الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مستشفى بدون طبيب

خالد غميرو

2010 / 11 / 18
الادب والفن



كنت من الأوائل الذين وصلوا إلى المستشفى العمومي لأقابل الطبيب، لم يكن حينها سوى أربعة أشخاص أثو قبلي، كانت الساعة تشير إلى الثامنة صباحا ولم يكن أحد في المستشفى سوى الحارس وهو الذي فتح لنا الباب لندخل إلى الباحة التي وضعت فيه بعض الكراسي البلاستيكية والخشبية، كانت هذه الباحة واسعة وجدرانها وأرضيتها بيضاء تملئها رائحة غريبة تبعت في نقسك شعورا بالاختناق. اتخذت مكانا بعيدا شيئا ما عن المرضى الآخرين الذين جلسوا متقاربين فيما بينهم ليكملوا الحديث الذي كانوا قد بدؤه في الخارج قبل أن ندخل إلى باحة الانتظار، أما أنا فلم يكن لي رغبة في الحديث مع أحد أردت فقط أن أجلس منزويا لوحدي أتطلع إليهم وهم يتحدثون.
لم يمر الكثير من الوقت حتى أتت الممرضة وهي تحمل في يدها دفترا وبعض الأوراق البيضاء، ألقت علينا نظرتا سريعة ثم وضعت أغراضها فوق المكتب الذي كان بالقرب من غرفة الطبيب، بدت و كأنها نست شيئا ما فعادت من حيث أتت، لكن غيابها لم يطل فسرعان ما عادت وهي تحمل في يدها كرسيا وضعته خلف المكتب.
هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها ممرضة، لكنها لم تكن كتلك التي نراها في التلفاز والتي يسمونها ملاك الرحمة فهي لا تشبه الواقع أبدا. كان الكل يحدق فيها باستمرار منذ أن اتخذت مكانها خلف المكتب منتظرين منها أن تقول شيئا عن موعد قدوم الطبيب لكنها لم تبدي أي اهتمام بنا، كان كل انتباهها عل الأوراق البيضاء التي بدأت تقطعها إلى قطع صغيرة.
لفت انتباهي ذلك الملصق عل الحائط وهو الملصق الوحيد الذي كان في الباحة وقد كتب فيه مستشفى بدون تدخين، إنه شيء يبعث على السخرية فعلا، كان من الأجدر بهم أن يستبدلوا كلمة تدخين بكلمة طبيب، فالكثير من الناس يدخنون و يعيشون طويلا لكنهم يموتون في قاعة انتظار الطبيب...أفزعتني الممرضة وهي تنادي أخيرا عل المرضى لكي يسجلوا أسماءهم في اللائحة، وكان حينها قد زاد عدد المرضى لكني لم الحظ دخولهم.
وقفنا جميعا أمام مكتبها فرفعت نظرها إلينا و نظرت إلى الجميع نظرتا سريعة ثم قالت: ـ من أتى أولا؟ فأجابها رجل عجوز: ـ أنا
ـ ما هو اسمك؟
ـ إبراهيم
ـ أين تسكن؟
ـ في ودكه *
ـ حسنا خد هذه الورقة و اجلس مكانك حتى أنادي عليك .
وبنفس الطريقة الآلية سألت الثاني و الثالث والرابع الذي كان أنا. ناولتني الورقة الصغيرة فعدت إلى مكاني فبل أن تنطق بجملتها الأخيرة موفرا عليها شيئا من الطاقة، لكنها رغم ذلك قالتها و كأنها برمجت لكي تقولها .
ـ " خد هذه الورقة و عد إلى مكانك حتى أنادي عليك." فعدت لأجلس لكن هذه المرة على كرسي خشبي غير بعيد عن غرفة الطبيب.
لم يمر الكثير من الوقت حتى بدأ الناس يتوافدون بكثرة على قاعة الانتظار حتى أصبحت ممتلئتا عن آخرها، الكل ينتظر الطبيب لكنه لم يأتي بعد و لقد أصبح المكان هنا لا يطاق ، ضجيج لا يحتمل الجميع يتحدث بصوت مرتفع إلى من بجانبه، لا اعلم كيف يستطيعون سماع بعضهم البعض هكذا راودتني رغبة في أن أصرخ في وجوههم كي يصمتوا لكن ياليتني أستطيع، أخاف أن يتهمونني بالجنون فكل من يقوم بأمر غريب عنهم حتى ولو كان صائبا يتهمونه بالجنون.
لقد أخد الملل يتسلل إلي فأنا لا أحب الانتظار كثيرا، فكرت أن أعدل عن رؤية الطبيب وذهاب إلى المقهى لشرب فنجان من القهوة، لكن هذا المرض اللعين هو من يجعلني أصبر على الانتظار.
*************************************

كم الساعة الآن يا بني، سألني رجل عجوز كان يجلس إلى يميني، إنها العاشرة والنصف، فقال متذمرا: لقد تأخر الطبيب كثيرا لقد مر على الوقت الذي يجب أن يحضر فيه ساعتان، هكذا هم من( يتحكمون في أرواحنا) في هذا البلد لا يعرفون معنى المسؤولية ولا يهمهم إن متنا، ربما يتلددون وهم يروننا نموت. فقلت وأنا غير مقتنع بما قلته اصبر يا عمي (فإن الله مع الصابرين)، فنظر علي باستغراب فقال وهو لا يزال مثبتا نضرته في وجهي : لكن غالبا ما ينتهي بهم الأمر في القبور، ثم طأطأ رأسه وكأنه أصيب بخيبة أمل كبيرة حينها سرت في نفسي موجة من الغضب و السخط لدرجة أنني قمت من مكاني متجها نحو الممرضة لأصرخ في وجهها أسألها عن هذا الطبيب الغائب؟ وهل سيأتي أم لا؟ لكن قبل أن أصل إليها نهضت من مكانها وأخرجت مفاتيح من جيبها لتفتح باب غرفة الطبيب ..لقد حضر الطبيب أخيرا، دخل إلى مكتبه وهو غير مكترث بمن في القاعة ثم أغلق الباب، حينها فقط كف الناس عن التحدث وعم هدوء في القاعة الكل يتطلع إلى مكتب الطبيب ثم إلى الممرضة التي عادت إلى مكتبها لتنادي على أول مريض كي يدخل إلى الطبيب، أما أنا فبقيت متسمرا في مكاني لا أعرف مادا افعل، أحسست و كأنني في ورطة وتحول الغضب الذي بداخلي إلى خجل رغم أن من في القاعة لم يلحظوا نهوضي المفاجئ من مكاني فأعينهم كلها كانت متجهة إلى الباب حتى العجوز الذي كان جالسا بالقرب مني لم يلحظ ذلك، حاولت أن أعود إلى الكرسي لكن قدماي لم تأبيان أن تطاوعاني كأنهما أصيبتا بشلل، لم يخرجني من هذا الموقف سوى صوت الممرضة وهي تنادي على اسمي فاتجهت إليها بسرعة وبدون تفكير ووقفت أمام مكتبها وقلت : نعم؟ فقالت : اجلس هنا قرب المكتب فدورك سيأتي بعد قليل. فجلست بطريقة آلية على الكرسي الخشبي أمام الباب منتظرا أن تأذن لي بالدخول.
نظرت إلى الساعة فإذا بها الحادي عشرة ونصف، يالها من مهزلة ثلاثة ساعات من الانتظار ولازلت لم أرى الطبيب لحد الآن لقد سأمت هذه الحالة ولم اعد أطيق الجلوس في هذا المكان مزيدا من الوقت أريد فقط الخروج من هنا، تبا لهذا المرض اللعين الذي جعلني أقف هذا الموقف وتبا للطبيب والممرضة معا.
إنها الساعة الثانية عشر ولم يقابل الطبيب سوى شخصان فقط، ولقد بدأت حرارة المكان ترتفع بفعل الازدحام، كل هذه المدة ولم يقابل الطبيب سوى شخصان ولا أعلم كيف سيرى هذه الحشود من الناس طبيب واحد في نفس اليوم، ولا أدري هل سيكشف علينا أم لا؟ يالها من مهزلة طبيب واحد مقابلة كل هذه الحشود.
كانت تجلس بجانبي امرأة عجوز بالكاد تستطيع التنفس، أسمع حركة تنفسها البطيء بوضوح كأنها تحتضر، كانت تضع بجانبها عصا أضنها تستعملها كعكاز، لم تكن ملامحها واضحة من كثرت التجاعيد التي ملأته ، وكانت عينيها شبه مغمضتين وغائرتين وشفتاها في حركة مستمرة وكأنها تتمتم مع نفسها، لقد بدت وكأنها تتحدث مع الموت الذي يتربص بها وكأنها تقول له إنها لازالت متشتتا بالحياة ولا تريد أن تتركها وغالبا هذا ما جعلها تأتي إلى هذه المستشفى، أو ربما الموت هو الذي لا يريدها كأنه يقول لقد مللت من العجائز وأريد فتيان وفتيات أستمتع بالقبض على أنفاسهم...
عادت الممرضة لتخرجني من الأفكار التي تتزاحم علي كلما لذت على الصمت، نادت على اسمي بصوت مرتفع وقالت لي تفضل لقد حان دورك، وأخيرا سأرى الطبيب أنني غير مصدق، ترى كيف يبدوا؟ فتحت الممرضة الباب فوجدت نفسي وجها لوجه مع الطبيب، كان كهلا على وجهه الأسمر شارب أشعت يرتدي نظارة صغيرة نزلت قليلا على انفه وكان يجلس وراء مكتبه الصغير الذي تراكمت عليه بعض علب الأدوية وبعض الأوراق. سألني وهو ينظر إلي من تحت نضارته.
ـ من ماذا تشكوا؟
أربكني السؤال وأجبته متوترا: أني مصاب بحكة مزمنة لا أعرف...فقاطعني قبل أن أكمل كلامي بإشارة من يده، وامسك بقلم وكتب على ورقة صغير بضع أحرف بالفرنسية وناولني إياها وقال: إدهب إلى صيدلة المستشفى وأنضر إن كان هناك من دواء.
أخدت الورقة وخرجت وأنا أشتعل غضبا من هذا الطبيب ونادما على تلك الساعات التي قضيته في انتظاره. خرجت من غرفة الطبيب واتجهت مباشرة إلى الملصق وأخرجت قلما من مخفضتي وشطبت على كلمة تدخين وكتبت مكانها طبيب، ثم رميت ورقة الدواء ونضرات الناس تتابعني إلى أن خرجت من الباب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - سرد كاشف للزيف
محمد نور الدين بن خديجة ( 2010 / 11 / 20 - 19:02 )
تخية للرفيق والصديق خالد غميرو



ها انا أكتشفك قصاصا واعدا يجيد تسليط الضوء على الزوايا المنسية..ويكشف عن المرارة والقرف داخل احزمة وأزقة القهر...وكما عهدتك تختار الكلمات المؤرقة المنبعتة بالشجن لالحان قيثارتك .ها انت تفاجئني ساردا لمآسينا التي يعمل دعاة العهد الجديد على تلميع وتمييع وتزييف صور القهر والاستغلال والتهميش الفضيع الذي يعاني منه الشعب المغربي.
تخيتي لك مجددا..مع التقائنا بك على درب الابداع الملتزم والجاد
محمد نور الدين بن خديجة

اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا