الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-مرحبا-:حلم المهاجر الغارق في البحر الأوروبي

محمود عبد الرحيم

2010 / 11 / 19
الادب والفن


الفيلم الأبرز في بانوراما السينما الأوروبية
"مرحبا": حلم المهاجر الغارق في البحر الأوروبي


*محمود عبد الرحيم:
يمكن إعتبار مهرجان"بانوراما السينما الأوروبية" الذي اختتم فعالياته قبل أسبوع بالقاهرة، بمثابة نافذة واسعة على رؤى فكرية وجمالية جديرة بالإهتمام، كونها تحمل سمت التنوع والجدة والجاذبية.
ولا تتوقف ميزة هذا المهرجان عند المتعة الفنية المتحققة، أو حتى رؤية سينما مختلفة تكسر احتكار الفيلم الأمريكي، أو المصري الأقل قيمة فكريا وفنيا في معظمه، بل تمتد إلى ما هو أبعد، من قبيل مد جسور التواصل الثقافي بين المصريين والجار الأوروبي، خاصة في هذا التوقيت الذي يشهد توترات بين ضفتي المتوسط، وإرتفاعا لنبرة التشكك ورواج خطاب العنصرية، وإستدعاء الموروث الاستعماري.
وما لا يجب إغفاله إجتذاب هذا المهرجان لفئة الشباب، وعدم إهمال حتى طلبة المدارس والوصول إليهم عبر شبكات التواصل الأجتماعية الحديثة ك"الفيسبوك"، بل وتخصيص تذاكر مجانية للمهتمين بهذه الوجبة الأوروبية الدسمة والمختلفة، وإن كنا نأمل أن يتم إتاحة المهرجان للجميع بالمجان، وأن تكون فعاليته في قاعات عديدة في أكثر من مكان، وليس الاقتصار فقط على قاعتي سينما تجاريتين، حتى تكون الإستفادة أكبر، لأن ثمة ما هو أهم من العائد المادي لمثل هذه المهرجانات ذات الطبيعة الثقافية.
ولا شك أن مثل هذا المهرجان كان أشبه فعليا ببانوراما تقربنا من الذهنية الأوروبية
، ومرآة عاكسة بدرجة كبيرة لأسئلة اللحظة الراهنة وتفاصيل الواقع اليومي والهواجس المتصاعدة، سواء ما يخص قضايا الساعة ك"الهجرة غير الشرعية"، أو "صراع الهوية"، ما بين الخطاب العنصري وأزمة الدمج، وما بين موروثات الماضي وواقع جديد بقيم حضارية مختلفة تبدو صادمة على الوافد الجديد.
إلى جانب تسليط الأضواء على الهم الشخصي، وليس طرح القضايا الكبري فحسب، من قبيل أزمة التحقق الإنساني في ظل عالم رأسمالي يجعل الفرد مجرد ترس صغير في آلة كبيرة، ويبدو كما لو كان يتحرك وفق برنامج تشغيل الكتروني ك"الريبوتات" بلا حياة روحية تخرجه من سجن الماديات، ومن اللهاث المُنهك للروح قبل الجسد، من الصباح حتى المساء، وسط احساس بالوحدة والسأم والخواء.
وأريد أن اتوقف عند أحد الأفلام المهمة الذي يعد الأبرز في هذا المهرجان، ألا وهو فيلم "مرحبا" للمخرج الفرنسي فيليب ليوريه الذي ينتمي لموجة "أفلام المهاجرين" التى زادت مساحتها خلال السنوات الأخيرة، والعاكسة لحجم هذه المشكلة، وما تمثله من قلق واسع للأوروبيين.
وينهض الفيلم ذو الحس المأساوي على تيمة الطموح الذي يودي بحياة الإنسان، حين تسيطر عليه الأحلام الكبرى، فيصطدم بواقع شديد القسوة، يضع أمامه ألف عائق وعائق، حتى ينتهي به المقام صريع حلمه الموؤد.
فهذا الشاب الكردي الصغير هاجر وراء حلمه بالشهرة والمال، ظنا منه أن الوصول إليهما يسير، بمجرد أن يطئ بقدميه لندن ويلتحق بنادي"مانشستر يونايتد" العريق، إلى جانب أن ثمة محرضا آخر على هذه المغامرة المميتة، وهو الوصول إلى حبيبته المقيمة هناك.
وثمة خط درامي مواز يتمثل في مدرب السباحة الذي يمر بأزمة عاطفية، ويبدو مضطربا نفسيا جراء انفصاله عن زوجته.
ويلتقي الخطان معا، حين يقرر الشاب الكردي تلقي دروسا في السباحة، ليتمكن من الوصول لبريطانيا عابرا المانش، ويرى الفرنسي في الشاب اصرارا وعزيمة يفتقدها وتذكره بشبابه وسعيه ليكون بطلا رياضيا، فيحدث التعويض النفسي والتعاطف، لدرجة استضافة المهاجر غير الشرعي في بيته.
ورغم الاحساس بدرجة من الملل نتيجة بطء الإيقاع في بعض مواضع الفيلم، إلا أن مشاهد البداية، ومشاهد الختام تحديدا، كانت في غاية القوة والإحترافية والوهج الفني، إذ أستهل المخرج فيلمه بلقطات تعريفية أدخلتنا تباعا وبإيقاع لاهث في الجو النفسي للعمل، بدءا من لقطة متوسطة لفتاة في مطبخ تبدو من ملامحها أنها غير أوروبية ونعرف لاحقا أنها محبوبة الشاب الكردي، ثم لقطة طويلة لمجموعة من الشباب في ميناء أو نقطة تجميع للاجئين غير شرعيين، وصولا إلى مجموعة من اللقطات الصادمة التى تشكل أحد أقوى المشاهد الدالة، والتى تتنوع بين اللقطات المتوسطة و"الكلوز آب"، لشباب يقومون بمحاولة هروب في شاحنات، متنقلين من شاحنة لأخرى، ويرتدون أكياس من البلاستيك لكتم أنفاسهم حتى يتفادون الماجسات التى يستخدمها رجال التفتيش على الحدود، بل يضطر بعضهم أن يضربوا بعنف من يخالف هذه التعليمات حتى الموت، وفي النهاية ينكشف أمرهم وتلاحقهم الكلاب البوليسية بشكل مهين، ويتم إعتقالهم ووضعهم في معسكر لجوء في غاية القذارة واللا آدمية.
ولا تقل قوة ودلالة عن هذا المشهد، مشهد الشاب حين يقرر عبور "المانش" الذي يمثل ذروة هذا الفيلم، وبه أقصى درجات التوتر والتشويق والاثارة، إذ نرى الشاب يقاوم الأمواج المتلاطمة في لقطة طويلة نكاد لا نتبين ملامحه، ثم لقطة"كلوزآب"، فاللعب بحركة الكاميرا "زووم ان" و"زووم اوت" لخلق ايقاع للمشهد، ثم تزداد اللحظة الدرامية توترا مع اقتراب البطل من الشواطئ البريطانية التى تبدو على مرمى البصر، وظهور زوراق خفر السواحل الذي يقطع عليه وعلى الشاب بالتوازي، ثم لقطة "كلوز آب" للمهاجر ويبدو عليه الإنهاك، لكن مع مطاردة خفر السواحل يزداد تحديا وإصرارا، ويواصل العوم بسرعة أعلى، بل ويقوم بالغطس تحت الماء، حتى ينتهي أمره.
وثمة لقطات دالة، مثل اللقطة التى أستعرض فيها المخرج معسكر اللجوء، وركز فيها على العدد الضخم من المهاجرين غير الشرعيين من جنسيات مختلفة، بملابس رثة، ورصد السلوك العشوائي العنيف السائد بينهم، في نبرة انتقادية مبطنة.
إلى جانب لقطة رفض عمال أفارقة دخول المهاجرين غير الشرعيين لمتجر، فيما دافع عنهما فرنسيون، وكأن تهمة العنصرية التى يُوصم بها الأوربييون، ليست حكرا عليهم لأن الجميع يمارسها حتى من جاءوا من الجنوب.
ويبدو بناء شخصية المواطن الفرنسي دالا أيضا، فقد تم اختيار الشخص المتعاطف يمر بأزمة نفسية، ما يعني أنه ليس في حالة تسمح له بإتخاذ القرار السليم، ومن طرف خفي يبدو كما لو كان المخرج يريد أن يؤكد أن قبول المهاجر غير الشرعي ومساعدته، مسألة مرفوضة، وهذا المعنى تأكد في احتجاج الجيران على هذا الوضع، بل وطلب الشرطة.
بل أن تركيز المخرج بالكاميرا على الأشياء التى وُجدت مع جثة الشاب، ومنها الخاتم و الميدالية الخاصة بالمدرب، تظهر الشاب كسارق، وكأن يريد أن يقول بشكل ضمني أنه رغم التعاطف مع هؤلاء فإنهم كذابون ولديهم ميول إجرامية، ويريدون أن يأخذوا اشياء على غير إرادتنا، إذ أعطى المدرب للشاب خاتم زواجه، فأخذه ثم سرق الميدالية أيضا.
ويبدو خاتم الزواج ذا دلالة رمزية، إذ يشي بالعلاقة المستمرة الحميمية التى ترتب حقوقا والتزامات ك"المواطنة"، وهى أشياء لا يستحقها كل عابر، لذا نرى المدرب في الأخير حين يذهب للقاء حبيبة المهاجر الكردي لإعطائها الخاتم ترفضه، لأنه لا معنى له في حد ذاته في غياب الشريك، فيسترد الخاتم، ويتصل بطليقته ليرد لها الخاتم ويستأنفا علاقتهما الصحية، وليس علاقة الأوهام غير المؤسسة على معطيات الواقع، لذا نرى المخرج ينهي فيلمه بالقطع المتوازي على وجه المدرب الفرنسي، وعلى شاب صغير في حمام السباحة، ثم على تليفزيون في مقهى به مباراة كرة قدم
ولقطة مقربة للاعب كرة شهير غير أوروبي في نادي"مانشستر يونايتد"، حيث كان الشاب الكردي يحلم أن يصل لما وصل إليه، لكنها أحلام الثروة والشهرة التى تراود شباب الجنوب، والمغامرة غير المحسوبة التى ستتواصل، رغم كل المآسي والمصير القاسي.
ويبدو كذلك لقاء المدرب بالفتاة التى هاجر من أجلها الشاب الكردي وقضى نحبه في سبيلها، كما لو كان نوعا من اللوم والإدانة وتحميل المهاجرين السابقين المتمتعين بالجنسية الأوروبية، المسئولية عن قدوم وافدين جدد، فيما عودة الفرنسي إلى زوجته بعد كل هذه الأحداث المفجعة، دلالة على التوحد في مواجهة الخطر.
حتى العنوان ذاته مراوغا حاملا دلالة عكسية للمعنى المباشر، تتمثل في الرفض لا القبول بالمهاجرين، وتتجسد بشكل فنى في لقطة"كلوز آب" للدواسة التى أمام باب شقة المدرب، ما يعني أن عبارة الترحيب "مرحبا" في حقيقة الأمر، فقدت معناها بعد أن تم دهسها بالأحذية، وصرت الهواجس من الغرباء بديلا عن التسامح الذي كان.
*كاتب صحفي وناقد مصري
Email:[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-