"؛ والحافل سطوح فضاءاته على رسوم فسيفسائية ملونه، اعتبرت نوعيتها التزيينية وطريقة تنفيذها من ارقى ما وصل اليه الفن الحرفي.
لكننا بالطبع، سوف لن نتوقف كثيرا عند تحليل عمارة هذا المبنى المميز، فطبيعة المقال وهدفه لا يسمحان بتناولها بعمق وبوسع كافيين. بيد اننا نود الاشارة بان قصر "عالي قابو" كان موقـّعا اصلاً على اطراف حدائق مصممة تتكامل مع حدائق جادة "جهار– باغ" الفسيحة؛ هي التى تمتد اربعة كيلو مترات بامتداد مستقيم، من الشمال نحو الجنوب، قاطعة نهر "زاينده رود" بجسر ذي قناطر ومنتهية ببساتين الشاه، حينذاك، الواقعة في اطراف المدينة.
والحدائق الايرانية لها جذور عميقة في التراث الثقافي للبلاد، وقد وصلت ذروة التصميم والكمال ابان الفترة التى نتحدث عنها وهي فترة القرنيين السادس عشر والسابع عشر. لقد كان امر شائعا وجود الحديقة في كل مبنى في اصفهان، حالها حال الكثير من المدن الاسلامية الآخرى. لكن اصفهان، هي من المدن القلائل التى جعلت من ممارسة تصميم الحدائق، ممارسة اثيرة وواجبة في مفردات التخطيط الحضري. ويرى المصممون الايرانيون في فعالية تنظيم الحدائق غايات تتجاوز الوظائف النفعية، لتشمل مرامٍ رمزية، لجهة عكسها تصورات المرء عن الكون او عن الفردوس. ودائما ما تكون الحديقة الايرانية ذات اشكال هندسية منتظمة، تقسم في الغالب الاعم الى اربعة اجزاء، تفصلها (او بالاحرى توحدها) سواقي يبلط قاعها الضحل بآجر ملون، يجرى الماء فيها بتؤدة. و يؤلف ملتقي تلك السواقي قناة طويلة تتمتد الى مسافات طويلة.
ثمة ارتباط متين بين العمارة في اصفهان والفضاءات المصممة المفتوحة. وتعتبر الاخيرة امكنة مفضلة للتأمل والتفكير. ان اشكالها البسيطة تعكس رمزية قيمها الداخلية، ذلك لان البساطة ، كما لاحظ "فيرنير بلاسير" مؤلف الكتاب، ليس قيمة جمالية في الاسلام فحسب، وانما هي سلوك وممارسة. وهذا يقودنا مرة اخرى للتذكير بالكتاب الذي كان باعثا لقراءتنا عمارة وحدائق اصفهان. فالكتاب مبني اساسا على اظهار صور فضاءات المدينة وعمارتها، مع اشارة مقتضبة لاهمية الصور التى التقطها المؤلف، وهي اشارات مهمة ونافعة بالنسبة الى القارئ الاوربي.
لكن اهمية الكتاب الرئيسية ، في اعتقادي، لا تنبع فقط من قيمته الايبستمولوجية، اذ إن تلك الاهمية تستقي ايضاً، من موضوعها: موضوع قبول الآخر المختلف، والاعتراف بمنجزه والتعلم منه، وتأويل المتحقق لاثراء قيم الثقافة التى ينتمي لها الآخر. فالمؤلف السويسري ما انفك يذكرنا باهمية هذا المتحقق ويشير الى خصوصيته. ويرى، وهو على حق، امكانية الاستفادة المهنية والمعرفية منه. بعبارة آخرى، يسعى "فيرنير بلاسير" وراء ترسيخ حوار ثقافي جدي ونافع، (يراه ضرورياً ايضاً) من خلال كتابه. فهو ينأى بنفسه عن التشبث بـ "ثقافة" الاقصاء، او الاحتماء في "تمركزات" تغذيها مرويات التعالي والتمايز. من هنا مقدرته المعرفية الكاملة وحتى .. الشجاعة في رؤية الحدث المعماري والتخطيطي بموضوعية، متجاوزا،ً طوعاً، خطاب الاوهام عن "الآخر" الموسوم دوما بالدنس والدونية، تلك الاوهام التى سوف تأسس، كما يخبرنا الفيلسوف المغربي عبد السلام بنعبد العالي، لترهات وحماقات وكثير من لامعقول!. وباختصار، فان ما يقدمه المعمار السويسري، عبر مضمون كتابه الشيق، من مقاربات مفاهيمية، جديرة بالدرس والتأمل، في ضوء ماهو شائع في منطقتنا من "اوهام" (بمعناها الايديولوجي)، المنشطة لاطروحة تغليب الجزء على الكل، ما وضعنا في الكثير من الاحوال، في مأزق حضاري حقيقي، افقدنا فرص عديدة للتعلم وتراكم الخبر من نتاجات الآخر المختلف. ومثال منجز اصفهان المعماري والتخطيطي، وما يرافقه من اجراءات التعتيم والانكار الشائعة في الخطاب العربي، وخصوصا المحلي، مرده المفاهيم الالغائية والتحصن في "تمركزات" متوهمة، هي في الحقيقة تعبير عن غلبة السياسي على الثقافي ، وهي بالتالي تنويع لمقاربة تغليب الجزء على الكل، غير العقلانية وغير المفيدة.. اصلاً!. □□
(*) استفدنا في كتابة هذا المقال، من دراسة سابقة لنا، عن عمارة <مسجد امام>.

د. خالد السلطاني
مدرسة العمارة/ الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل